«ميسي» و«رونالدو»: فن صناعة الوهم
عالم الكرة حافل بالمقارنات، الجماهير تهوى تلك اللعبة، إنها تُضفي على المنافسة مزيدًا من الحدة تصل أحيانًا حد العداء. والذي عاصر السنوات العشر الأخيرة في عالم الكرة، يشهد كيف أن التنافس بين برشلونة وريال مدريد اكتسب بعدًا عنيفًا بتواجد النجمين الأبرز «ميسي» و«رونالدو» على رأس المعسكرين على الترتيب.
ترافق هذا مع صعود السوشيال ميديا، ونجم الإحصاء الرياضي، حيث «أوبتا» و«هوسكورد» يقدمان تقريبًا كل ما تحتاج إليه من أرقام وتفصيلات. لكن تبقى كرة القدم على ما أعتقد أكبر من الأرقام مهما كانت دقتها ودرجة تفصيلها، تبقى شيئًا بشريًا لا تستطيع الأرقام تصويره بدقة. الجمهور هذه الأيام – مع ذلك – يلجأ للأرقام، يفرط في إضفاء الأهمية على ما تمثله، برغم أن الفُرجة – إذا جاز التعبير – لا تُختزل في الأرقام، لكنك أحيانًا تضطر إلى استخدام أدوات العصر كي تصل للحقيقة وتقدمها باللغة التي تسود اليوم.
موضوع المقال هو العنوان الأبرز لكرة القدم العالمية: ميسي أم رونالدو؟ هل ميسي هو سيّد اللعبة أم أنه الهرموني المتخاذل؟ هل رونالدو هو صاروخ ماديرا أم أنه الجناح الذي انتهى؟ لنبدأ إذن دون حساب ردود الأفعال الساخطة والانفعالات والانحيازات.
ميسي أو رونالدو، من هؤلاء؟!
في كل مقارنة لابد هناك من أوجه، وفي كرة القدم يمكنك أن تقارن مركزًا بمركز، أي أن تطرح سؤالًا يشبه السؤال التالي: من هو رأس الحربة الأفضل على مستوى العالم، «سواريز» أم «كريم بنزيمة»؟ لكن لا يمكنك أن تسأل من الأفضل بين «إيدين هازارد» و«كيليني» ذي الجرينتا، فتقييم كيليني يعتمد على التدخلات الناجحة والاستخلاص وكذا،بينما هازارد سيتم تقييمه بناءً على المراوغات والتهديف وصناعة اللعب.
لذا حين نتعرض لسؤال ميسي ورونالدو فيجب علينا أن نحدد بدقة في أي مركز يلعب كل منهما، لا يجوز أن نكتفي بالاعتماد على الرسم الخططي ومركز «البولجا» و«الدون» في تشكيلتي فريقهما. فإذا كان برشلونة يعتمد على 4-4-2 كلاسيكية طيلة الموسم، يتواجد فيها «ليو» بجانب «سواريز» كرأس حربة ثان، فإن الشكل في الملعب يختلف تمامًا. على الجانب الآخر تتراوح خطط «زيدان» بين 4-3-3 يتواجد فيها «الدون» كجناح على الورق، أو 4-4-2 دياموند يتواجد فيها «الدون» كرأس حربة بجوار «بيل» أو الظاهرة «بنزيما»، لكن ما يحدث في الملعب مختلف تمامًا، فبمراجعة الخريطة الحرارية لكلا اللاعبين ومتوسط تمركزهما ستجد تباينًا منطقيًا.
تُظهر الخريطة الحرارية أن ميسي تواجد أكثر في منطقة متوسط الميدان كلاعب رقم 10 حر يميل بشكل فطري إلى اليمين، بينما يظهر تواجد رونالدو أكثر في منطقة جزاء الكتلان، هذا ما يمكن أن توضحه أكثر خريطة لمسات كلًا منهما، حيث لمس رونالدو الكرة 11 مرة في منطقة جزاء البارسا من أصل 47 لمسة طوال المباراة، بينما لمس ميسي الكرة في منطقة جزاء العاصميين 11 مرة لكن من أصل 81 لمسة، على جانب آخر لمس رونالدو الكرة 13 مرة فيما وراء خط المنتصف، منها 4 لمسات في لقطات الدفاع في الركنيات داخل منطقة جزائه، مقابل 16 لمسة لميسي.
يستمر هذا النمط عبر الموسم، حيث يتواجد ليو بكثافة في منطقة صناعة اللعب، بينما يتواجد كريستيانو في منطقة العمليات أو قريبًا منها، ففي مواجهة اليوفي كانت هذه خرائط لمسات النجمين:
في كلتا المباراتين كان ميسي ورونالدو أصحاب اللقطة، فكلاهما سجل هدفين، لكننا نرى من الخرائط أن البولجا لمس الكرة ثلاث مرات في منطقة جزاء السيدة العجوز من أصل 80 لمسة، بينما حظي الدون بـ12 لمسة للكرة داخل منطقة جزاء بطل إيطاليا من أصل 49 لمسة. هذا التباين الشاسع بين انخراط ليو وكريستيانو في اللعب، التباين الذي يظهر في معدل لمس كل منهما للكرة خلال المباراة، ومناطق لمسها والتواجد الكثيف، يعطينا فكرة عن اختلاف المراكز، كريستيانو رونالدو يحظى بوقت أطول داخل الصندوق وحوله، بينما يقضي ميسي وقتًا أطول في مناطق التحضير الأبعد عن الصندوق.
هنا تصبح المقارنة أكثر تعقيدًا؛ لأننا نواجه مقارنة لاعب متوسط ميدان هجومي، بلاعب يتحرك من مركز الجناح على الورق ليستقر كرأس حربة صريح في صندوق الخصم. تلك المفارقة، هذا التناقض تعززه عدة أرقام.
ماكينات التهديف الوحشية
في 3366 دقيقة هذا الموسم سجل ليونيل ميسي 41 هدفًا بمعدل 0.9 هدف في المباراة وصنع 14 هدفًا، مقابل 42 هدفًا لرونالدو في 2995 دقيقة بمعدل 1.1 هدف، بينما قدم الدون 8 أسيست لزملائه. تكتمل خريطة تمركز اللاعبين عبر الموسم بالتدقيق في معدلات التصويب وتوزيع مواضع التسجيل.
يسدد ليو بمعدل 5.4 تسديدة منها 2.7 تسديدة من خارج الصندوق، أما الدون فمعدل تسديداته الكلي ليس فقط أعلى بـ6.8 تسديدة في المباراة، بل إن معدل تسديده من خارج الصندوق ينخفض إلى 1.4 تسديدة أي نصف معدل البولجا.
الرقم الأكثر إيضاحًا هو التسديدات من داخل منطقة الستة ياردات: 0.8 تسديدة لرونالدو مقابل 0.3 فقط للبولجا، وفي المجمل يسدد البولجا 2.4 تسديدة من داخل الصندوق، مقابل 4.6 تسديدة لصاروخ ماديرا.
تلك الأرقام لا يمكن فصلها عن خرائط التمركز، فالأرجنتيني الذي يؤدي كمتوسط ميدان هجومي صريح يجد ضالته في التسديد والتسجيل من خارج الصندوق، عكس رونالدو الذي أتاحت له أبجديات تمركزه كرأس حربة صريح الفرصة لمواجهة المرمى من مسافات أقرب.
كل ما سبق كان حديث التهديف، والدلالة الأكيدة هي أننا أمام صراع تهديفي من مواضع تعطي لأحد الطرفين ميزة عن الآخر، ومع ذلك فالطرفين شبه متساويين في أرقام التهديف.
كيف تجهز الكعكة وتأكلها؟ «ليو» يجيب
يبدو رونالدو قريبًا من ميسي في أرقام صناعة اللعب، فالذي يقرأ أرقام هذا الموسم سيجد 14 أسيست لميسي مقابل 8 للدون، الفارق ليس شاسعًا في ظل ما يقال عن عبقرية البولجا في التمرير والرؤية، لكن التدقيق في أرقام صناعة اللعب والتمرير سيقودنا إلى تفوق كاسح للبولجا.
2.3 تمريرة مفتاحية في المباراة مقابل 1.4 للدون، بينما يقدم ميسي 0.4 أسيست في المباراة مقابل 0.2 للدون، هذا فيما يخص الموسم الحالي، لكن بالنظر إلى التاريخ، سنكتشف بطلان الحجة التي طالما استخدمت ضد ليو، والتي صورت أنه صنيعة «تشافي» و«إنيستا»، بالنظر لإحصائيات موسم 2011- 2012 على سبيل المثال سنجد أرقامًا مخيفة:
سجّل البولجا في الليجا ودوري الأبطال 64 هدفًا وصنع 21 آخرين، تلاه في قائمة الهدافين رونالدو برصيد 56 هدفًا، الأكثر غرابة أن «أوزيل» صنع 20 هدفًا ، بينما قدم تشافي وإنيستا معًا 18 أسيست؛ أي أن أوزيل حل ثانيًا بعد ميسي نفسه وهذا هو الغريب! ففي نفس وقت الحديث عن استفادة ميسي من هدايا تشافي وإنيستا، يسجل أوزيل زميل رونالدو وصانع ألعاب ريال مدريد 20 أسيست في الموسم، دون حديث عن استفادة الدون من تواجد أحد أفضل صناع اللعب بجانبه.
المثال الآخر هو موسم 2013- 2014، موسم تحقيق العاشرة لريال مدريد، سجل رونالدو 48 هدفًا، في ظل تواجد «أنخيل ديماريا» على قائمة أفضل صناع اللعب بـ22 أسيست في نفس الموسم، مقابل 15 لـإنيستا وتشافي مجتمعين، لذا لا ندري من أين ظهرت الموضوعة القائلة بأن البولجا الذي كان في ظل تواجد إنيستا وتشافي هو صاحب أحسن أسيست في البرسا إن لم يكن في الليجا كل موسم هو صنيعتهم!
على ذكر صناعة اللعب، فالبرازيلي «داني ألفيش» هو أكثر من قدم أسيست للأرجنتيني حتى في ظل سنوات مجد تشافي وإنيستا. من المفهوم أن تأثير تشافي وإنيستا على منظومة البرسا هو أعمق بما لايقارن بتأثير أوزيل وديماريا، لكن ذلك في إطار تدوير المنظومة كاملة، حيث لعب تشافي كارتكاز مساند، أما إنيستا فقد كان يلعب رقم 8 قريبًا من الخط، بينما لعب أوزيل وديماريا أثرًا مباشرًا يتضج في أرقام الأسيست، وباعتبار أنهما كانا يلعبان في موضع صانع اللعب الصريح أو الجناح، لكننا لم نسمع مقولة تواجد ديماريا وأوزيل بجانب رونالدو وكيف أنهما من صنعوه.
في ثلاثة مواسم مع ريال مدريد بداية من موسم 2010- 2011 قدم أوزيل 60 أسيست، بينما في نفس الفترة قدم إنيستا 28 أسيست، وقدم تشافي 30 أسيست، أما ميسي ذاته فقدم 56 أسيست؛ إذن في أي إطار يمكننا الإجابة على مسألة أن ميسي صنيعة تشافي وإنيستا؟! في إطار الحقيقة أم صناعة الوهم! فالحقيقة أن رونالدو كان يأكل كعكة التهديف دون أن يشارك كثيرًا في صناعتها.
إن تواجد ميسي في مراكز صناعة اللعب وقدرته على الرؤية ودقته في التمرير الكاسر للخطوط، جعلته يتربع على عرش صناع اللعب في الليجا والأبطال منذ 2009- 2010، بـ147 أسيست في 34698 دقيقة، بمعدل 0.36 أسيست في المباراة، مقابل 0.29 لرونالدو.
إننا هنا نتحدث عن رجل استطاع مقارعة أعتى صناع اللعب في الليجا ودوري الأبطال، متفوقًا في كل عام على لاعبين بقيمة تشافي وإنيستا يعدان مرجعية في التمرير وصناعة اللعب، ومقارعة أحد الهدافين التاريخيين في تاريخ المسابقات الأوروبية، من مواقع صانع اللعب والجناح والمهاجم الوهمي، وهو في نفس الوقت قد أتم 284 مراوغة في هذا الموسم حتى اللحظة في مقابل 71 مراوغة أتمها البرتغالي.
أوجه المقارنة والتفوق!
يخوض ميسي معركة التهديف من موقع صعب، موقع اللاعب الذي فرضت عليه ظروف البارسا أن يبدأ اللعب من دائرة المنتصف، أن يسهم في تدوير الكرة بمعدل 51.2 تمريرة في المباراة، وقد رأينا أنه لم يعد يلعب كمهاجم صريح أو وهمي، بل رقم 10 يتحمل وحده مسؤولية صناعة اللعب في برشلونة، في ظل انخفاض مردود ثلاثي متوسط ميدان البارسا.
لكن على مستوى أرقام التهديف يسير الرجلان كتفًا بكتف، وإن كانت لميسي ميزة تمركزه الأبعد عن الصندوق. أما في صناعة اللعب فلم يعد ميسي يجد منافسًا، ففي موسم الثلاثية الثانية، صنع ميسي 23 هدفًا وسجل 53 آخرين، هذا الموسم الذي جردوه فيه من تشافي، صانع اللعب، وزاحموه بسواريز ونيمار في الأمام.
رونالدو تحول إلى لاعب صندوق، خطورته على المرمى تنحصر في ترجمة الفرص، وبخروجه خارج الصندوق يصبح لاعبًا زائدًا عن الحاجة، غير قادر على مراوغة أو تمريرة ذكية، وهو عبر مسيرته لم يستطع كسر حاجز الـ15 أسيست في الموسم سوى موسم 2014- 2015 بـ16 أسيست.
لذا؛ فالاستنتاج النهائي يؤكد ما نراه تمامًا: ميسي يشترك في كل ألعاب برشلونة ولا يبدأها سواه، ورونالدو ما زال قادرًا على مقارعته في التهديف، بينما في صناعة اللعب والمراوغة والأدوار التي تتطلب الابتعاد عن الصندوق انهزم البرتغالي بلا رجعة، ليس لأن العمر قد تقدم به، بل لأن لكل لاعب مواصفات، والبرتغالي صفته الأهم الفتك أمام المرمى، وتلك صفة واحدة مما يمتاز به ميسي.