ميسي في كأس العالم الأخيرة: «أنا هلعب مع الخسران»
لم يكن يعلم المخرج الكبير «محمد خان» أن فيلمه «الحريف»، الذي لم ينل نجاحًا باهرًا وقت عرضه في السينمات، ستنصفه السنوات ويصبح أحد أفضل أفلام السينما المصرية في تاريخها، ليس فقط في قوائم النقاد، وإنما في رأي جيل السوشيال ميديا، الذين يدين لهم خان بإعادة اكتشاف رمزية فارس الحريف، بطل الفيلم.
في فيلم الحريف ستتجلى لك عدة أشياء، أبرزها: أجواء الشتاء الباردة التي تغلب على معظم المشاهد، وشوارع القاهرة بما تحمله من هموم قاطنيها، وموهبة فارس، التي ترمز لكل فارس وحريف، لم تنل موهبته حقها، ولم تُنصفه دروب الحياة.
فارس صاحب الموهبة الطاغية، الذي أحب الكرة أكثر من نفسه، ولهث وراءها عمره كله، لا ينتظر سوى بسمة رضا على وجوه محبيه.
من فارس إلى فارس آخر، ومن القاهرة إلى «روساريو»، بلد الثائر العظيم «تشي جيفارا»، حيث نشأ ثائر آخر يُدعى «ليونيل ميسي». الفتى الذي خرج من «روساريو» رأسًا، وسحر العالم كله بموهبته الفريدة، حتى صار أفضل لاعب في تاريخ اللعبة، في رأي كثيرين.
سننتقي من قصة ميسي المثيرة، الفصل السيئ الوحيد لنتحدث عنه، وعلى الرغم من أن رحلة ميسي مع منتخب الأرجنتين ليست سوى فصل واحد في قصة من ألف فصل، فإنه الفصل الأهم، وأحيانًا الوحيد في وجهة نظر البعض.
لذا؛ دعنا نخوض تلك الرحلة.
مُلام حتى قبل أن يبدأ
في عام 2006، وتحديدًا في بطولة كأس العالم التي أُقيمت في ألمانيا، كان ليونيل على موعد مع الظهور الأول في البطولات الدولية مع منتخب الأرجنتين. أصغر لاعب يمثل منتخب الأرجنتين في المونديال، بعمر 18 عامًا فقط، وأصغر لاعب يسجل في الدورة، عندما سجل الهدف السادس أمام صربيا والجبل الأسود.
ودع منتخب الأرجنتين البطولة من الدور ربع النهائي أمام ألمانيا بركلات الترجيح، وعلى الرغم من عدم مشاركة ميسي في المباراة، فإنه كان حديث الجمهور الأرجنتيني، والسبب الأبرز وراء الخروج من المونديال.
حمَّلَ الشعب الأرجنتيني الخسارة للاعبين الكبار في المنتخب، أمثال «خافيير زانيتي»، و«خوان ريكيلمي»، لكنهم أيضًا لاموا «خوسيه بيكرمان» مدرب الأرجنيتن وقتها، بل كادوا يقتلونه، لعدم مشاركة الفتى اليافع، وأمل الأرجنتين في العودة لمجدها الضائع، ليونيل ميسي.
وقع ميسي دون أن يختار في نفس الشبكة التي سقط فيه فارس في بداية مسيرته. بداية صاروخية، وتوقعات وآمال ضخمة تُوضع على كتفيه من الجميع؛ أدت نهاية إلى انفجار فارس، وأعاقت استكمال مسيرته في نادٍ محترف، بعيدًا عن كرة الشارع. فماذا عن ميسي؟
بين شعبان وفارس
دار الحوار أعلاه، بين فارس وصديقه القديم، وزميل الملاعب شعبان، وفيه يشرح شعبان لفارس سبب تركه لكرة القدم. لعل الجملة الأبرز في هذا الحوار هي «في الكورة مفيش نص ونص»، تلك الحقيقة التي ينتبه لها فارس، وكأنه يُدركها للمرة الأولى. وهي نفسها الحقيقة التي سيشرب ميسي من كأس مرارتها أثناء رحلته مع منتخب الأرجنتين.
في عام 2007، كان الظهور الثاني لميسي رفقة منتخب بلاده، في كوبا أمريكا في فنزويلا. تنوعت حينها عناصر المنتخب الأرجنتيني، ما بين اللاعبين أصحاب الخبرات، والمواهب الشابة، الساطعة رفقة الفرق الأوروبية الكبرى.
كان ميسي أبرز هذه المواهب الشابة، حيث سجل رفقة برشلونة في موسم 2006-2007، 14 هدفًا في 26 مباراة، وشيئًا فشيئا، ازدادت مكانة الفتى الصغير عند الجمهور الأرجنتيني، حتى أصبح يزاحم شعبية كبار نجوم الفريق، أمثال «تيفيز»و «ريكيلمي».
وصلت الأرجنتين إلى النهائي في مواجهة البرازيل، وكانت الفرصة مواتية لحصد اللقب الأول منذ آخر لقب حققه «الألبيسيليستي»في كوبا أمريكا عام 1993، بخاصة مع عدم وجود أسماء كبيرة في المنتخب البرازيلي، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، حيث فازت البرازيل على الأرجنتين بنتيجة 3-0.
هنا اصطدم ميسي لأول مرة مع حقيقة ما قاله شعبان لفارس، حيث رأى بعينيه سهام اللوم، وسكاكين النقد التي طالت لاعبين كانوا مقدسين بالنسبة له وبالنسبة للجمهور الأرجنتيني بأثره، أمثال «تيفيز»و «ريكيلمي».
أدرك ميسي أن الطموحات التي تُعلق عليه في قادم المواعيد، إما أن ترفعه للسماء السابعة، أو أن تخسف به الأرض، ولا يوجد منطقة رمادية في المنتصف، كما قال شعبان لفارس.
بداية النجاح واللعنة: أفضل من ماردونا
حانت لحظة البداية الحقيقية لفتى الأرجنتين الذهبي، في أوليمبياد بكين في الصين، عام 2008. لم تكن الأوليمبياد هي نقطة الانطلاق الحقيقية بالنسبة لميسي فقط، بل كانت كذلك لكل لاعبي هذا الجيل، أمثال «الكون أجويرو»، و«أنخيل دي ماريا».
سحر ميسي الجميع في هذه البطولة، التي كان نجمها الأول، وكانت الميدالية الذهبية التي حققتها الأرجنتين، إيذانًا بتسلمه، مسؤولية أفضل لاعب في البلاد، وما تحمله من عواقب، من قدوته ومثله الأعلى، خوان ريكيلمي.
وضع الجمهور الأرجنتيني ليونيل في نفس الخانة التي يضع فيها أهم لاعب في تاريخ الأرجنتين، «دييجو مارادونا»، بل هناك من تنبأ أنه في السنوات القليلة المقبلة سيصبح ميسي أفضل من مارادونا نفسه.
تحققت نصف مقولة شعبان، وبين عشيةٍ وضُحاها صار ميسي، فارس الأرجنتين الجديد، ولمس نجوم السماء بسيفه، لكنها كانت بداية اللعنة.
خيبات متتالية
وقع فارس ضحية للضغوطات، التي أثقلت كاهله، هجر زوجته، وابنه، وتخلى عن حلمه. لم يعد يتحمل فكرة أن ينتظر منه أحد أي شيء، لكنه لم يتخل عن كرة القدم، حتى ولو اقتصرت على اللعب في نوادٍ شعبية، مقابل الفتات من الأموال.
في كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا، انتظر الجمهور الأرجنتيني أن يُحضر لهم ميسي كأس البطولة، ليس باعتباره الفتى الواعد الذي كان من ذي قبل، بل باعتباره أفضل لاعبي العالم.
لكن ذلك لم يتحقق، ولم يكن قريبًا من الأساس، بل صُفع الجمهور في هذه البطولة ثلاث مرات، مرة بخروج فريقهم على يد ألمانيا في ربع النهائي، والثانية في مستوى ميسي الباهت، والثالثة في مُدربهم، ولاعبهم التاريخي، دييجو مارادونا.
بعد عام واحد، وفي كوبا أمريكا 2011، التي أقيمت في الأرجنتين، كان صبر الجمهور الأرجنتيني على أفضل لاعبي العالم قد بدأ ينفذ، وما إن ودعت الأرجنتين البطولة، من ربع النهائي أمام أوروغواي، حتى انهالت على ميسي أسهم النقد من كل حدب وصوب.
الآن لم يعد ميسي، فتى الأرجنتين المدلل، ولا يُعتد بما يفعله رفقة برشلونة، بل صارًا خائنًا ومواليًا لبرشلونة أكثر من الأرجنتين في الروايات الراديكالية للبعض.
في كأس العالم 2014 في البرازيل، وقف ميسي على ناصية حلمه وبكى بكاءً شديدًا، واختلطت دموع ضياع مجده الشخصي، الذي تبخر في النهائي أمام ألمانيا، مع دموع حسرته على ضياع حُلم أمة بأكملها. أمة لم تُحمل أحد غيره مسؤولية الهزيمة.
في تشيلي عام 2015، لم يكن ميسي قد تعافى من خسارة المونديال، وعلى الجانب الآخر، كانت قد توحشت أرقامه مع برشلونة، فلم يعد يُنظر له على أنه أفضل لاعبي العالم فحسب، بل أهَّله ما يقدمه من مستوى، وما يحرزه من أرقام بأن يُوضع على عرش لاعبي اللعبة في كل العصور، لكن ذلك كله لم يشفع له، الخيبة الجديدة بخسارة نهائي الكوبا أمام تشيلي بركلات الترجيح.
ولأن المصائب لا تأتي فُرادى، خسرت الأرجنتين نهائي كوبا أمريكا عام 2016، أمام نفس الفريق، تشيلي، والسبب كان في وجهة نظر الأرجنتين كلها، ميسي ولا أحد غيره.
تحققت نبوءة شعبان بحذافيرها، ولم يجد ميسي خَيَارًا أمامه، سوى ما فعله فارس، وقرر هجر الجميع، أعلن ليونيل اعتزاله اللعب الدولي.
أنا هلعب مع الخسران
يسأل بكر نجل فارس عن هجرة للكرة، ويجيبه فارس، أنه سيتركها للأبد، لكن ليس الآن، فهناك أحلام مؤجلة، لا بد من تحقيقها أولاً.
تراجع ميسي عن قرار اعتزاله اللعب الدولي، وقرر العودة، بعد إصرار الجميع على عودته، على الرغم من نُصح المقربين له بعدم فعل ذلك، كما صرح. ربما رأى ميسي أن وصمه بالأنانية من قبل بعض الجماهير، سيتأكد لو اعتزل اللعب الدولي حقًا، وأن قرار اعتزاله ليس قرارًا شخصيًا؛ لذا قرر العدول عن هذا القرار.
في كأس العالم 2018، لم يكن هناك جديد. مستوى باهت للأرجنتين، صَحبه خروج من دور الـ16، ثم اتهام ميسي بالتخاذل، وتحميله سبب الخروج.
وفي كوبا أمريكا 2019 في البرازيل، لم يكن هناك جديد أيضًا، خرجت الأرجنتين على يد البرازيل في نصف النهائي. لكن ذلك لم يمنع ميسي من خوض التجربة لآخرها.
خلاص يا بكر زمن اللعب راح
يسأل رزق مُتعهد المباريات، فارس عن سبب عودته للملاعب، فيرد أنه جاء ليراهن على نفسه للمرة الأخيرة. جاء ليراهن على «الحريف».
راهن ليونيل ميسي للمرة قبل الأخيرة، في كوبا أمريكا 2021 في البرازيل، وكسب الرهان أخيرًا، عندما حقق بطولته الدولية الأولى رفقة منتخب بلاده، حاملاً على ظهره كل درس تعلمه من خيبات الماضي، وكل نقد خسارة تحملها وحده، على الرغم من أن الحقيقة لم تكن كذلك.
يعتقد «روي سميث» محلل «ذا أثليتك»، أن ميسي أولاً لا يحتاج إلى لقب دولي، ليثبت أي شيء لأي أحد، والأهم أن يعتقد أنه على الرغم من امتلاك منتخب الأرجنتين لجيل ذهبي، كان من المفترض أن يحقق لها كل شيء، إلا أن هؤلاء اللاعبين كانوا أكثر اتكالاً على ميسي في الملعب، وعلى تحميله الهزائم خارج الملعب، إضافة إلى سياسات الأندية التي تعتمد في ربحها على إنتاج و تصدير الشباب أصحاب المواهب الهجومية فقط إلى أوروبا. ويسأل قبل أن تلوم ميسي، متى آخر مرة شاهدت مدافع أو حارس أرجنتيني بمستوى عالمي؟
سيراهن ميسي رهان أخير في مونديال قطر 2022 بعد عدة أيام، سيلعب وهو يبدو أكثر جاهزية، وأكثر خبرة بهذه البطولة من ذي قبل، فقد أثقلته التجارب الصعبة بندوبها. فهو القائد الذي يتصل على زملائه أسبوعيًا للاطمئنان على جاهزيتهم للمونديال، وهو نفسه الذي يصرح بأنه سيستمتع فقط بالبطولة، ويعطي ترشيحات للبطل، دون أن يضع الأرجنتين.
سيلعب ميسي لمرة أخيرة رفقة الأرجنتين، في قطر، ونأمل أن تكون الطلة الأخيرة، كآخر نظرة ألقاها فارس الحريف علينا، بعدما حَوَل تأخر فريقه من 4-0 لفوز بخمسة أهداف، وترك البسمة والهتاف على شفاه محبيه إلى الأبد.