«رسالة الخلود» لمحمد إقبال
ما الدينُ؟، هو السّمو عن وجه التّرابِ، والتعالي على الماديات؛ لكي يتعرف الإنسانُ على ما بين جوانحه من روح طاهرة بريئة من أوْضَار المادة.
من أنا؟، من أنت؟، أين العالم؟، لِمَ البعدُ بيننا وبينك؟!، قل لي لماذا أنا في قيد القدر؟، أنت لا تموت لِمَ أموت أنا؟!.
إن من قال «هو الله» لا يحتويه هذا النظامُ الكوني ذو الأبعاد، فالروح لا تحتويها الجهاتُ، والرجلُ الحُر بمنأى عن كل قيد. إن الرجلَ الحر ينهضُ صائحًا من الترابِ المظلم، والصقرُ لا يليقُ به أن يكونَ فأرًا.
إذا أردت الحياة تقدّم بذاتيتك، أغرق عالم الأبعاد في ذاتك.
أصدرت مكتبة الشروق الدولية طبعة ثانية مزيدة ومنقحة للترجمة العربية لكتاب «جاويد نامه» رسالة الخلود، كُتب النص في الأصل بالفارسية وترجمه الدكتور محمد السعيد جمال الدين، ومؤلف الكتاب هو الشاعر والمفكر والفيلسوف محمد إقبال.
وُلد محمد إقبال في سيالكوت من أعمال البنجاب عام ١٨٧٨، وتلقى تعليمه في مدينة لاهور، وفي 1905 سافر إلى إنكلترا وألمانيا، حيث تابع دراساته الفلسفية، ثم عاد بعد ثلاث سنوات إلى الهند ليمارس فيها المحاماة، ويقال: إنّ ثلاثة أشياء تركت أثرًا عظيمًا في نفسه بالنسبة إلى أوروبا: الحيويّة والنشاط في الحياة الأوروبية، فالإمكانات الضخمة المتوافرة للإنسان، ثم الأثر اللاإنساني الذي تركه المجتمع الرأسمالي في نفس الإنسان الأوروبي، وقد قوى الاعتبار الأخير إيمانه بتفوق الإسلام كمثال خُلقي وروحي، فوقف حياته على الدفاع عن هذا المثال وعلى تطويره [1].
جاويد نامه، نص شعري نظمه إقبال على وزن المثنوي، الذي يُعد من أطول وأشهر منظوماته كلها ونشره في عام 1930م. تُرجم هذا المثنوي ترجمات عدّة، نذكر منها: ترجمة آنا ماري شيمل إلى الألمانية والتركية، ونُشرت الترجمة الألمانية في مينشين عام 1957، ونشرت الترجمة التركية في أنقرة عام 1958م. وبالاشتراك مع محمد مقيم ترجمت إيفا ميروفيتش المنظومة ونشرتها في باريس عام 1962م. كما ترجمها آرثر آربري إلى الإنجليزية ونشرها في لندن عام 1966م.
وفي عام 1973 نشر الأستاذ حسين مجيب المصري ترجمته الشعرية للمنظومة بعنوان: «في السماء» في القاهرة، ثم أتى من بعده الدكتور محمد السعيد جمال الدين الذي نال درجة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة عين شمس عن دراسته وترجمته لمنظومة جاويد نامه، ونشرها في القاهرة عام 1947.
جاويد نامه قصة سفر في الأفلاك تذكرنا في الشرق بمعراج البسطامي والقشيري وابن عربي والخرقاني، وغفران المعري، وسنائي والعطار، ومن قبلهم معراج النبي الأكرم، وتذكرنا بفاوست والكوميديا الإلهية وغيرها من روائع الأدب الأوروبي. لا شك أن إقبال تأثر بكل هؤلاء وغيرهم، إلا أنه أضفى على الموضوع سحرًا وجمالاً وصدقًا وجدّة في كثير من الأفكار التي تجعل لازمًا على قارئها حتى يسبر غور ما فيها من دروس ومعانٍ أن يتزود بزاد ليس بالقليل من الأدب والتصوف والفلسفة والتاريخ [2].
جاويد نامه هو النص الشعري الوحيد الذي يقوم على بنية مسبقة مثل المذاهب الفلسفية، وليس تجميع موضوعات متفرقة، وقصائد متباينة تحت عنوان واحد كما هو الحال في أغلب أشعار إقبال الأخرى، لذلك أخذت هذه المنظومة طابعًا نظريًا خالصًا أقرب إلى التجريد منه إلى تحليلات الواقع المباشر وحال الأمة [3].
لجاويد نامه مقدمةٌ فيها مناجاة وفصولٌ أخرى، إلى أن تظهر روحُ جلال الدين الرومي، الذي يتخذه إقبال في هذه الرحلة مرشدًا ودليلاً، ويبدأ في شرح أسرار المعراج له، ثم يأتي زروان وهو روح الزمان والمكان، فيحمل الشاعر ودليله إلى العالم العلوي، فيسيحان في الأفلاك الستة: القمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، ثم فيما وراء الأفلاك، ويختم المنظومة برسالته إلى ابنه جاويد.
المعراجُ هو الفكرة الأساسية لجاويد نامه، والشاعر ملتزمًا بالتقاليد الشعرية الفارسية يبدأ منظومته بالمناجاة والدعاء الذي يذكرنا بأبيات الرومي في بداية المثنوي وأغنية الناي، يطلب القرب من ربه كي ينطلق إلى غايته: «وجهك إيماني أنا، قرآني أنا، وجهك هو هدفي الأسمى ومطمحي. إني ألفيتُ نفسي غريبًا تحت السماء، فقل لي: إني قريب!؛ كي تغرب الشمس والقمر؛ فأعبر طلسم الأمس والغد»[4].
يمهّد إقبال لموضوع منظومته بعد المناجاة بتمهيدين: تمهيد في السماء يتمثل في أنشودة تنشدها الملائكة معبرة عن إعجابها بالإنسان المتحقق الذي ترقى بنفسه وأحبه الله، وتمهيد في الأرض تحل فيه روح مولانا جلال الدين الرومي على الأرض ويدور حوار بينه وإقبال عن معنى المعراج، ويصفه الرومي بأنه «ثورةٌ في الشعور» وتتوق روح إقبال إلى العروج بعد حواره مع مولانا، فينطلق من الأرض إلى القمر.
يقوده المرشد الرومي إلى القمر ولا ينظر إلى شيء ليواصل المسير «أيها المسافرُ إن الروح تموت من المقام، وتكون أكثر حياة بفعل التحليق المتواصل». في الطريق غارٌ في جبلٍ يلتقي إقبال أحد عرفاء الهند هناك، ويدور بينهما حوار فلسفي، ثم ينتقل بعدها ومرشده الرومي إلى «وادي الطواسين» كما تسميه الملائكة! فطاسين لمُحمد، وطاسين لبوذا، وطاسين لزرادشت وطاسين للمسيح مكتوبات على أربع صخرات.
في هذا الفلك «القمر» يبين إقبال ما تتميز به رسالة الإسلام على غيرها من الفلسفات والأديان، والمرحلة الثانية في العروج كانت «فلك عطارد» وفيها يقابل إقبال جمال الدين الأفغاني وسعيد باشا حليم السياسي التركي ويقدم الرومي إقبال إليهما ويدور حوارٌ بين إقبال والأفغاني، ويوجه سعيد باشا نقدًا عنيفًا لحركة مصطفى كمال أتاتورك ويتوجه برسالة إلى الأتراك: «إن الأصالة كامنة في جذور كل مخلوق، وإصلاح الحياة وتقويمها لا يكون أبدًا بالتقليد. إن القلب الحي هو الخلاق للعصور والدهور، وتفقد الروح حضورها بالتقليد»[5]!
ويوضح إقبال في هذا الفلك ملامح «العالم القرآني» وما حدث لنفس المسلم في عصره، ويوجه رسالة إلى الأمة الروسية يبين فيها أوجه التشابه والاختلاف بين الإسلام والشيوعية، ويدعو الروس فيها إلى الإيمان بالله ويبكي حال الأمة الإسلامية.
وفي «فلك الزهرة» يتحدث إقبال عن الوثنية الجديدة، والأصنام التي عادت بعد مفارقة الحياة، ويعزو عودة بعض الأصنام إلى المستشرقين والمستعمرين ممن بذروا بذور الشك فأثمرت في البلاد الإلحاد!، وفي هذا الفلك تظهر ثلاث شخصيات؛ شخصية فرعون، ومهدي السودان، وكتشنر اللورد الإنجليزي الذي ارتبط اسمه بالاستعمار في مصر والسودان والهند، وانتهت حياته بغرقه في سفينة وهو في طريقه إلى روسيا.
وفي «فلك المريخ» يشاهد إقبال المدينة الفاضلة والعالم المثالي: كلام سكانها حلو كالعسل، الحُسنُ في وجوههم، والرقة في شمائلهم، بالهم ليس منشغلاً بحُمى الكسب، فهم يعرفون سر كيمياء الشمس، يستخلص كل من يريد الفضة والذهب من النور، مثلما نستخلص نحن الملح من ماء البحر، وهدف العلم والفن هو الخدمة لا غير، فلا أحد هنا يزن الأعمال بالذهب، فليس لهذه الأصنام من سبيل إلى هذا الحرم.
وفي «فلك المشترى» تظهر الأرواح الجليلة «حلاج الأسرار الصوفي، وغالب الشاعر الهندي، وقرة العين الشاعرة التي آزرت الدعوة البابية»، ويصف إقبال هذه الأرواح بالتي رغبت عن البقاء في الجنة وفضلت أن تجول إلى الأبد. ويصف الأستاذ محمد السعيد جمال الدين هذا المشهد بأروع المشاهد في رسالة الخلود، فمن الناحية الفكرية يناقش إقبال مع هذه الأرواح قضايا غاية في الأهمية تتعلق بالفاني والباقي، والوجود والعدم، والقدر والحقيقة المحمدية.
ويمثل «فلك زحل» آخر الأفلاك في هذا العالم، وإقبال بذلك يقتفي أثر عبد الكريم الجيلي في معراجه حيث عرج من المشترى إلى زحل، ولكن إقبال يختلف في تحديد طبيعة هذا الكوكب، فالجيلي يعتبر أن الله خلق سماء زحل من نور العقل، وجعلها المنزل الأفضل، فتلونت بالسواد، إشارة إلى سؤددها والبعاد [6].
ويختم إقبال رسالة الخلود بخطاب إلى ابنه جاويد وبحديث للجيل الجديد بشكل عام.
[1] راجع: ماجد فخري، تاریخ الفلسفة الإسلامیة منذ القرن الثامن حتی یومنا هذا، ترجمة كمال يازجي، نشرة دار المشرق، بيروت، 2000، ص 535.[2] راجع: دراسة عن جاويد نامه كتبها الأستاذ محمد السعيد جمال الدّين وضمّنها كتابه «الأدب المقارن-دراسات تطبيقية في الأدبين العربي والفارسي» ص ص 57-123. وراجع أيضًا «جاويد نامه» رسالة الخلود ترجمة الأستاذ، نشرة دار الشروق الدولية، القاهرة 2007م.[3] انظر: حسن حنفي، محمد إقبال، فيلسوف الذاتية، نشرة دار المدار الإسلامي، بيروت، 2009، ص315.[4] انظر جاويد نامه، إقبال، نشرة الشروق الدولية، ص 27.[5] السابق نفسه، ص 33.[6] السابق نفسه، ص 315.