عقدة المُنقِذ: شعرةٌ بين النُّبل والاضطراب النفسي
من منَّا لا يعشق الأبطال الخارقين الذين يفنون أعمارهم وطاقاتهم النفسية والبدنية في إنقاذ الآخرين؟
لقد انغرس حبنا لهؤلاء في أغوار وعينا ولاوعينا منذ نعومة أظفارنا أمام مسلسلات وأفلام الكارتون التي عزَّزت تلك الفكرة، ونحتتْها في وجداننا، حتى انعكست في أحلام اليقظة، والمنام أحيانًا. وعندما كبرنا، رسَّخ التديُّن وسيرُ الأنبياء وأصحابهم فينا نُبل التضحية، والاعتزاز ببذل كل نفيس من أجل إنقاذ الآخرين، والدفاع عن حقوقنا وحقوقهم، وإغاثة الملهوفين منهم، لا سيَّما من نحب، ومن تجمعنا بهم روابط الأخوة والجيرة والمصائر المشتركة.
لكن كأي قيمة أو شيء في حياة البشر، فإنها لا تخلو من وجهيْن متضاديْن، ودائمًا ما تكون المنطقة الوسطى المعتدلة فيها بين تطرفين، ولهذا ينذرنا الطب النفسي مُعزَّزًا ببعض الأدلة العلمية، والملاحظات الموثَّقة، بأنَّ بعض النُّبل الزائد عن الحد، والرغبة الجامحة في التضحية من أجل الآخرين، قد يكون هوسًا مرضيًا يستدعي قبل الإشادة والاحتذاء – كما اعتدنا في النظرة إلى التضحية – يحتاج إلى مشورة الطبيب النفسي.
عقدة المسيح المُنقِذ
لا نتحدث هنا عن السياقات التاريخية والسياسية لفكرة المسيح المنقذ، أو المهدويَّة، وأشباهها، على المستوى العام والأكبر، وعن مآلاتها في حياة وتطور المجتمعات والشعوب والأفكار، إنما منظورنا هنا هو الطب النفسي، وعلى مستوى حياة الفرد ومحيطه الصغير بالأساس، وإن تشابكت الدوائر بين الخاص والعام.
يمكن باختصار أن نعرِّف عقدة المنقذ بأنها الرغبة الجارفة في مساعدة الآخرين، والتفاني في سبيل ذلك، بشكلٍ قد يصل إلى حد إيذاء المُنقِذ لنفسه دون داعٍ ملزم لذلك، بل وحتى الإضرار بمن يريد أن ينقذهم. ولهذه الحالة أسماء أخرى مثل عُقدة المسيح أو المُخلِّص، وعقدة الفارس الأبيض. ويضيف باحثون نفسيون آخرون أن المصابين بعقدة المنقذ يشعرون بحاجة ماسة إلى مساعدة الآخرين وإنقاذهم، ولذا فهم يبحثون في دوائرهم عمَّن يعانون من ظروف قاسية، ويحاولون مساعدتهم بكل غالٍ وثمين من طاقاتهم المادية والنفسية، وبشكل قد يؤذي المنقذ نفسه دون حاجة.
وكثيرًا ما تصيب عقدة المنقذ أناسًا طبيعيين من منظور المرض النفسي، لكن بعض الأنماط الحادة والخطرة منها تُشاهَد لدى المصابين ببعض الأمراض النفسية مثل الاضطراب ثنائي القطبية Bipolar والسكيزوفرينيا. كما تُشاهَد أيضًا لدى الموسومين باضطراب الشخصية النرجسية، والمصابين بتضخم الذات. كما شخَّصها الأطباء النفسيون عند بعض المرضى المصابين باضطرابات الطعام العُصابية و«الشره العُصابي – Bulimia nervosa»، كإحدى آليات الدفاع النفسي، فعجزهم عن مساعدة أنفسهم للتخلص من الاضطراب الذي يعانونه، يُغطَّى بالميل الحاد إلى مساعدة غيرهم.
وتشيع تلك العقدة أيضًا لدى بعض أصحاب المهن (السامية) التي تقوم على خدمة الآخرين وإنقاذ حياتهم، مثل الأطباء والممرضين والمُسعفين وفرق الإنقاذ والكوارث، وتستنزف الكثيرين من هؤلاء ماديًّا ومعنويًّا، وقد تصل بهم إلى حالة الاحتراق النفسي والعاطفي Burnout، والتي تفتح الباب على مصراعيْه أمام إصابتهم بالاكتئاب واضطرابات القلق وغيرها من الأدواء النفسية.
ويخص بعض الباحثين بالذكر نوعًا خاصًّا من عقدة المنقذ، هو عقدة المنقذ الأبيض، والتي يمكن فهمها بشكلٍ أفضل بالتطبيق على المجتمع الأمريكي الذي يضم أكثرية من البيض ذوي الخلفية الأنجلو ساكسونية WASPs، والذين ما تزال تشيع بينهم ميول عنصرية تجاه الأقليات العرقية الأخرى، مثل: أصحاب البشرة السمراء، والسكان الأصليين … إلخ. وقد أشارت السينما إليها كثيرًا.
كثيرًا ما يُظهِر بعض هؤلاء البيض رغبةً في مساعدة أبناء الأقليات الأخرى وحل مشاكلهم، لا سيَّما أثناء بعض الكوارث الطبيعية والأحداث العامة، لكن يكمن الشيطان في بعض تفاصيل تلك الرغبة في الإنقاذ، إذ قد تحمل ميلًا خفيًا إلى التعالي على هؤلاء الآخرين، واتهامهم ضمنًا بالعجز عن مساعدة أنفسهم، أو مداراة تقصير أساسي في إعطاء بعض الشرائح المهمَّشة حقوقَها الأساسية التي تضمن انتفاء حاجتهم مستقبلًا إلى المساعدة والإنقاذ. وتحمل تلك الفكرة بقايا من قضية عبء الرجل الأبيض التاريخية التي بررت بها القوى الاستعمارية في القرون الأخيرة فرضها الهيمنة على غيرها من الشعوب والدول. وفي المقابل، يرى البعض أن وراءَ هذا المصطلح تحسُّسًا زائدًا تجاه تصرفات البيض من قِبل غيرهم، وجنوحًا إلى تفسيرها بأسوأ تفسير.
والآن نعود إلى عقدة المنقذ لدى الأفراد، وكيف يمكنهم بسهولة إنقاذ أنفسهم منها، ليصبحوا أكثر فاعلية واتزانًا.
كيف يمكن التوازن بين نبل المنقِذ وسلامته النفسية؟
في نقاطٍ موجزة وقابلة للتطبيق كما اعتدنا، سنبيِّن ما ينبغي فعله لاستعادة الاعتدال الواجب في هذه القضية:
1. تقدير النفس وإعادة الاعتبار إليها أولًا:
يعاني الكثير من المصابين بعقدة المنقذ من نقص تقديرهم لأنفسهم، فهم لا يستحقون أن ينظروا لأنفسهم باحترام إلا في ضوء ما يحققونه من إنجازات، وفي القلب منها مساعدة الآخرين، وإنقاذهم، أو على الأقل التأثير في حياتهم إيجابًا، ولو على حساب إهمال الذات ونكرانها. وقد تُتَرجَم تلك الظاهرة بأنماطٍ غير إيجابية في العلاقات، حيث يميل هؤلاء إلى البذل الشديد، وتكريس النفس لتلبية رغبات ونوازع من يرتبطون بهم عاطفيًّا على حساب أنفسهم بشكلٍ حاد، مما يؤدي بهم إلى الإحباط والاكتئاب والشعور المزمن بعدم التقدير وباحتقار الذات، ويطلق البعض على تلك الحالة (الإيثار الضار).
يجب أن نتذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه بفاعلية، فلا يمكن لمن يعجز عن إنقاذ نفسه من نفسه أن ينقذ الآخرين بشكلٍ نبيلٍ وعقلاني وخالٍ من العُصابيات والاضطرابات. ولذا، فقدِّر نفسَك أولًا، وأعطِها حقَّها ومساحتَها، وراعِ ضعفَها، لكي تبذل للآخرين بغيرٍ عقدٍ واضطراب.
اقرأ: متلازمة الإجهاد المزمن: كيف نتغلب على مرض العصر؟
في المقابل، لا يعني تقدير النفس أن نقودَها إلى التطرف المضاد حيث تضخم الذات وهيمنة الأنا، فهو أيضُا من أهم مسببات عقدة المنقذ، فالجنوح الشديد نحو مساعدة الآخرين قد ينبع من رغبةٍ غير متوازنة في التعالي عليهم، وإثبات الاستحقاق فوقَهم. وكِلا طرفي قصدِ السبيل ذميم، كما قال الشاعر العربي القديم.
2. التدين المعتدل:
هناك ترسانة من النصوص الدينية الثابتة لا مجال هنا لاستعراضها تحذر من الغلو – وهو مجاوزة حد الاعتدال – في التدين، وأن على الإنسان أن ينشغل بنفسه أولًا، وبإصلاحها، قبل أن ينتقل إلى الآخرين. ويُلاحظ أن بعض من يعانون من عقدة المنقذ، يحيلون ما يفعلون إلى الدين والغيبيات، وكأن وحيًا ما قد أتاهم، وطلب منهم وحدَهُم إنقاذ البشر، ولذا فانتهاج تدين معتدل متوازن، يوازن بين تهذيب النفس وهي الدائرة الأهم، ودور الإنسان في الدوائر الأخرى الأبعد، يقلل كثيرًا من فرص الإصابة بعقدة المنقذ، ويساعد بشكلٍ فعَّال في التخلص منها.
اقرأ: هل يساعد التدين المكتئبين؟ العلم يجيب.
3. المساعد الراشد خيرٌ من المنقذ:
عندما ترى الآخرين في مشكلة، تروَّ لبعض الوقت قبل الانتقال إلى خانة الفعل والمساعدة، كي تراجع نفسك ومشاعرَك أولًا، فتعرف بدقة دوافعك الحقيقية من تلك المساعدة، وهل فيها أي نوازع عُصابية قد تؤثر سلبًا على فاعلية تلك المساعدة، وكذلك لكي تحسن اختيار أرشد الوسائل لتحفيق تلك المساعدة دون أن تستنزف نفسَك بشكلٍ حاد، يسبب لكَ أنتَ المشكلات، وينقلَك من مُساعِدٍ راشد، إلى محتاجٍ للعونِ والمساعدة.
اقرأ: كيف تتعامل مع صديق تبدو عليه أعراض مرض الاكتئاب؟
4. تعلَّم أن تقولَ (لا) أحيانًا:
يُلاحظ أن من يتصدَّر كثيرًا لمساعدة الآخرين وإنقاذهم، يُعطي انطباعًا خاطئًا للآخرين أنه يمتلك طاقةً نفسية ومرونةً معنوية لا حصرَ لها، وبالتالي يُصبحُ هدفًا لطلباتِ مساعدةٍ أكثر، بعضها منطقي، وبعضها غير ذلك. لذا، فمن أهم المهارات الاجتماعية أن يدربَ الإنسان نفسه على القدرة على الرفض، وقول (لا) في وجه الطلبات التي تفوق قدراته، أو على الأقل الرد بأسلوبٍ غير قاطع يتيحُ له مخرجًا في حالة عجزه عن إتمام المساعدة، حتى لا يقع فريسةً لجلدِ الذات.
5. عوِّدهم على مساعدة أنفسهم أولًا:
ينطبق هذا أكثر على من يكون المرءُ مسئولًا عنهم بشكلٍ أو بآخر، كالأهل والأبناء وبعض خاصة المعارف والأصدقاء، لا سيَّما الأصغر سنًّا والأقل تجربةً. يجب إعطاء مساحة لهؤلاء أولًا لمحاولة حل المشكلات بأنفسهم، وابتكار الوسائل المساعدة على ذلك، قبل الاندفاع إلى مساعدتهم وفرض الحل عليهم، فهذا الاندفاع سيقوِّض قدراتهم مستقبلًا على الاعتماد على أنفسهم بشكلٍ فعَّال، وبالتالي يجعلهم أكثر اعتمادًا على من يُساعدهم، ويفتح المجال بشكلٍ أكبر لتضخم عُقَد الإنقاذ. كذلك فإن المسارعة بلعب دور المنقذ قد يُستَقبَل من البعض بشكل خاطئ أنه نوع من فرض الوصاية وكسر للحواجز الطبيعية بين البشر بعضهم والبعض.
6. أنت أيضًا تحتاج إلى المساعدة أحيانًا:
من الجيد أن يكون المرءُ أكثر اعتمادًا على نفسه في جميع جوانب حياته، وأن يكون هو من يقدم المساعدة للآخرين، لكن في المقابل لا تشعر بالنقص أو بالحرج أن تطلب المساعدة أحيانًا، فهذا يخفف الضغوط النفسية، ويقلل الشعور بالاغتراب. والأهم، لا تتردَّد في طلب مشورة الطبيب النفسي إذا شعرت أن مساعدة الآخرين وتلبية طلباتهم أصبحت تمثل عبئًا نفسيًّا كبيرًا عليك، وسبَّبت لكَ بعضَ المشكلات مع هؤلاء الآخرين مما أضاف المزيد من الأعباء عليك، أو أنكَ تنشغل كثيرًا بنتائج ما قدمته من مساعدة، فالكثير من جهود المساعدة قد لا تُرى نتائجها سريعًا على أرض الواقع، وقد لا تُرى على الإطلاق، والعبرة ببذل الجهد لا بحصد النتائج.
7. العلاج النفسي إن لزم الأمر:
المقصود هنا هو العلاج النفسي غير الدوائي. يمكن للمعالج النفسي عبر الحديث والمناقشة أن يؤكد أو ينفي التشخيص بعقدة المنقذ، وأن يتعرف خلال جلساتٍ متتابعة على نقاط الضعف والأفكار والمعتقدات الخاطئة التي نحتْ بالشخص هذا المنحى، ومن ثَم يشرع في الإقناع بعكسها، وتصحيح المفاهيم غير المتزنة.
خاتمة وتوضيح
لا يهدف حديثنا هنا إلى الانتقاص من قيمة التضحية، ووصم كل مُنقِذٍ نبيل بأنه مختلٌّ نفسيًّا، يداري عقدَه النفسية خلف قناع التضحية البرَّاق، ولا نأخذ بكل ما وصل إليه الطب النفسي في هذه القضية المعقدة كعلمٍ قطعي، فالمناخ المادي الصارخ الذي تتسم به حياتنا المعاصرة لا شكَّ يُلقي ببعض ظلالِه على بعض منتجات الطب النفسي، ويجعله يرتبك في تقييم وتفسير بعض النماذج البشرية المعنوية غير الشائعة، ووصمها بالمرض. ما يعنينا هنا هو الوصول إلى حالة الاتزان والاعتدال النفسي، واتباع الأدلة العلمية وفقَ قوتها.