رسائل «داوود عبد السيد»: حنين جارف إلى الحياة
عالم «داوود عبد السيد» هو عالم استثنائي وشديد الخصوصية في السينما المصرية. داود من المخرجين القلائل الذين يمكن نعت سينماهم بسينما المؤلف، ليس فقط لقيامه بكتابة غالبية أفلامه بل لأنه حتى أفلامه التي اعتمدت على أصل أدبي مثل «الكيت كات»، و«سارق الفرح»، أو كتبها غيره مثل «أرض الأحلام»، تنتمي إليه أكثر من كتابها الأصليين ويمكننا بسهولة أن نجد روابط واضحة تربطها بعالمه السينمائي الأصيل. هناك روح واحدة تنظم أفلامه معًا مثل عقد فريد.
الملامح العامة لعالم داوود عبد السيد السينمائي
يقف بطل داوود في بداية كل فيلم على عتبات عالم جديد أو قديم مستعاد، يعد بحرية أكبر وبراح أوسع بعد أن صار عالمه القديم ضيقًا مثل سجن. ميلاد جديد للبطل في عالم غريب يكتشفه بعيون مفتوحة على اتساعها كطفل يكتشف الحياة للمرة الأولى. هذا العالم الجديد ليس عالمًا خياليًا ولا أسطوريًا، إنه عالمنا الذي نعيش فيه كل يوم لكن لأسباب مثل الخوف أو العجز، يظل البطل بعيدًا عن هذا العالم.
أبطال «داوود عبد السيد» هم أطفال متوحدون يتأملون العالم من بعيد حتى تصير الحدود/التقاليد القديمة، التي طالما احتموا بها كحيوان رخو داخل صدفته، سجنًا لا يحتمل. هنا تأتي اللحظة المناسبة لتدفع بهم يد المخرج في التجربة (يوسف كمال في البحث عن سيد مرزوق، يوسف أيضًا في الكيت كات، نرجس في أرض الأحلام، ويحيى في رسائل البحر).
اقرأ أيضًا:عبد السيد لـ«إضاءات»: القيود يخلقها القمع ﻻ القدر
يقول «سيد مرزوق/علي حسنين» لـ«يوسف كمال/ نور الشريف» في فيلم «البحث عن سيد مرزوق»: «كل مدينة لها مفتاح ولها باب تدخل منه» وعالم داوود السينمائي ثري جدا يمتلك الكثير من المفاتيح والكثير من الأبواب التي يمكن الدخول منها، إشارات وتفاصيل ورسائل تغوي بالقراءة والتأويل.
هناك مستويات مختلفة يمكن التطرق لها لقراءة سينما داوود عبد السيد منها الديني، والسياسي، والذاتي. في هذه المساحة المتبقية من المقال سنعرض لقراءة وجودية تم التلميح لها في عدة قراءات نقدية من قبل دون التعمق فيها، وأشار لها داوود أكثر من مرة في محاوراته. سنتعمق قليلاً في بئر «داوود عبد السيد» مستضيئين بالفلسفة الوجودية، خاصة عند هايدجر، من أجل قراءة رسائله بعيون جديدة.
نظرة عابرة على «أرض الخوف»
ترى الفلسفة الوجودية أن ماهية الإنسان هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، وأن الإنسان حر في اختياره بين الممكنات المتاحة، وأن الاختيار الحر هو تأشيرة الوجود في العالم.
«يحيى/أحمد زكي» في «أرض الخوف»، الذي اختار بمحض إرادته أن يترك عمله كضابط من أجل مهمة محددة، بمعنى أنه كان يدرك من البداية ما هو مقبل عليه. هو تاجر مخدرات وقاتل، ولكن هل يغير من تلك الحقيقة أنه في مهمة من سلطة أعلى؟ هل الغاية تبرر الوسيلة اإذن؟ ما الفرق بين يحيى إذن وبين «المعلم هدهد/حمدي غيث» والذي يملك يقينًا شبه ديني يبرر له ما يفعل.
ما أظن أن داوود يريد قوله هنا هو أن على الإنسان أن يتحمل عواقب اختياراته مهما كان المبرر لهذه العواقب، وهذا ما سيدفع الإنسان أن يختار ما يريده فعلاً وليس ما هو مفروض عليه، سواء من السلطة أو المجتمع لأنه سيعيش مع نتيجة خياره للأبد.
وبهذا الصدد سنجد أن الفارق بين المعلم هدهد ويحيى هو أن المعلم هدهد تبدو خياراته أكثر اتساقًا مع ذاته ومع تصوره للعالم على عكس يحيى الذي قاده إيمانه بالسلطة وثقته فيها إلى أرض لم يرغب أبدًا أن تطأها قدماه. يقودنا هذا الفهم لفلسفة «مارتن هايدجر» الفيلسوف الوجودي الذي أرى في سينما «داوود عبد السيد» امتدادًا لها.
الوجودية بين هايدجر وداوود عبد السيد
يرى «هايدجر» أن الإنسان كائن اجتماعي، يولد بين الناس ويعيش بينهم. هذا الآخر الذي تساكنه وتجاوره يستولي على ذاتك، فتشعر كما يشعر أو تفكر مثلما يفكر. تذوب الذات في الآخر، سواء كان هذا الآخر هو الطبقة التي تنتمي إليها، أو المجتمع الكبير بأعرافه وتقاليده، أو السلطة التي تحكم أو باختصار كل ما تلجأ إليه لتفر من حريتك، وهو ما يفضي إلى ما يسميه هايدجر «الوجود الزائف للذات».
لكن لماذا يفر الإنسان من الحرية؟ لأن الحرية مخيفة حيث تضعك وحدك أمام كل إمكانات الوجود وعليك أن تختار وتتحمل عواقب اختيارك. هذا الاختيار سيدخلك إلى عالم جديد لا شيء فيه مضمون ولا شيء فيه صافٍ، جنة من الورود والأشواك. ولأن الإنسان يخاف من الشوك فإنه يضحي بالورد. يضحي بوجود حقيقي وأصيل مقابل وجود زائف في أحضان الآخر الذي يظن أنه يحميه، يرضى بالقيود والحدود المفروضة لأنه يراها أكثر أمانًا من متاهة الحرية.
تبدأ سينما داوود من اللحظة التي يقرر فيها البطل الخروج من حضن الآخر، ومن جنة اليقين إلى أرض غريبة لا تنبت إلا الشك والقلق. هذا القلق الذي يراه الوجوديون دوار الحرية. تفضي مغامرة الحرية في أرض الخوف إلى تغير في نظرة الفرد إلى حياته السابقة؛ فيوسف كمال في «البحث عن سيد مرزوق» يتساءل بعد أن ذاق طعم المغامرة وعانق دوار الحرية: «إزاي ممكن أرجع لحياتي الأولانية بعد كده؟» وربما يفسر ذلك أيضًا حنين يحيى إلى أرض الخوف.
المثال الأكثر وضوحًا هو «يحيى/آسر ياسين» في فيلمه «رسائل البحر». لقد عاش يحيى طيلة حياته كما يريد الآخرون، عاش وجودًا زائفًا عاجزًا عن مواجهة الآخرين بذاته الحقيقية. يمكننا أن نرى تأتأته تعبيرًا عن هذا العجز فهو يتأتئ مع الناس فقط ولذلك تقول له «نورا/بسمة»: «مش ملاحظ إنك مش بتهته» الأمر إذن قرين بقدرته على توصيل ذاته الحقيقية للآخر. يذهب يحيى إلى الإسكندرية، مدينة طفولته حيث كان أكثر حرية في التعبير عن نفسه. يقول حين يفتح نافذة تطل على البحر: «يومها لما شفت البحر حسيت إنه بيناديني»، نداء البحر هو نداء الحرية.
لا شيء مثل البحر يستطيع أن يحمل ثقل هذا المجاز، الجمال والغواية المقترنان بالخطر والموت، الإنسان في شباك العالم محاطًا بالموت. يعطيه البحر رزقه مرة وهو غير محتاج، ويحرمه مرة وهو في أمس الحاجة فيصيح يحيى في وجهه: «دا ظلم ولا فوضى؟» إنها فقط فوضى الاحتمالات يا يحيى، الثمن الذي تدفعة من أجل حريتك، من أجل وجود أصيل وحقيقي في هذا العالم.
لكن ماذا تعني رسالة البحر الغامضة ليحيى؟
في فيلمه «سارق الفرح» يجلس «عوض/ماجد المصري» أمام ضريح سيدي أبو العلامات منتظرًا إشارة تخبره بما يفعل. هو يعرف ما يرغب في فعله لكنه خائف من عواقبه وبالتالي يفسر أي شيء صادف حدوثه أثناء انتظاره للإشارة على هواه من أجل دعم نفسي من قوة غيبية، أو انتظار يحيي المنقبادي ردًا من السلطة التي كلفته بالمهمة لتخبره هل يسير في الطريق الصحيح أم تجاوزه؟ رسالة البحر ليحيى هي عكس ذلك تمامًا: «افعل ما تشاء وتحمل عواقب فعلك حتى لو انتهى بك الأمر مع من تحب في قارب ضيق محاطًا بالقبح والموت».
ماذا تعني الرواية المحترقة في فيلم مواطن ومخبر وحرامي؟
بعد أن حقق «سليم سيف الدين/خالد أبو النجا» نجاحًا كبيرًا ككاتب، كان يشعر دائمًا أن الرواية المحترقة هي أفضل ما كتب. الرواية التي أحرقها الحرامي «شعبان عبد الرحيم» لأنها رواية كافرة، ضد التقاليد والأعراف التي تحكم، والتي يرعاها الحرامي، ويؤيده المخبر ممثل السلطة في ذلك. وعليى الرغم من ثورته على الحرامي لحرقه روايته، فإنه لا يكتب بعد ذلك كلمة دون أن يقرأها الحرامي ويوافقه عليها، بل يصير ناشره الرسمي.
النسخة المحترقة هي تعبيره الأصدق عن ذاته، هي المعبر عن وجوده الحقيقي في مقابل الوجود الزائف. ما يفعله المواطن في هذا الفيلم هو حركة في الاتجاه المعاكس لأبطال «داوود عبد السيد»، فهو بدأ متمردًا ثم انتهى ممتثلاً في أحضان الآخر، لذلك أجد فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» واحدًا من أكثر أفلامه تشاؤمًا.
إذا كانت مزامير النبي داوود تمجد الرب، فمزامير داوود عبد السيد تمجد الحياة على هذه الأرض. أفلامه هي رسائل موسومة بالمحبة وتفيض بالحنين لوجود أصيل وحقيقي في هذا العالم.