مايكل هانيكه: شبح مخيف يحلق فوق أوروبا
مثلما عبر «البيان الشيوعي» الذي كتبه الرفيقان «ماركس» و«أنجلز» عن تفاؤله بمستقبل أوروبا، واصفًا الشيوعية بالشبح المحلق فوقها، يأتي بعد عقود طويلة المخرج النمساوي «مايكل هانيكه» معبرًا عن أشباح أخرى تحلق فوق القارة العجوز، ولكن هذه المرة ليست أشباحًا متفائلة، بل أشباح سنوات من الاستعمار والحروب العالمية والفاشيات والعنصرية ضد المهاجرين والفساد الأخلاقي.
هانيكه خرج من قلب أوروبا النابض، ليعبر عن الجانب المقلق والمخيف في مجتمعاتها. ومن المفارقة أن عددًا من محبي سينماه لا يعلمون جنسيته الأصلية، فالبعض يذكره كنمساوي، وآخرون كألماني، بينما من لم يهتم بمعرفة معلومات كثيرة عنه سيقول إنه فرنسي، نظرًا للغة ومكان حدوث أغلب أفلامه. فهو ابن لثلاث دول أوروبية مهمة، فجنسيته نمساوية مثل والدته، ولكن أباه ألماني، وأغلب أفلامه ناطقة بالفرنسية.
صورة مايكل هانيكه عنيفة وتأملية، يكشف من خلالها الفساد الأخلاقي والسلبية المستشرية لدى مواطني القارة العجوز. ينزع الغطاء عن ادعاء التحضر والإنسانية. في فيلم «Cache» يظهر الوجه السيئ لـ«جورجس» تدريجيًا عندما يتملكه الشك ويلاحقه الماضي من خلال شرائط الفيديو التي ترسل له من قبل مجهول. ويهدد «ماجد» اللاجئ الجزائري الذي عاش فقيرًا بسبب قتل السلطات الفرنسية لوالديه، ثم كذبة جورجس في الطفولة التي دفعت أبويه لطرد ماجد بعد تبنيهما له. Cache فيلم عن خطيئة الاستعمار وتجاوز أزماته الأخلاقية دون تكفير أو علاج لنتائجه التي ستظل تلاحق كل معاصريه.
ولكن هانيكه لا يتحدث عن القضايا بشكل مباشر، إنه يرفض المباشرة، بل يتحدث عن أصدائها، مثلما فعل في فيلم «The White Ribbon» الذي لم يتطرق للفاشية وعنف الحرب بشكل مباشر، بل من خلال حكاية عن قرية مليئة بالحوادث غير المفسرة، ومجتمع فظ يمارس العنف ضد الأطفال. إنه يدفع المشاهد لسؤال كيف ولدت جذور الفاشية في المجتمع الألماني؟ وستعلم أن هذه الجذور ستؤدي لتلك الكارثة الكونية المسماة الحرب العالمية. كما يعرض حالة التنميط والميكنة لأبناء الطبقة البرجوازية في فيلم «The Piano Teacher»، فالبطلة يُمارس عليها ضغوطات تصل لدرجة الضرب من أمها لكي تصبح ما يجب أن يكونه المواطن الأوروبي؛ منضبطًا، مثقفًا، يعزف البيانو، فالبيانو مهنة النبلاء.
السلبية عند هانيكه
حياة شخصيات هانيكه توصف بالسلبية، بعضهم يقوم بفعل مقاوم ضدها، والبعض يستمر في سلبيته. في فيلم «القارة السابعة»، والذي يعرض في بدايته مشاهد للحياة النمطية، المملة، المميكنة للأسرة الصغيرة، ثم قرارهم بالانتحار الجماعي. وفي فيلم The Piano Teacher تقوم معلمة البيانو المنسحقة تمامًا أمام رغبات والدتها ومجتمعها بالتمرد من خلال رغباتها الجنسية المازوخية وميلها للممارسة الجنسية العنيفة مع تلميذها المراهق. وفي مشهد عنيف للغاية، تقاوم المعلمة شعورها الكامل بالانسحاق بجرح عضوها الأنثوي والانتشاء بالألم. مازوخيتها العنيفة ومحاولة إغراء المراهق بالممارسة الجنسية معها. كلها أشكال للتمرد على التنميط الكامل لحياتها، فهذه الأفعال الجنسية غير مقبولة في المجتمع أو الأسرة الأوروبية السليمة.
وعلى العكس تمامًا يتخذ سكان القرية في The White Ribbon موقفًا سلبيًا كاملًا، فهم لا يقومون بأي رد فعل على الحوادث الغريبة. بل يقوم أحد فلاحي القرية بالانتحار لعجزه عن الثأر لزوجته، أو مجرد البحث البسيط عن أسباب قتلها، وكانت قد ﻻقت حتفها في إحدى تلك الحوادث.
وتقوم البطلة في«Time Of Wolf» بدور الشاهد، وتتعامل بسلبية كاملة أمام الأحداث المريعة المفاجئة، بداية من مقتل زوجها في أول الفيلم. وفي فيلم «Amour» يستسلم الزوجان للمرض وحتمية الموت ونهاية قصة الحب بتلك الطريقة العبثية.
تظهر تلك السلبية في فيلم Happy End، والذي يقوم بناؤه على عرض تلك الحياة النمطية للأسر البرجوازية الفرنسية، دون وجود حبكة رئيسية، أو حدث بطل يجمع خيوط القصة. وبالتدريج نكتشف من أنفسنا الهشاشة التي تعانيها تلك الطبقة وانحلالها ومواقفها الأخلاقية المتخاذلة.
الأطفال عند هانيكه
إذا كان أبطال هانيكه يتصفون بالسلبية، فعلى العكس تمامًا يكون الأطفال في أفلامه غاية في الإيجابية. فجميعهم يقوم بفعل إيجابي، ولا يقصد بالفعل الإيجابي بأنه فعل الخير، بل ربما يكون فعلًا غير سوي، ولكنه يغير من/يتحدى نمطية وسلبية الحياة، ويكون على الأغلب كاشفًا ونذيرًا للمستقبل المظلم أو العكس.
الأطفال في The White Ribbon، والذي يفهم من سياق الفيلم أنهم هم المسئولون عن كل الحوادث الغريبة الشريرة التي تجتاح القرية، هؤلاء الأطفال هم جنود النازية في المستقبل. وفي فيلم Cache وفي المشهد الأخير الذي يصور خروج التلاميذ من مدرستهم، نجد علاقة صداقة بين ابني ماجد وجورجس، وكأنها نبوءة أو تمنٍ بأن يتجاوز الأطفال لعنات ماضي الاستعمار.
أما في بداية فيلم Happy End فتقوم البنت الصغيرة بتسميم والدتها التي تهملها وتعاملها بقسوة وجفاف. وسط شخصيات تحتلها السلبية بالكامل تقوم هذه الطفلة بكل الأفعال الإيجابية بداية من تسميم والدتها، وكشف انحلال والدها الأخلاقي وخيانته لزوجته، ثم مساعدتها لجدها العجوز على تنفيذ رغبته في إنهاء حياته.
ولكن كل هذه الأفعال العنيفة من جانب الطفلة، هل تمثل نذير شؤم كما في حالة أطفال The White Ribbon؟ أم هي نذير لثورة على كل تلك النمطية التي تحولت لهشاشة وانحلال في مجتمعها؟ ذلك السؤال لم يجبه هانيكه ويترك إجابته لتأملنا.
التأملية بديل للحبكة
مثل إيجابية الأطفال في أفلامه يترك هانيكه مساحات للمشاهد للتفاعل مع فيلمه إيجابيًا. يرى أن تقديم الحلول والإجابات اليقينية للمشاهد يعد استخفافًا بعقله، ويفضل ترك مساحات للتأمل. ففي فيلم «Funny Game» يقوم البطل بكسر الحائط الرابع ويقول للمشاهد «لا تنتظر الحبكة»، فالأمر بسيط؛ أسرة يهجم عليها قاتلان ويقيدانهم. لا تنتظر شيئًا مفاجئًا ينقذهم مثل ما يحدث في أفلام هوليود. سيقتلون في النهاية، انس النهاية، فقط ركز في المشاعر المنعكسة في كل مشهد، تأمل في الحالة العبثية التي يطرحها الفيلم، والتي تعتبر انعكاسًا للميل الفوضوي الذي يحكم العالم مؤخرًا.
ويعتبر هانيكه التركيز على معرفة شخصية مرسل شرائط الفيديو في فيلم Cache بمثابة كسل عقلي. فلا يهم من هو، وليكن الرب نفسه. ولكن الأهم هو التأمل في القضية الأساسية والمأزق الأخلاقي الذي يقع فيه جورجس. وكما ذكرنا عن فيلم The White Ribbon فمساحات التأمل عن نمط معيشة سكان القرية وسلوكهم تجاه الأطفال وتجاه بعضهم البعض، يعطي إجابة وافية عن كيف نشأت الحركة النازية في المجتمع الألماني.
يدعم هانيكه التأملية بصورته المحايدة الشهيرة، فهو لا يعتمد على لقطات مقربة Close-Up للتورط مع مشاعر الشخصيات. ولا يعتمد على الكاميرا المحمولة Hand Held لعكس حالة الشر والتوتر وملاحقة التفاصيل الصغيرة. ولا تتحرك كاميراه بحركة منتظمة للتركيز على حدث ما. دائمًا تبدأ الكاميرا في نفس الموقع ولا تتحرك حتى الوصول للقطع المونتاجي الذي يليه.
وعلى الأغلب تكون المشاهد بزاوية Long Shot. فرؤية المُشاهد للأحداث بالكادر الواسع تعطيه مساحة للتأمل وتكوين وجهة نظر دون انتماء للشخصيات. ولا يطمح هانيكه لتكوين وجهة نظر منحازة بشكل كامل مع أحد وضد الآخر، بل هو انحياز جزئي. ويحاول توجيه التحيز الأكبر ضد الوضع المجتمعي العام غير العادل، والذي يعتبر أبطاله انعكاسًا لهذا الوضع. أو التأمل في تساؤل وجودي عن الحياة والموت والحب والمرض كما في Amour.
لا يمكن وصف هانيكه بالعدمي السلبي مثل الكثير من الأوروبيين الذين تسيطر عليهم أفكار/حالة/مشاعر ما بعد الحداثة. بل يحاول القيام بفعل إيجابي من خلال أفلامه التي يحسبها الكثير من المشاهدين أفلامًا شريرة أو قاسية. فهو يلعب دور زرقاء اليمامة التي تتنبأ بالأشباح المخيفة المحلقة حول أوروبا. وقد يكون فيلم من ساعتين ونيف لا يجيب عن الأسئلة بقدر ما يستعرض حالة أو مأزقًا أخلاقيًا يكون هو النذير من مستقبل مخيف.