الراهب مندل: خطوة على الطريق نحو التطور
في عزلة الدير البعيد جلس يتأمل نباتاته تحت الشمس المائلة نحو المغيب. في ضوء الغسق انطلقت أفكاره سارحة في ألوان الزهور وأشكال الوريقات، البتلات والثمار، النباتات السامقة وتلك المنحنية المثقلة بالحبوب. لم يحادث أحدًا ولم يحادثه أحد لساعات. لا يعترض أحد منوال حياته الصارم. يعيش للرب والعلم ونباتاته بعيدًا عن شرور العالم وجهله.
هكذا رسمت صورة يوهان في تاريخ العلم عامة وعلم الأحياء خاصة. تلك الصورة التي لا أساس لها من الصحة. في هذا التقرير نلقي الضوء على الحقيقة في حياة مندل وتقلباتها.
هو يوهان مندل الذي سيصبح جريجور مندل عند انضمامه راهبًا لدير القديس توماس. الأب مندل الذي سيتحول بعد سنوات من وفاته من مجرد رئيس دير وراهب صاحب علم لا يكاد يفهمه أحد من جيله إلى الأب الروحي لعلم الجينات.
بدايات مرتبكة
في هايزندورف بمنطقة سيليسيا Silesia على أطراف الإمبراطورية النمساوية –التشيك حاليًا-ولد الطفل يوهان لعائلة ذات أصول ألمانية. كان الأب مزارعًا بسيطًا يعمل أجيرًا بشكل جزئي لدى كونتيسة المدينة ويكرس باقي الوقت لمزرعته المتواضعة. لم يتوفر للطفل يوهان الكثير من سبل التعليم بسبب طبيعة طبقته، إلا أن عقله الشغوف استطاع أن يختزن المعرفة التي وفرتها له الطبيعة.
تشرب عقل يوهان الصغير مختلف أسرار حرفة الزراعة خاصة أن اهتمام الكونتيسة كان قد انصب على الزراعة المؤسسة على ركائز علمية. تعلم يوهان أصول العناية بالنباتات وميزت عيناه الصغيرتان أدق تفاصيلها. لمع ذكاؤه وجذب إليه انتباه المهتمين فدفعوا بأبيه إلى إرساله لاستكمال تعليمه في الجيمنازيوم، ذلك النظام الألماني المشابه للمدارس الثانوية الحالية. كان يوهان في الثالثة عشرة من عمره آنذاك.
استطاع مندل الصغير عبور البوابة نحو التعليم الجامعي وحاول دعم نفسه ماديًا بالتدريس لطلبة أغنى منه ليوفر قوت يومه ومصروفات دراسته، إلا أن حادثة أليمة ألمت بوالده وأقعدته عن الحركة. تسبب ذلك في أن يتخلى يوهان عن مطاردة الشهادة الجامعية ويعود للمزرعة ليقوم على شؤونها مع والديه.
في الحقيقة لم يكن هذا هو السبب الوحيد.
تعرض يوهان للكثير من الأزمات النفسية والعصبية؛ بسبب الضغط العصبي الواقع عليه من جراء احتياجه الدائم للمال والعمل المجهد واحتياج الأسرة لعونه وقلقه عليهم. في النهاية قرر يوهان ألا يستمر في هذا العذاب وأن يتخلى عن مسار الدراسة التقليدي متجهًا نحو مسار الرب.
انضم يوهان مندل إلى كهنوت دير القديس توماس في برون Brunn –تدعى الآن برنو Brno-عام 1848. هناك في العزلة والاستقرار المخيم على حياة الرهبان ومع التأمل والهدوء، توافرت للشاب الظروف المناسبة للإبداع. نظرًا لهذا الإبداع والقدرات الواضحة لدى الشاب في الشرح والتدريس، تم إرسال مندل إلى فيينا ليحصل على إجازة License التدريس الرسمية إلا أن هذا لم يحدث.
نصح مدرسوه رئيس الدير بإرساله إلى الجامعة مرة أخرى لاستكمال درجته الجامعية حتى لا تهدر قدراته وهو ما قد حدث. لن تختلف النتيجة للأسف عن المرة الأولى. عادت الانهيارات العصبية اللعينة لتطارده رغم توافر مدرسين من الأفضل في أوروبا في هذا الوقت. على رأس هؤلاء يأتي دوبلر صاحب تأثير دوبلر الشهير.
مناخ مشجع
مع التغيرات السياسية والاجتماعية في المنطقة سيعود مندل إلى الدير وسيقوم بالتدريس في الجيمنازيوم رغم عدم حيازة الرخصة. في هذا الدير أجرى مندل كل تجاربه الشهيرة والأقل شهرة المؤدية لها.
هذه التجارب التي ستمكنه من وضع أساس علم الجينات قبل أن تكتشف الجينات ذاتها؛ تلك التي سنستطيع بواسطتها معرفة كيفية توارث الصفات بواسطة الكروموسومات قبل أن نعرف بوجود الكروموسومات.
ذكرنا في البداية أن الصورة الشهيرة عن الراهب المنعزل ليست صحيحة. يعود السبب وراء ذلك إلى طبيعة الدير المتصل اتصالاً وثيقًا ببعض الشؤون الدنيوية وأهمها الزراعة والحيوانات. كان مندل والرهبان على اتصال دائم ببعضهم البعض مكونين بذلك ما يشبه المجتمع العلمي أو الجمعية العلمية في بريطانيا.
كان للرهبان خبرات واسعة سابقة على انضمامهم للدير جعلت من الدير مركزًا معرفيًا حقيقيًا. ضمت مزارع الدير الكثير من النباتات المجلوبة خصيصًا للبحث والتطوير وتحصيل المعرفة، كما أرادت كونتيسة المنطقة في مقابل احتفاظ الدير بأملاكه وصلاحياته. كان على الدير أن يصبح معهدًا زراعيًا قادرًا على تطوير تقنيات ونوعيات المحاصيل المختلفة.
في هذه الأجواء نبتت بسلة مندل الشهيرة[1].
دير القديس توماس في برنو
لا يمكن إنكار أن فكرة التطور كانت على أقل تقدير «في الأجواء». نشر داروين أصل الأنواع متحدثًا عن وراثة للصفات بطريقة ما لا يدري قوانينها بعد. في نفس الوقت كانت نباتات مندل تخبره بهذه القوانين في سلسلة ضخمة من التجارب. ولكن من أجل سياق أوضح، كيف كان منظور المعرفة حينها للعملية التي تتم الوراثة بواسطتها؟.
صناعة المعرفة
كانت النظرية المسيطرة على فلاسفة الطبيعة فيما يخص توارث الصفات تعرف بنظرية المزيج Blending Inheritance. ما يحدث –طبقًا لتلك النظرية-يتسم بالبساطة الشديدة. عند تزاوج فرد يحمل صفة A مع فرد يحمل صفة B فإن الأبناء سيحملون جميعًا صفة متوسطة بين A وB.
على هذا النسق فإننا إذا قمنا بمزاوجة طائر ذي ريش أبيض مع أنثى ذات ريش أسود فإن الطيور الوليدة يجب عليها أن تحمل ريشًا رمادي اللون؛ الأمر الذي بالقليل من التدقيق نجده مجانبًا للحقيقة في أحيان كثيرة.
قام مندل مع ترسانة من المعرفة الإحصائية الواسعة بإجراء تجارب التزاوج تلك بين الكثير والكثير من السلالات المختلفة مستهدفًا شتى الصفات، لون وشكل وملمس البذور، لون الزهرة والثمرة، شكل الأوراق وملمسها، كل التباديل والتوافيق الممكنة بين كل النباتات التي كانت في متناول يديه أو استطاع جلبها في أسفاره الكثيرة.
كان الأمر واضحًا والنسب مثيرة للدهشة. اختار البسلة لأن النمط الخفي كان واضحًا فيها بشكل مذهل. بواسطة البسلة كان من الممكن أن نري العالم قانون التوارث الذي راوغ داروين. ظهرت لأول مرة في تاريخ البحث الطبيعي فكرة أطلق عليها يوهان اسم «عوامل الوراثة Hereditary factors» التي تمتلك أنواعًا مختلفة تحدد الشكل العام للكائن/النبات.
هذه العوامل التي نطلق عليها الآن اسم جينات Genes وهذه الأنواع التي تسميها الآن Alleles. أما الشكل العام، فهو Phenotype علم الأحياء الحديث.
عمد مندل إلى المحاججة بأنه إذا كانت الصفات عادة تكون نوعين -لونين للزهور أو ملمسين للبذور-فإن النباتات تحمل دائمًا نسختين من عامل الوراثة المسئول عن هذه الصفة. كان مندل هو من سبغ لفظ سائد Dominant ومتنحي recessive على الصفات للدلالة على مدى قدرتها على إظهار ذواتها.
نشرت هذه النتائج على نطاق ضيق بشدة مما أدى لانتظارها حتى القرن العشرين ليعاد اكتشافها والإقرار بأسبقيتها وأبوتها لعلم الجينات الحديث. مع هذا فإن النقاش الدائر لم يتوقف أبدًا في محيط الدير حول هذه الأفكار الراديكالية بالنسبة إلى وقتها. في التواءة تاريخية كان مندل –الذي أصبح رئيسًا للدير- يصنع الطريق نحو النقلة النوعية Paradigm shift التي ستجعل من البيولوجيا الحديثة ما هي عليه الآن.
- Oren Harman and Michael Dietrich – Outsider Scientists, Routes to Innovation in biology. Chapter 1