أساليب التأديب الاجتماعي في أوقاف الأميرة «فاطمة»
لم يكن العمل الخيري المرتكز على الأوقاف محض تبرع مالي للنفع العام وحسب، وإنما أسهم بطرق متنوعة وبأساليب مختلفة في تحقيق قدر الضبط الاجتماعي والمحافظة على القيم الأخلاقية والأعراف الحميدة في المجتمع، إلى جانب تعزيز القيم الموروثة والمحافظة على السلوك القويم، فيما يتعلق بالسلوك الشخصي، والزواج والطلاق، والالتزام الديني، والبعد عن المعاملات المحرمة، والتزام حسن الخلق والآداب العامة. ومن النماذج البارزة في هذا الشأن ما استهدفته الأميرة «فاطمة إسماعيل» من خلال وقفياتها الخيرية وعبرت عنه في شروط الاستحقاق في ريع تلك الوقفيات على النحو الآتي:
- أن كل من يلعب القمار أو يتهتك بالسكر في المحلات أو الطرق العمومية بأي جهة من أنحاء الدنيا، أو يتزوج بزوجة غير مسلمة، أو تتزوج بزوج غير مسلم من أولاد حضرة الواقفة الخمسة وذريتهم، يكون مخرجًا ومحرومًا من نصيبه في هذا الوقف، ويفرض موته، وحينئذٍ يكون نصيبه لمن يستحقه من بعده على فرض موته، بحيث إذا استحق أولاد المُخرج المحروم أو ذريته وكانوا قاصرين عن درجة البلوغ، أو كان بعضهم قاصرًا عن البلوغ الشرعي، فلا يُصرف لمن يكون قاصرًا نصيبه في هذا الوقف بأكمله، وإنما يصرف له ما يحتاجه من النفقة الضرورية بأنواعها بحسب ما يراه الناظر على هذا الوقف، وما بقي من النصيب المذكور يحفظه الناظر لحين بلوغ القاصر رشده، فإذا تاب المُخرج المحروم من لعب القمار ومن التهتك بالسكر أو فارق من تزوج بغير مسلمة زوجته غير المسلمة، أو فارقت من تزوجت بغير مسلم زوجها غير المسلم، ومضى على هذه التوبة أو الفرقة نصف سنة أي ستة أشهر كاملة، ورأى الناظر على الوقف ابتعاد هذا الشخص عما أوجب حرمانه، أعاد له نصيبه كما كان، فإن عاد ثانيًا وفعل شيئًا مما يوجب خروجه وحرمانه من استحقاقه في هذا الوقف، فإنه يكون مخرجًا محرومًا من نصيبه قطعيًا ويُفرض موته، ويستحق نصيبه من هو بعده على النص والترتيب المشروحين في حجة هذا الوقف.
- أن كلَّ من تداينَ من أولاد وذرية الواقفة الموقوف عليهم بديْنٍ يستوجب توقيع الحجز أو التنفيذ على نصيبه في ريع هذا الوقف، كان ذلك المدين مخرجًا ومحرومًا من نصيبه من ريع هذا الوقف قبل توقيع الحجز أو التنفيذ بشهر؛ حتى لا يصادفَ ذلك الحجز أو التنفيذ محلًا.
- أن كلاً من أولاد وذرية الواقفة الموقوف عليهم ممنوع قطعيًا من بيع نصيبه في هذا الوقف، أو التنازل عنه لغيره، أو أن يسحب نقودًا على نصيبه في هذا الوقف من أي بنكٍ، أو من أي شخص كان، وكل من فعل شيئًا من ذلك من الموقوف عليهم من أولاد وذرية الواقفة، كان فعله هذا لاغيًا لا يعول عليه، ولا يعتبر في هذا الوقف بحال من الأحوال.
- أن كل من رُزق من أولاد الواقفة وذريتهم الموقوف عليهم بولد أو بأولاد من زوجة غير مسلمة، أو المرزوقين لها من زوج غير مسلم، لا يستحق هذا الولد أو الأولاد شيئًا في هذا الوقف.
- أن من يخرج عن طاعة الواقفة أو يخالفها، وكل من عاداها معاداةً ظاهرة أو خالف أوامرها، فإن الفاعل لذلك يكون مخرجًا محرومًا من نصيبه في هذا الوقف، وحينئذ يكون نصيبُه لمن هو مشروط له من بعده، على فرض موته، وهكذا يكون الحال في جميع أولاد حضرة الواقفة الخمسة؛ بحيث إن تَحقٌّقَ الخروج عن الطاعة أو المعاداة أو المخالفة؛ لا يكون إلا بإقرار يصدر من حضرة البرنسيس أمام هيئة رسمية من هيئات الحكومات الرسمية.
- أن كل من اعتنق دينًا غير دين الإسلام من أولاد وذرية الواقفة؛ فإن المعتنق لغير دين الإسلام هو وذريته الذين على غير دين الإسلام مخرجون ومحرومون من ريع هذا الوقف، ويكون نصيب المعتنق المذكور مستحقًا لمن هو مشروط له من بعده، بفرض موته. وثمة شروط أخرى نصت على أن يبدأ الناظر من ريع هذا الوقف بالصرف على إصلاحه والمحافظة عليه، وما فيه بقاء عينه، حتى لو استنفد الريع كله، وأن يدفع ما على الأطيان الموقوفة من الأموال والمطاليب الأميرية في مواعيدها.
وجملة الضوابط السلوكية والاجتماعية التي أوردتها الأميرة في تلك الشروط، تعني بوضوح أنها حوَّلت «سنّة الوقف» إلى «منهج حياة»، واستخدمتها بطريقة عملية كأداة للتنشئة الاجتماعية الصالحة وللمحافظة على الأجيال الجديدة من الانزلاق إلى الأزمات الاقتصادية ومن الوقوع في الانحرافات السلوكية اللا أخلاقية، وهذا جانب من جوانب التجديد التلقائي الذي فرضته متغيرات الواقع ومستجداته على نظام الوقف وهو قيد التطبيق.
تلك خلاصةُ ما سجلته الأميرةُ فاطمة في حجة وقفيتها سنة 1328هـ/1910م. أمّا ما جرى من وقائع بعد ذلك، فقد سجلته وثائق التصرفات في أعيان هذه الوقفية ومؤسساتها، وهي كثيرة في أعدادها، ومثيرة في موضوعاتها، وهي وغيرها من التصرفات في وقفياتها الأخرى، كلها محفوظة في ملف التولية رقم 4350 بغرفة التولية بقسم الحجج والسجلات بوزارة الأوقاف المصرية.
والوثائقُ والمستنداتُ -بذلك الملف- في مجملها تدل على أن وقفية الأميرة في سنة 1328هـ/1910م قد جرت عليها عشرات التصرفات بالبدل والإبدال، إما للإسهام في إنجاز مصالح عمومية، أو لتوظيف أموال البدل الخاصة بالوقفية في شراء أراضٍ أو عقارات وضمها إلى أصل الوقفية، وكانت تلك التصرفات تجري على «نهج المحافظة والازدهار» في أعمال الوقفية فيما قبل سنة 1952م، أما فيما بعد تلك السنة فقد جرت التصرفات على «درب التدهور والانهيار» الشامل للوقف، وذلك بالبيع في المزاد العلني، أو بالاستيلاء عليه دون وجه حق وطمس معالمه.
أمّا المصالح العمومية التي استهدفت التصرفاتُ تحقيقها فكانت عبارة عن: شق ترعة، أو تعبيد طريق، أو حفر مصرفٍ عمومي، ومن ذلك مثلاً: أن محكمة مصر الشرعية أذِنت للأميرة فاطمة الناظرة على وقفها أثناء إقامتها بالآستانة أن تُمكِّن وزارة الأشغال من عمل مصرف بأرض الوقف في مساحة قدرها 11 سهمًا، و12 قيراطًا، و7 أفدنة، على أن يظلَّ هذا القدر تابعًا لجهة الوقف، حتى إذا استغنت عنه الحكومة يُرد لجهة الوقف المأخوذ منه، وذلك بعد أن ثبتَ للمحكمة أن في ذلك مصلحةً لبقية أراضي وقف الأميرة، وقد رفضت المحكمة في القرار ذاته أن يتنازل وكيل الأميرة عن المساحة المذكورة، وقالت «عدم جواز إعطاء أطيان الوقف بلا عوض، فطلبت وزارة الحقانية التصرف بما يقتضيه الرأي الشرعي» (حجة تصرف صادرة من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 13/3/1918م).
ومثال آخر على توظيف مال البدل واستثماره في زيادة أصول الوقفية وهو: شراء مساحة 13 سهمًا و10 قراريط، و4 أفدنة من مال بدل متجمد لوقف الأميرة بموافقة مجلس الأوقاف الأعلى بموجب حجة صادرة من محكمة المنصورة الشرعية بتاريخ 5/9/1949م (سجل 89/مصر مسلسلة 21566).
ومن الوقائع التي كشفت عنها التصرفات التي تعرضت لها تلك الوقفية، ما حصل بعد مرور اثنين وعشرين عامًا على توثيق حجة وقفية الأميرة فاطمة المشار إليها؛ إذ تبين أن هناك مشكلة كبيرة فيها، وهي: أن أعيانها كلَّها كانت مرهونة للبنك العقاري المصري قبل وقفها في سنة 1328هـ/1910م. ولابد أنَّ خطأً ما قد حصل وجعل محكمة مصر الشرعية تجيزُ عقد الوقف في ذلك التاريخ؛ إذ لو علِمت المحكمة حينها أن أعيان الوقف مرهونة لما أجازت وقفها إلا بعد رفع الرهن عنها.
وكان التصرف الذي كشف عن تلك المشكلة هو: أن الحكومةَ وضعت يدها على مساحتين من أراضي الوقفية: الأولى كانت مساحتها 13 سهمًا و2 قيراط و5 أفدنة، بناحية سندوب بمحافظة الدقهلية للزومها في مشروع مصرف عمومي، ودفعت ثمنًا قدره 854 جنيهًا و653 مليمًا، والثانية كانت مساحتها 9 أسهم، وقيراط واحد، وفدان واحد لتعديل مصرف ميت العامل بالدقهلية أيضًا. ودفعت الحكومة الثمن وقدره 243 جنيهًا و177 مليمًا. واكتشفت وزارة الأوقاف التي كانت متنظرة على وقفية الأميرة فاطمة آنذاك، والتي استلمت هذين المبلغين؛ أن أعيان الوقف كلها مرهونة للبنك العقاري المصري قبل وقفها بمبلغ تحدد في سنة 1923م بـ 175.000 جنيه، وأنه نتج عن الأزمة المالية العالمية (الكساد الكبير) وعدم تيسُّر تحصيل ريع هذا الوقف؛ أن تأخرَ للبنك بعض قسطُ سنة 1929م، وقسطا سنتي 1930م، و1931، وأن هذا البنك قد امتنع عن شطب حقوقه على تلك الأعيان، وأخذ في إجراءات نزع ملكية الأطيان الموقوفة.
وتداركًا لهذا الأمر؛ رأت وزارة الأوقاف أن للأميرة فاطمة وقفًا آخر مشمولًا بنظر الوزارة، ومعينًا بحجة من محكمة مصر بتاريخ 28 رجب 1331هــ، (سنأتي على دراسته فيما بعد)، وعليه فقد استبدلت وزارة الأوقاف من أعيان سراي الواقفة بالجيزة وأثاثها، مكانًا من مال بدلها، بمبلغ 8033 جنيهًا و951 مليمًا، ورأت أنه من المصلحة أن يؤخذ مجموع مال هذا البدل 12338 جنيهًا و36 مليمًا على سبيل الاستدانة ليدفع للبنك العقاري، على أن يؤخذ هذا المبلغ من ريع الوقف الأول.
وقرر مندوب وزارة الأوقاف أن مقدار القسط السنوي للبنك مبلغ 13.000 جنيه، وأن جملة المطلوب للبنك حتى سنة 1932م، هو مبلغ 36.902 جنيه و221 مليمًا، نظرًا لأن أعيان الوقف كانت مؤجرة للأمراء أبناء الواقفة قبل سنة 1929م، وأن الوزارة لم تستطع تحصيل إيجار منهم لسداد أقساط البنك عن هذه المدة لسوء حالتهم المالية، ونظرًا لأن الوقف المطلوب الاستدانة من المال البدل الخاص به هو «وقف خيري»؛ لكي يمكن أداء الدين للبنك العقاري، على أن يُسدد من ريع الوقف الأهلي قبل استحقاق المستحقين؛ لأن أعيان الوقف الأهلي في خطر بسبب إجراءات البنك؛ لكل هذا وافقت المحكمة بقرارها المؤرخ في 20 مارس 1932م وأذنت لوزير الأوقاف وقتها أحمد علي باشا في الاستدانة على النحو المذكور. فدفعت الوزارة المبلغين للبنك العقاري إنقاذًا للوقف من خطر البيع الجبري (حجة تصرفات بتاريخ 6 مارس 1932م من محكمة مصر الشرعية، وحجة أخرى من المحكمة نفسها بتاريخ 20 مارس 1932م). ورغم سلبية تلك الواقعة، فإن الإدارة الرشيدة للأوقاف وقتها استطاعت أن تتغلب عليها بأقل الخسائر الممكنة.
ومن التصرفات التي لحقت بهذه الوقفية على نهج المحافظة والازدهار، أنه: تم في سنة 1937م إلحاق فيلا الواقفة وأرضها بالهرم وضمها لوقفيتها بموجب إشهاد شرعي من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 11/1/1937م (سجل 69/مصر مسلسلة 10788).
وفيما خلا واقعة «رهن أعيان الوقفية» وهي سلبية بكل المعايير؛ كانت نوعية أغلب التصرفات التي جرت على وقفية الأميرة قبل سنة 1952م إيجابية إلى حد معقول، وقد جرت على نهج المحافظة والازدهار، أمّا بعد تلك السنة فقد تغيرت نوعية التصرفات، وأمست متركزة فقط على عمليات البيع بالمزاد لقطع من أراضي الوقفية، أو الاستيلاء عليها واغتصابها، وكلها تصرفات جرت على درب الإهمال والانهيار الشامل الذي ضرب نظام الوقف برمته منذ ذلك الحين.
وذلك هو ما حدث، وتكرر حدوثه مرات كثيرة، كان منها مثلًا: أن هيئة الأوقاف المصرية طرحت في سنة 1988م صفقة بقائمة مزاد من أراضي وقف الأميرة فاطمة بمنطقة الهيئة بالدقهلية، وبجلسة 4/6/1988م تقدم أحدُ المواطنين ذوي النفوذ لاستبدالها، وقبِل الشراء بسعر المتر أرضًا وبناءً 105 جنيهات، وسدد مبلغ 2678جنيهًا قيمة التأمين بنسبة 30% معجلة الثمن، وتحرّرت له حجة بيع بمساحة 8 أسهم، و11 قيراطّا من أراضي وقف الأميرة فاطمة بالمزاد بناحية منية سندوب – دقهلية.