الذاكرة الجماعية كمقاربة لفهم الظواهر السياسية
في كتابه «سياسة الذاكرة والهوية والصراع» (Memory Politics, Identity and Conflict)، يهدف الأكاديمي الأمريكي «جينج وانج» إلى المساهمة في النقاش النظري والمنهجي المتعلق باستخدام الذاكرة التاريخية كمتغير لشرح العمل السياسي والحركات الاجتماعية. وبناءً على نظريات وأبحاث في مجالات متعددة مثل: العلوم السياسية، والعلاقات الدولية، وعلم الاجتماع، وحل النزاعات، يقترح الكتاب سلسلة من الأطر التحليلية بغرض وضع تصور لوظائف الذاكرة التاريخية.
صعوبات دراسة الذاكرة التاريخية
تساءل الباحثون في تخصصات مختلفة حول إمكانية استخدام الذاكرة التاريخية كمقاربة لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية. وتكمن العقبة الرئيسية في كون الذاكرة التاريخية متغيرًا غير قابل للعد والإحصاء. فالذاكرة التاريخية عبارة عن مجموعة من الأفكار والتصورات المتغيرة التي يتم إعادة تشكيلها عن طريق الخطاب السياسي، أو العاطفة الجماهيرية. فالعوامل الفكرية التي تؤثر على سلوك الإنسان والعلاقات الاجتماعية لم تكن مشكلة للمتخصصين في العلوم السياسية فحسب، بل كانت واحدة من الألغاز المحيرة للعلماء من كل التخصصات. حيث إن التقدم الذي طرأ على دمج المتغيرات المعرفية بالبحث التجريبي كان بطيئًا نسبيًّا. وعليه، يدرج الباحثون الذين كافحوا مع ذلك السؤال ثلاثة عوامل قد تشكل صعوبات للبحث الذي يستخدم الهوية كمتغير.
أولًا: وجود الهوية كمفهوم شامل ولكنه ضمني إلى حد كبير، يجعل من الصعب عزلها وفهمها. وذلك لأن الهويات ليست سوى مجموعة واحدة متغيرة من التصورات داخل إطار سببي معقد لاتخاذ القرارات، فرغم أن للهويات تأثير، فإنها لا تحدد جانبًا واحدًا من سلوك اتخاذ القرار.
ثانيًا: من الصعب إيجاد علاقة فردية بين الهوية والسلوك.
ثالثًا: عند قياس الهوية كمتغير، فإن تقنيات البحث مثل الاستبيانات والمقابلات مع صناع القرار قد تصبح غير متاحة في الدول المغلقة أو شبه المغلقة.
من خلال إنشاء الأطر التحليلية للبحث، يحاول المؤلف أن يقدم نموذجًا يستطيع الباحثون من خلاله إجراء دراسة أكثر صرامة للذاكرة التاريخية. يمكن أن تساعد هذه الأطر في تصنيف تأثيرات الذاكرة التاريخية وقياسها وإظهارها لاحقًا.
وعلى الرغم من أن هذا البحث يركز على استخدام الذاكرة التاريخية باعتبارها هوية جماعية، فإنه يمكن استخدام الإطار للبحث عن أنواع أخرى من الهوية الاجتماعية. ويتداخل الكتاب مع عدة مفاهيم تتعلق بتشكيل الذاكرة التاريخية، أو إذا صح التعبير إعادة إنتاجها. حيث يبحث في علاقة الذاكرة التاريخية بالهوية، وتأثيرها على صناعة القرار في السياسات الخارجية، وكيف يتم إعادة إنتاجها وتشكيلها من خلال الكتب المدرسية والخطاب السياسي للسلطة.
الذاكرة الجمعية والهوية القومية
يرى بعض الباحثين أن الذاكرة التاريخية عبارة عن «سردية جماعية» يتم تشكيلها وإعادة إنتاجها بواسطة النخبة السياسية، كوسيلة لحشد الجماهير لتحقيق مصالح سياسية. ولكن على الرغم من ذلك، تغفل تلك الآراء الوظيفة الرئيسية للذاكرة التاريخية كعنصر أساسي في بناء الهوية القومية.
وكما يرى أنتوني سميث. فإن التاريخ هو المادة الخام المكونة للهويات، فالهويات مبنية على سرديات ومعتقدات تاريخية تُحدد من هم أعضاء الجماعة، وماهية الانتماء للجماعة، ومن هم الأعداء التاريخيون لها. وعادة ما تكون تلك المعتقدات مبنية على حقائق قد تكون مُنتقاة أو مُبالغ فيها. والذاكرة التاريخية كهوية من الممكن أن تؤثر في السلوك السياسي. حيث تعمل كمبدأ تأسيسي يحدد الأحكام والمعايير التي تُعرِّف الجماعة، وتعمل كأداة يُقارن من خلالها أعضاء الجماعة أنفسهم بالجماعات الأُخرى. وكذلك تؤثر على فهم الجماعة للعالم الخارجي.
وعليه، يقدم جينج وانج ثلاث مقاربات لفهم الذاكرة التاريخية ووظيفتها في تكوين هوية الجماعة: البدائية، البنيوية، والذرائعية.
يؤكد البدائيون أن الذاكرة الجماعية والهوية تتشكل على أساس العلاقات البدائية كالدم، والقرابة، واللغة، والتاريخ المشترك. أو بمعنى آخر، فإن الذاكرة تنتقل بشكل عابر للأجيال. حيث تنتقل الذاكرة من جيل إلى آخر لتخبر الأحفاد والأجداد من هم. وترسم خريطة المستقبل بناءً على الماضي.
وعلى جانبٍ آخر، ينظر البنيويون للهوية والذاكرة على أنها مصطنعة، حيث إننا نحن المعاصرين من نبني ماضينا بشكل انتقائي ولأسباب متنوعة. حيث إن الذاكرة الجمعية تعيد بناء ذكرياتها لتتوافق مع الأفكار والشواغل المعاصرة. ووفقًا لأندرسون فإن اللغات المطبوعة وضعت حجر الأساس للوعي القومي من خلال إنشاء قنوات موحدة للتواصل، وأن الرأسمالية المطبوعة تربط الناس في المناطق المختلفة بمجتمع قومي أكبر ومُتخيل. ويتعلم الناس تاريخ مجموعاتهم ليس فقط من خلال آبائهم وأجدادهم، ولكن أيضًا من المدارس وكتب التاريخ ووسائل الإعلام.
وترى الذرائعية أن الدافع وراء التعبئة الإثنية يكمن في المصلحة الفردية أو الجماعية، حيث غالبًا ما يُستخدم الماضي بشكلٍ فعالٍ كأداة للنخب لتوطيد قوتهم وكسب الدعم الشعبي. وعليه فإن التعليم الحكومي هو وسيلة لغرس القيم الاجتماعية المهيمنة بهدف إنتاج مواطنين موالين لهم هوية مشتركة.
الذاكرة التاريخية وعملية صنع القرار
يتميز البشر بقدرة محدودة على تنظيم وتحليل البيانات. وبالتالي يجب أن نعتمد على بعض الآليات لمعالجة الكميات الهائلة من المعلومات التي نواجهها في حياتنا اليومية. لذلك يستخدم الأشخاص القوالب أو عملية «القولبة» لمساعدتهم في فهم المعلومات المعقدة.
ومن الطرق التي يفهم بها البشر المواقف الجديدة، هي مقارنتها بمواقف سابقة قديمة. وغالبًا ما تعمل الذاكرة التاريخية كـ «معالجة بيانات» مهمة. حيث تؤثر الذاكرة التاريخية على تفسير وفهم صُناع القرار للعالم الخارجي.
في كثير من الأحيان يتم بناء هذه القوالب على الهياكل الأساسية المستمدة من المعتقدات والقيم والخبرات. وهذه تختلف من ثقافة للأُخرى. وغالبًا ما تكون تلك القوالب خلف عملية صنع القرار وتؤثر عليها. وبالتالي فإن عملية صنع القرار لا تتم فقط بناءً على الاختلافات في المصالح والمعتقدات والقيم، ولكن أيضًا بناءً على كيفية إدراك العالم وفهمه سواء على مستوٍ واعٍ أو غير واعٍ.
للذاكرة الجماعية أهمية خاصة أثناء النزاعات المستعصية على ما يبدو. حيث إن معتقدات الذاكرة الجماعية تؤدي الوظيفة المعرفية المتمثلة في إلقاء الضوء على حالة النزاع. وبالتالي، فإن هناك أربعة متغيرات هامة من خلالها تقوم الذاكرة التاريخية بالتأثير على تصور الصراع وإدارته:
1. يمكن للذاكرة التاريخية أن تبرر اندلاع النزاع ومسار تطوره.
2. في النزاعات المستعصية، توجد معتقدات الجماعة في ذاكرتها التاريخية حول نفسها، حيث تقوم بتمجيد ذاتها.
3. معتقدات الذاكرة الجماعية تنزع الشرعية عن الخصم.
4. من خلال الذاكرة الجماعية، تعرف الجماعة نفسها كضحية للخصم.
وكما ذكرنا سلفًا، فإننا في سياق النزاع نقوم بوضع قوالب لمساعدتنا على فهم سبب وجود النزاع، ولماذا تتصرف الأطراف كما تفعل، والإجراءات اللازم اتخاذها أثناء الصراع، وكيف يجب أن نتصرف استجابة لذلك. وأثناء تطور الصراع، تساعد تلك القوالب في تحليل وتجميع المعلومات، وتحديد المواقف (بما في ذلك الأولويات والوسائل والحلول)، ووضع خطط العمل. وبناءً على السياق نفسه، فإنه يمكن استخدام تلك القوالب في عمليات التلاعب والإقناع.
التعليم المدرسي وتشكيل الذاكرة التاريخية
تبرُز العلاقة القوية بين الذاكرة الجماعية والتاريخ بشكل واضح في النظام التعليمي. حيث تُعد صياغة الذاكرة الجماعية لبلدٍ ما جزءًا لا يتجزأ من بناء الدولة. والمدارس هي المؤسسات الاجتماعية الأساسية التي تعمل على نقل السرديات والقصص الوطنية عن الماضي. حيث لا يتعلم الناس تاريخ جماعاتهم فقط من خلال آبائهم وأجدادهم.
فوفقًا لما قاله ميلينجر فإن «الكتب المدرسية هي النسخة الحداثية للقصص القروية». حيث إنها مسئولة عن نقل ما يريده الكبار أن يعرفه الشباب عن ماضي الجماعة. ولا يمكن مقارنة أي من أدوات التنشئة الاجتماعية الأُخرى بالكتب المدرسية من حيث قدرتها على نقل نسخة موحدة، مُعتمدة، وحتى رسمية عما يجب أن يعتقده الشباب. فالتعليم الحكومي يُشكل أداة رئيسية لإشراك الشباب في القيم المهيمنة في المجتمع، والهدف هو أن الإتمام الناجح لهذه المهمة سيحوِّل الشباب إلى مواطنين موالين، وكذلك يساعد على غرس الهوية المشتركة.
ويمكن أيضًا استخدام التاريخ والذاكرة بشكل أساسي لتعزيز المصالح الفردية والجماعية. حيث غالبًا ما تستخدم النُّخب المتنافسة التاريخ كأداة للحشد الجماهيري في صراعها على السلطة. ويمكن أيضًا التلاعب بمسائل الأقليات للحفاظ على سلطة الأطراف المهيمنة أو لتبرير التمييز ضد مجموعات أُخرى. فمن خلال الكتب الدراسية التى يُدَّعى أنها محايدة، يتم استخدامها كأدوات أيديولوجية لتعزيز وشرعنة نظام اجتماعي أو سياسي. ومنذ ظهور الدولة القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر، تم استخدام المناهج المدرسية كأداة للدولة تعمل من خلالها على تمجيد الأمة القومية، وتبرير أشكال معينة من النظم السياسية.