المكسيك: المعاناة تحت حكم كارتيلات المخدرات
مجموعة الأفعال أو العمليات الإجرامية التي تقوم بها جماعة تتألف من ثلاثة أشخاص فأكثر. تكون تلك الأفعال منظمة، ومرتكبة خلال حيز زمني متصل وطويل. والهدف منها هو جني منافع مادية مباشرة وغير مباشرة. الكلمات السابقة هي تعريف الأمم المتحدة للجريمة المنظمة، وأصدرت الأمم المتحدة ميثاقها عام 2002 لمحاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود. لكن ما لم تقله الأمم المتحدة، إن الجريمة المنظمة يمكن أن تصبح مهيمنة في بلد لدرجة أن تتحكم في دولة ما، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثل المكسيك.
المكسيك نموذج جليّ للدولة ذات الإمكانيات الضخمة، لكن مشاكلها أضخم. فهي دولة نفطية كبرى، وبها قطاع زراعي ضخم. ونظريًا يمكن للمكسيك أن تكون واحدة من أقوى الاقتصادات الصاعدة في العالم، كونها قريبة من الولايات المتحدة الأمريكية، وبها تنوع جغرافي وسكاني كبير. لكن في المكسيك أيضًا يمكن للعصابات التحكم في سياسات الدولة، ووضع البلاد في حالة جمود لعقود، فلا تتقدم الدولة ولا تنهار كذلك.
يتحكم رجال الكارتيلات الكبار في توجهات الدولة عبر حصد أرواح السياسيين والمسئولين الحكوميين الذين لا يرضون عنهم. فبعد يوم واحد من تولي جيزيلا موتا منصبها رئيسًا لبلدية مدينة تيمكيكسيكو، قتلها أفراد إحدى العصابات، ويسمح نفوذ عصابات السلاح والمخدرات في المكسيك بتدبير قتل 43 طالبًا دفعة واحدة.
ففي 2014 تأججت الأوضاع في المكسيك، واقتحم المتظاهرون الغاضبون القصر الرئاسي، وانفجر المواطنون في وجه رجال الشرطة والحكومة بسبب مقتل 43 طالبًا شاركوا سابقًا في تظاهرة تعترض على نفوذ رجال العصابات. فكان قتلهم فضيحة لمدى تنفذ العصابات، ومدى ضعف أجهزة الشرطة وتواطئها. ظلت تلك الفضيحة مفتوحة حتى أثبتت التحقيقات تورط رئيس بلدية إحدى المدن المكسيكية ومسئولين حكوميين آخرين.
معاقبة الرئيس
ليست المرة الوحيدة التي يتورط فيها رجال الحكومة في عمل الكارتيلات، ففي عام 2022 وجهت تهمة المشاركة في الجريمة المنظمة لأربعة أشخاص. مناصب هولاء الأربعة تكشف كيف يتحكم رجال العصابات في الدولة. المتهم الأول كان مساعدًا لوزير الدفاع. والثاني رئيس الجيش في ولاية موريلوس. والثالث قائد قاعدة عسكرية في ولاية كوليما. أما الرابع، فكان في منصب يشبه مساعد وزير الداخلية، وكانت له سلطة شرفية على كافة رجال الشرطة في البلاد. وفي حادثة غريبة قتل رجال الشرطة في مطار نيو ميكسيكو 3 من زملائهم، لم تصل التحقيقات إلى الفاعل ولا السبب، فاضطرت السلطات المكسيكية إلى تغيير 348 ظابطًا، هم كل من يعمل في المطار.
الجهود الرسمية لمجابهة الجريمة المنظمة في المكسيك انخفضت بشكل كبير. فكاد الرئيس لا ينجح إلا إذا أعلن أنه سيعمل على تقنين بيع المخدرات والسلاح. ولا يدلي بتصريحات حول محاربة الجريمة المنظمة. أما من يفعل فللعصابات طريقتها في جعله لا يعود للحكم. مثلًا في الفترة ما بين عام 2006 و2012 كانت ولاية الرئيس فيليبي كالديرون.
الرجل استعان بالولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة الجريمة، وزود الجيش بالأسلحة اللازمة. وأسس مكتبًا لمساعدة ضحايا الجريمة، وشن حربًا على تهريب المخدرات. لكن حين انتهت ولايته كانت العصابات قد جعلت عهده لا يُنسى. فقتلت العصابات فيه 70 ألف شخص، بينهم جنود جيش ورجال شرطة، وشهد آخر عام في ولايته 26 ألف جريمة قتل بمفرده.
الجرائم في المكسيك لا تُقدم كرقم كلي فقط، بل تكشف لنا النسبة المئوية أمرًا مرعبًا. فهناك 22 جريمة قتل لكل 100 شخص. بالتأكيد يصبح الصحفيون المستهدفون الأوائل في كل القوائم، ففي الفترة السابقة قُتل 50 صحفيًا. وفي أول شهرين من عهد التالي لكالديرون قتلت العصابات 10 صحفيين في أول عامين من ولايته.
شبكة أنفاق سرية
كما يثير قتل النساء في المكسيك غضب الشعب في وجه السلطات العاجزة عن حمايتهن، أو حتى تقديم تفسير عن الجثث التي يكتشفها السكان تباعًا. وفي الشهور التي مضت من 2022 سجلت المكسيك 322 حادثة اختفاء لسيدات، عُثرن على 90% من بعد 72 من الاختفاء كجثث. أما بنسبة لعمليات القتل المعروفة فإن 10 نساء من المكسيك يُقتلن يوميًا، خصوصًا العام الماضي الذي شهد منفردًا 34 ألف عملية قتل قام بها رجال العصابات.
ولا تعرف السلطات الرسمية كيف يستطيع رجال العصابات التنقل بين الولايات المختلفة رغم الحواجز الأمنية الكثيفة. لكن يومًا بعد الآخر تكتشف السلطات أنفاقًا تحت الأرض تفسر كيف يتنقل رجال العصابات. آخر اكتشاف كان لنفق طوله 220 مترًا، على عمق 15 مترًا. ويربط النفق بين ولاية أريزونا الأمريكية ومدينة سان لويس المكسيكية. وسابقًا اكتشفت السلطات نفقًا طوله 600 متر، به إنارة ومصعد كهربائي وعربات لنقل المخدرات. وإجمالًا فقد اكتشفت السلطات أكثر من 150 نفقًا منذ عام 1999.
الأرقام الإجمالية في المكسيك تكشف واقعًا مرعبًا. فمنذ عام 1964 وحتى اليوم شهدت المكسيك اختفاء 112 ألف شخص من دون أن يظهروا مرة أخرى. و300 ألف عملية قتل، بمعدل 100 عملية قتل يوميًا. وعثرت السلطات المكسيكية على عدد من العظام البشرية في حقل ذرة عام 2017، لم تستطع السلطات تمييز عدد الجثث لكثرتها، فاضطرت لوزن الهياكل العظمية فكانوا نصف طن من البقايا البشرية. يُذكر أن حقل الذرة المكتشف فيه الجثث أبلغ سكان الولاية التي يقع فيها عن اختفاء 11 ألف شخص خلال السنوات السابقة لعام 2017.
وتمر 98% من الجرائم في المكسيك دون عقاب. ولعل ذلك هو ما يضاعف المأساة الإنسانية في المكسيك، حالة الإفلات المطلق من العقاب. الإفلات لأن المجرم فرد فاسد من الشرطة أو الحكومة نفسها. أو لأن المجرمين غالبًا ما يكونوا أفرادًا في عصابات قوية لا تريد الشرطة ولا الحكومة الدخول في صراع معها. مثلما حدث مع اعتقال ابن خواكين غوزمان، إمبراطور تجارة المخدرات في المكسيك، لكن الشرطة اضطرت للإفراج عنه بعد قيام رجال عصابة أبيه باقتحام عدد من السجون وإخلاء سبيل المسجونين، أشعلت العديد من أحداث الشغب التي خشيت السلطات تفاقهمها فأفرجت عنه.
صراع الكارتيلات
خصوصًا أن الحروب لا تكون بين الكارتيلات والدولة دائمًا، بل تكون بين الكارتلات وبعضها لانتزاع مناطق نفوذ من بعضهم. فهناك كارتل سينالوا، ينشط في إقليم سينالوا، ويعتبر أكبر عصابة لتهريب المخدرات في المكسيك. الكارتل أسسه إل تشابو، المصنف كواحد من أغنى رجال العالم، وموضوع العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة في محاكمة هي الأشهر في المكسيك، لكن أدى الحكم لزيادة العنف فقد حاولت العصابات الأخرى احتلال مناطق النفوذ التي تركها الرجل.
وهناك كارتل جيل خاليسكو الجديد، والتي بلغت قيمة أصولها 20 مليار دولار. ويقودها ضابط شرطة سابق، وأكبر المطلوبين للعدالة في البلاد، ووضعت الحكومة مكافأة 10 ملايين دولار لمن يساعد في القبض عليه. ويُعتبر أشد الكارتلات عنفًا، ولا يتورع عن الهجوم على رجال الحكومة وقوات الأمن. كما أسقط هذا الكارتل مروحيات عسكرية باستخدام قذائف صاروخية. كما يشتهر الرجل بتعليق جثث ضحاياه على الجسور لإرهاب منافسيه.
أما كارتل لويس زيتاس، فيستعين بجنود الجيش السابقين. ويشتهرون بقطع رؤوس ضحاياهم. ولا تقتصر على المخدرات فحسب، بل تنشط في كل ما يجلب المال، حتى الاتجار بالبشر. كارتل زيتاس هو في الأصل كيان منشق عن كارتل الخليج، أقدم الجماعات المسلحة في المكسيك. ويعتبر قادة كارتل الخليج أول أشخاص يتم إدراجهم على قائمة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي كأكثر عشرة مطلوبين. وتم القبض على مؤسسه، خوان جارسيا، لكن تولى أوسيل غويلن الكارتل من بعده. فبنى له جناحًا عسكريًا من الجنود الفاسدين.
لكن على الجهة الأخرى يمكن رؤية بعض الاحتمالات الجيدة في وسط تلك الفوضى. فدولة تبلغ مساحتها مليونا كيلو متر مربع، وسكانها تجاوزوا 125 مليون نسمة. ستنمو ثروتها من النفط والصادرات الشرعية، ومع ذلك النمو يمكن أن يزداد نفوذ الدولة ونفوذ حكام الولايات في مواجهة رجال العصابات. فقد بلغت قيمة الناتج المحلي عام 2014 قرابة 1.3 تريليون دولار، ما يجعل المكسيك تحتل المرتبة الخامسة عشرة عالميًا من حيث قوة الاقتصاد. وارتفع معدل النمو إلى 2.4% عام 2015 بعد أن كان 2% فقط عام 2013.
كما أن الطبقة الوسطى التي تزداد في المكسيك، وتلتزم بدفع الضرائب الحكومية، وتشارك بفاعلية في الانتخابات لاختيار من يمثلها، يمكن عبر السنين أن تساعد في وصول رئيس غير شعبوي ولا يملك سجلًا إجراميًا كي يمنحهم الأمل في دولة يسود فيها القانون.