رجال عصر «محمد الفاتح»
تظل نظرتنا للتاريخ ضيقة الأفق إذا نحن رأيناه فقط تاريخًا للأبطال والقادة، ولم ننفتح على الآفاق الأرحب لنرى فاعلين آخرين لا يقلون تأثيرًا في دفع عجلة هذا التاريخ وصناعة أحداثه وسبك معدنه. كما أننا نظلم هؤلاء الأبطال والأعلام عندما نحمِّلهم فوق ما تطيق بشريتهم من أسباب التقدم والانهيار، أو النصر والهزيمة، ونظلم معهم أنفسنا عندما نفرط في دروس أوسع من التاريخ وفرص أوفر من صناعة المستقبل، ولا ندرك أن الحضارة يصنعها المجموع وليس الفرد.
وليس في ذلك إغفال لدور شخصيات فذة تحملت العبء الأكبر في إنهاض الأمة، وكانت أمة وحدها كما يصفها التعبير القرآني؛ لكننا نريد تسليط الضوء على شخصيات أخرى كانت ديناميكية تحركاتها، باعثة على بث الروح في كل عضو من أعضاء الجسد. كانوا بمثابة «التروس والنواقل» في تلك الآلة الضخمة، أو كأننا نسلط الضوء أيضًا على بدائل للنهوض، وطرائق أخرى لبناء المستقبل، إذا لم يكن لدينا هذا البطل الفذ الذي يقود المسيرة ويصنع المعجزات.
وعندما نتحدث عن السلطان العثماني العظيم أبو الخيرات، أبو الفتح، محمد الثاني (1451-1481م)، فإننا نتناول شخصية فذة من هذا الصنف البطولي الذي صنع علامات يتوقف عندها التاريخ طويلاً.
لكننا نظلم شخصية هذا البطل عندما نحصرها في نطاق ضيق من الجهاد العسكري، وحتى أضيق من ذلك وهو فتح القسطنطينية 1453م؛ فننسى فتوحاته المهمة الأخرى على كثرتها وأهميتها، ثم نركن إلى الجهاد العسكري ونغفل الجهاد الحضاري –إذا جاز التعبير- ولعل أبرزه كان في المجال الحقوقي والقانوني، ثم في المجال الثقافي والتعليمي، والاقتصاد، والعمارة، والدبلوماسية، والإدارة، وغيرها .
وفي خضم ذلك كله نغفل دور رجال ذلك العهد الذين كانوا أركان هذا البناء وأسسه، وأحجار الزاوية فيه، فضلاً عن سابقيهم من الذين مهدوا السبيل ووضعوا المقدمات للوصول إلى تلك النتائج، وها هو السلطان محمد الفاتح نفسه يصرح لمن حوله: «إنكم ترونني فرحًا، فرحي ليس لفتح هذه القلعة (القسطنطينية)، إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين»[1]
فإذا أردنا إلقاء الضوء على رجال عصر[2]الفاتح؛ فلابد لنا من البدء بهذا الرجل متعدد الأدوار متعدد المواهب، الشيخ آق شمس الدين. وكان أيضًا حول السلطان عند فتح القسطنطينية كوكبة من العلماء، كما جاء في تاريخ «جامع الدول»:
الشيخ آق شمس الدين: الفاتح المعنوي للقسطنطينية
مكتشف الميكروبات، المتصوف عالم النبات والطب والصيدلة، علَم من أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني، وهو عالم في الكثير من العلوم الإسلامية، وفي الطب والعلوم والصيدلة، اسمه «محمد شمس الدين بن حمزة»، وهو مُعلّم الفاتح ومربيه، وكان ذلك عندما طلب السلطان «مراد الثاني» من الشيخ «حاجي بايرام ولي» أن يوصيه بمؤدب لابنه محمد الذي عرفناه في التاريخ بعد ذلك بالفاتح، فكان هذا المؤدب هو الشيخ آق شمس الدين.
يتصل نسب الشيخ آق شمس الدين بالخليفة الأول «أبي بكر الصديق»، وكان مولده في دمشق عام 792هـ/1389م، حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في أنقرة، وتوفي عام 1459م. اشترك الشيخ آق شمس الدين في التدريس للأمير محمد الفاتح في مجال العلوم الأساسية في ذلك الزمان، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية، والفقه، والعلوم الإسلامية، واللغات الإسلامية (العربية، والفارسية، والتركية)، وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك، والتاريخ، والحرب.
وعندما أوكل السلطان مراد الثاني إدارة مغنيسيا إلى ابنه الأمير الصغير محمد للتدريب في سن مبكرة على أصول الحكم، أرسله إلى هناك تحت إشراف مجموعة من العلماء على رأسهم الشيخ آق شمس الدين. وقد أثرت مجموعة العلماء هذه الاتجاهات الأمير محمد ثقافيًا وعسكريًا، وأصبح الأمير الصغير هذا من أكثر الأمراء العثمانيين سعة أفق، وإدراكًا وعبقرية.
وكان الشيخ آق شمس الدين يبث في الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش».
بلغ الشيخ آق شمس الدين مكانة كبيرة في نفس تلميذه السلطان أبي الفتح محمد الثاني، وعبر الفاتح عن تهيّبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا، فقال: «إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري، إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة».
كان الشيخ آق شمس الدين عالمًا مشهورًا في عصره؛ ليس فقط في العلوم الدينية، وإنما له بحوثه في علم النبات، ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض، وبلغت شهرته في ذلك أن صار مثلاً بين الناس، والمثل العثماني يقول: «إن النبات ليحدِّث آق شمس الدين».
كان الشيخ يعني أيضًا بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض الروحية، أو ما نطلق عليها اليوم اسم الأمراض النفسية، واشتهر الشيخ في ذلك بلقب «طبيب الأرواح»؛ أي طبيب الأمراض النفسية. واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتمامًا خاصًا بالأمراض المعدية، فقد كانت هذه الأمراض في عصره تتسبب في موت الآلاف، وألّف في ذلك كتابًا بالتركية بعنوان «مادة الحياة» قال فيها:
وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك، ولم يكن الميكروسكوب قد ظهر بعد، ثم وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي «لويس باستير» ليقوم بأبحاثه، وليصل إلى نفس النتيجة.
واهتم الشيخ آق شمس الدين أيضًا بالسرطان، وكتب عنه. وفي الطبّ ألف الشيخ كتابين؛ هما: «مادة الحياة»، و«كتاب الطب»، وهما باللغة التركية العثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبعة كتب؛ هي: حل المشكلات، الرسالة النورية، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي. عاد الشيخ إلى بلدته كونيوك بعد أن أحسّ بالحاجة إلى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في إستانبول، عاد إلى قريته، وبها مات عام 1459م[4].
أبو حنيفة زمانه: الملا خسرو محمد أفندي
وهو «محمد بن قرامرز»، كان والده من أمراء التراكمة، أو «محمد بن فراموز بن علي بن محيي الدين خسرو»، واختلف المؤرخون حول أصله، فقال البعض إنه تركماني، أو فرنسي، أو من أصل يوناني أو رومي ثم أسلم، وقيل كردي الأصل[5] كان الملا خسرو عالمًا بالفقه الحنفي والأصول، وقد تبحر في علوم المنقول والمعقول، وكان «حبرًا فاخرًا جامعًا للفروع والأصول».
قال صاحب الشقائق النعمانية:
وفي سنة 832هـ/1428م صار قاضيًا للعساكر المنصورة، ثم قاضيًا للقسطنطينية بعد فتحها ومدرسًا في أيا صوفيا، تولى منصب شيخ الإسلام عقب وفاة المنلا فخر العجمي 1460م واستمر فيه حتى وفاته 1481م. يقص لنا بعض أحواله «طاشكبري زاده» فيقول:
ترك المنلا خسرو العديد من الكتب والمصنفات في الفقه والأصول والمنطق والبلاغة والتفسير والسيرة، كما ترجم كتابًا في المنطق عن الفارسية، كما أنه عمَّر عدة مساجد ومدارس في بروسه وإستانبول، منها مسجده الذي ما زال يحمل اسمه حتى اليوم في اسطنبول[8].
منلا كوراني أحمد شمس الدين أفندي
شيخ الإسلام الخامس في الدولة العثمانية، هو المولى «أحمد شمس الدين بن إسماعيل بن عثمان الكوراني»، المعروف بـ (منلا كوراني) وفي بعض المصادر اسمه الأول جمال الدين، الشيخ العارف والعالم العامل والفاضل الكامل، أحد الخمسة الكبار من شيوخ الإسلام في العهد العثماني الذين يُشهد لهم بالرفعة والعلم، وقد شهد فتح إستانبول.
ولد في «شهرزور» وتلقى علومه فيها ثم ارتحل إلى القاهرة وتفقه وقرأ بها القراءات العشر وقرأ الحديث والتفسير، وأجازه علماء عصره في العلوم المذكورة وشهدوا له بالفضيلة التامة، ونال مرتبة عظيمة عند الظاهر جقمق، لكنه بعد ذلك حكم عليه بالسجن والنفي، وتم إبعاده إلى الأراضي العثمانية حيث اصطحبه الملا يكان شيخ الإسلام الثاني إلى إستانبول وقدمه للسلطان مراد الثاني فعينه في مدرسة بايزيد، ثم أوكل إليه تعليم الأمير محمد (الفاتح)، وبعد تولي الفاتح للحكم عينه قاضيًا للعسكر عام 1451م حيث شارك في فتح القسطنطينية، وبعد وفاة المنلا خسرو في 1480م تم تعيين أحمد أفندي شيخًا للإسلام حتى وفاته في 1488م.
ترك المنلا كوراني مجموعة من المؤلفات كان أهمها تفسير للقرآن بعنوان: «غاية الأماني في تفسير السبع المثاني». وصنف أيضًا شرحًا لصحيح البخاري سماه الكوثر الجاري على رياض البخاري. وقد أنشأ جامعًا في إستانبول، ومسجدًا في حي غلطه، ومدرسة تسمى دار الحديث أو المدرسة الكورانية، وغير ذلك من المنشآت الخيرية. توفي في إستانبول، وصلى عليه السلطان وسدد عنه ديونه[9].
الشيخ المجذوب آق بيق دده
ولنا هنا أن نتساءل عن فائدة رجل مجذوب في موقف كهذا. والأمر ببساطة أن السلطان بعد أن استوثق من الأخذ بكل الأسباب، توجه إلى رب الأسباب، فاستصحب معه إلى الفتح ثلة من المشايخ والأولياء ليشاركوه جهاده ببركاتهم ودعواتهم، ويحرص على ذلك بشدة حتى أنه يرسل إليهم وزيره.
ويواصل كتاب «الشقائق النعمانية» وصف حاله؛ فقد كان الشيخ «آق بيق» من أصحاب الشيخ الحاج بيرام، وفتحت له في أثناء الخلوة أبواب الدنيا وقنع بها، فنصح له الشيخ وقال الدنيا فانية ولا بد من طلب الباقي، وقال آق بيق الدنيا مزرعة الآخرة وبها تُفتح أبواب الجنة، وانصرف عن الشيخ، فقال الشيخ إذن لا يصحبك مني شيء. ولما أراد الخروج من الزاوية سقط التاج عن رأسه وعرف أنه من جهة الشيخ؛ فبقي حاسر الرأس إلى آخر عمره، وكان يرسل شعره ولا يحلقه».
هذا الحوار يكشف لنا عن جوانب أخرى في التصوف العثماني، وعن لمحات من دور المتصوفين في التاريخ العثماني ينبغي دراستها باستقصاء.
وهكذا .. عرضنا نماذج من صُنَّاع الحضارة في عصر السلطان محمد الفاتح، بل من صُنَّاع شخصية الفاتح، وهي شخصيات تمثل أركانًا متعددة من العلوم: العلوم التطبيقية (الشيخ آق شمس الدين) ، والعلوم الإنسانية (الملا كوراني)، والعلوم الروحانية (الشيخ آق بيق دده).
وإذا ما أراد القارئ نماذج أخرى من هذه الشخصيات في مجالات أكثر ؛ فإن المصادر التي رجعت إليها تحفل بمئات التراجم والبطولات، التي جعلت بعض السلاطين لا يعمل إلا كالصائغ أو الجوهري، يجمع تلك الدرر الثمينة ويسلكها في عِقد واحد، أو يرصع بها تاج العَظَمَة، للأمة وللإنسانية كلها.
- محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، المركز المصري للدراسات العثمانية، القاهرة، 1994م، ص 268. وعبارة الشقائق النعمانية: (ما فرحت بهذا الفتح، وإنما فرحي من وجود مثل هذا الرجل في زماني).
- الأصح أن نقول (عهد محمد الفاتح) في (العصر العثماني)، لكن استخدام كلمة عصر على فترته من قبيل التفخيم والتمييز لفترة العصر الذهبي الذي كانت ذروته في فترة سليمان القانوني.
- منجم باشي أحمد دده: جامع الدول .. قسم سلاطين بني عثمان إلى سنة 1083هـ، دراسة وتحقيق: غسان بن علي الرمال، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1997م، ص 459-460.
- محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص 265-271.
- محمد ثريا: سجل عثماني، إيكنجي جلد، إستانبول، 1996، ص 271-272.
- طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1975م، ص 70.
- المصدر نفسه، ص 71.
- أحمد صدقي شقيرات: تاريخ مؤسسة شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، الأردن، 2002م، جـ 1، ص 321-325.
- المرجع نفسه، جـ 1، ص 328-332.
- حاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا)، 6 مجلدات، إستانبول، 2010م، الترجمة رقم 974، جـ 1، ص 338؛ طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية، ص 66.