لحن الرصاص: النشيد الجهادي من المعتقلات إلى رقصة الموت
إذا كان الفن والسينما والأغاني هم أحد المكونات الأساسية للعقل الجمعي، فإن النشيد الجهادي هو أحد أهم عناصر الثقافة الجهادية، حيث يتغلغل في الأوساط الجهادية عبر التدريب والتربية وجلسات الترويح عن النفس وساحة المعركة والمواد الدعائية والتواصل بين المجموعات، وبالتالي يمكن أن نفهم السمات النفسية والأيديولوجية للجماعات الجهادية من خلال دلالات معاني أناشيدها. إضافة إلى أن النشيد الجهادي يوفر سجلًّا مهمًّا يؤرخ لتفاصيل تطور الجهاديين وأفكارهم، ويعبر في أوضح صورة عن أهدافهم ونظرتهم إلى العالم.
واقعيًّا، يلعب النشيد الجهادي أكثر من دور، فمن جهة، داعم نفسي داخلي للإنسان الجهادي، ويساعده على تكوين شخصيته وتقوية الانتماء إلى الرابطة الاجتماعية، وفي أحيان عديدة خلق واقع بديل، وبالأحرى، وسيلة مميزة للتعبير عن ذاته وشعوره ووجهة نظره تجاه الأحداث السياسية والدينية، بجانب توثيق النضال أو اللحظات التي لا تُنسى.
ملحمة الغرباء: «نشيد المحنة»
في ستينيات القرن الماضي، اشتبكت الحركة الإسلامية مع بعض الأنظمة العربية، تكدست الزنازين بأجساد الإسلاميين، ومن شدة ما تعرضوا له من عذابات في السجون وإهانة أفكارهم، تشبهوا بالمسلمين الأوائل الذين نُكل بهم على أيدي كفار قريش في مكة قبل الهجرة.
ووسط أقبية السجون بالقاهرة ودمشق، وفي جو من الاضطهاد والشعور بالقهر، ولدت كلمات النشيد الإسلامي الحركي بكلمات سيد قطب المشحونة بالغضب، والذي قال: «أخي أنت حر وراء السدود، وأوقد لهم من رفاتي الشموع، وغرباء وارتضيناها شعارًا للحياة».
كلمات أخرى قالها مروان حديد في سجنه بالشام حملت ألمًا وتوجعًا كامنًا في دخيلته، حيث قال: «أحزان قلبي لا تزول، واقتلوني مزقوني أغرقوني في دمائي، لا تحزنوا يا إخوتي.. إني شهيد المحنة، يا فرحتي بمنيتي اليوم أنهي غربتي». هذه الأبيات قالها الثنائي قطب وحديد في السجن قبل أن يتم إعدامهما، إلا أن أشعارهما لم يدندنها رفاقهما في السجون فقط، بل ستخرج إلى أقطار العالم لتجد من يتسابق على إنشادها.
وفي حين ترك قطب عددًا محدودًا من القصائد في السجن، فقد ترك حديد ديوانًا كاملًا من الشعر، احتوى على معجم ضخم في ألوان القهر السياسي، وصف فيه مشاعر غرباء زمانه، وأن رأسه لن تنحني للطغاة مثل حزب البعث، العديد من الكلمات التي استخدمها حديد في أبياته توضح المأساة التي عاشها، فمثلًا يكرر حديد في قصائده ثلاثة أنواع من الكلمات:
أولًا: كلمات تعبر عن رفضه القاطع للطغيان: «لن نركع لظالم – لن نستكين ولن نلين لحاكم – لن نلتوي عن الحق أو نتراجع – لن نبالي بالجروح – لن أهادن لم أداهن – لا أرضى بكفر أو بعار – لست أخشى من عدو – لست أهاب وعيد اللئام – هذا طريق لا أفارقه».
ثانيًا: كلمات كاشفة عن نفسيته المشحونة بالآلام والأحزان وشعوره بالغربة: «يا إخوة الإسلام إني موجع – دموع العين لا تشفي – قلبي خائف وجل ودمع العين منهمل – نهضت وحيدًا – ربي في سجني أنيسي – يا جراحي أنتِ فخري – غريب بديني – لهيب الشوق للجنة».
ثالثًا: كلمات تعبر عن سخطه على المجتمع وشدة الألم التي تظهر في قوله (يا إخوتي): «إخوة الإسلام هل فيكم رجال – إلام تبقون في ذل وفي ضعة – نحن في ضعف ووهن وأسارى كالرقيق – عيشكم دومًا ركون – يا إخوتي أين كفاحكم – قيد الذل قد أضحى وسامًا – يا إخوتي ما بالكم – يا إخوتي لا تأمنوا أهل الخيانة والرياء – قم يا أخي أكمل كفاحي وحطم رءوس الطغاة».
لم يتخيل قطب وحديد أن قصائدهما سيدندنها المنشدون الجهاديون في وديان أفغانستان والشيشان والبوسنة، وستعيش إلى يومنا هذا. لكن قبل قطب وحديد بسنوات قليلة، كان هناك شاب في العشرينيات من عمره، اغتيل في ظروف غامضة لم يتم توضيحها حتى اليوم، اسمه «هاشم الرفاعي»، طالب بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، كان قريبًا من الإخوان دون أن ينضم إليهم، وكتب قصائد عن واقع الحياة وآلام السجناء، تاركًا حوالي 200 قصيدة، بعض قصائده التي كتبها قبل موته بشهور قليلة، كانت أيضًا تدندن بحماس بالغ في ساحات القتال بأفغانستان والشيشان، ومنها:
وبعد قطب وحديد، زادت نبرة الغضب والحزن والإحساس بالظلم والإهانة والعزلة الشعورية عن المجتمع، لتبدأ مرحلة التصعيد البكائي، أحد الأناشيد التي انتشرت بشكل كبير في أوائل الثمانينيات، نشيد «أبي دجانة الشامي» والذي أصدر خمسة أشرطة من الألبومات عبرت بشكل كبير عن معاناة الحركة الإسلامية خصوصًا في الشام، فمثلًا يقول أبو دجانة في نشيد له اسمه لن أركع:
يلاحظ من أبيات أبي دجانة الإحساس بالعجز وعدم القدرة على السيطرة، وغياب الشعور بالانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، بجانب عدم التفكير في تجاوز الأزمة أو حلها، فقط معالجتها بالصبر والعزلة المؤنسة مع الله. ويستخدم أبو دجانة صيغة المفرد بضمير المخاطب في الكثير من أناشيده. كما تكثر مفردات (الجاهلية – المحنة – السوط – الشهيد – الدماء – الجراح – الباغي – الطغيان) في أناشيد أبي دجانة بشكل كبير.
إلى هنا كان النشيد في أغلبه يعبر عن عموم الحركات الإسلامية، وليس عن جماعة بعينها، كما كان محصورًا داخل هموم الواقع الإقليمي والقطري، لكن مع اتساع الحركة الإسلامية وصعود «الصحوة الإسلامية» في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ستبرز الاختلافات مع الوقت وسيدخل النشيد في حالة تفكك.
انطلاقة مزامير الجهاديين
عندما فر العديد من الإخوان المسلمين من بلدانهم إلى السعودية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أقاموا فيها معسكرات شبابية تضمنت جلسات إنشاد عن عظمة الإسلام وتحرير فلسطين، وقد حضرها بعض الشباب السعودي. ثم مع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، بدأ الشعور الإسلامي ينفجر من القهر الداخلي إلى القهر الخارجي.
احتاج المجاهدون العرب الذين سيشاركون في هذه الحرب إلى أناشيد تعبر عنهم، ويتميزون فيها عن الحالات الإنشادية الأخرى، خصوصًا أن بعض علماء السلفية رأى أن الإخوان المسلمين تساهلوا في استخدام النشيد وأدخلوا عليه أشياء غير منضبطة كاستخدام الدفوف والإيقاع.
ولذا اتفق الجميع على ألا يخالف النشيد الجهادي «بعض المعايير السلفية» التي كان موقفها من النشيد في غاية السلبية، فتم دمج (النشيد الإسلامي الحركي في شكل سلفي)، ويبدو أن الخلاف الأساسي كان يدور حول الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه النشيد الجهادي.
وفي الثمانينيات والتسعينيات، هيأت استديوهات السعودية كل السبل لتدعيم الأناشيد الجهادية الحماسية التي كتبها أشخاص ينتمون للتيار الإسلامي لتستهلك في أفغانستان. أصدر المنشد السعودي سعد الغامدي في عام 1987 ألبومه الدمام، من ضمنه أنشودة «غرباء» لسيد قطب، و«هل ترانا نلتقي» للسيدة أمينة قطب، ركز الغامدي في ألبومه على ترغيب الشباب في الهجرة للجهاد، يقول الغامدي في أحد أناشيده المشهورة والتي لا يعرف كاتب كلماتها:
وفي وديان المعارك بأفغانستان، بدأ النشيد الجهادي يخوض المخاض الثاني لولادته، لكن مع مجاهدين وفي نفس الوقت منشدين وشعراء، حيث بدأ هؤلاء في كتابة أناشيد جهادية كوسيلة للترويح عن النفس والحفاظ على الروح المعنوية. ومن الآن فصاعدًا، سيبدأ النشيد الجهادي في التحرر من السيطرة الشعرية للإسلام الحركي.
وتشير الشهادات الجهادية القديمة كشهادة أبي مصعب السوري إلى أن النشيد كان جزءًا لا يتجزأ من حياة المجاهد اليومية، فالمجاهدون جمعوا ما بين القيام بجلسات الأناشيد وتلاوة القرآن بشكل يومي، كما كانوا ينشدون الأناشيد في ساحات المعارك لتقوية العزم، وبعضهم كان يتلو القرآن والأناشيد على خطوط المواجهات القتالية في مكبرات الصوت كشكل من أشكال الحرب النفسية ضد العدو، وشحن وقود المجاهدين.
أحد الأناشيد التي دندنها الجهاديون بشكل كبير في أفغانستان والشيشان والبوسنة، والتي على ما يبدو عبرت عن حالتهم، هي نشيد «ها نحن الأنصار.. أنصار الله» والذي يقول:
كان ألبوم «قوافل الشهداء 1» الذي أصدره الجهادي والمنشد «محمد الحبشي» الملقب بأبي الزبير المدني من أوائل الألبومات الجهادية التي وجدت شهرة وقبولًا بين أوساط الجهاديين، وقد شارك أبو الزبير في القتال في أفغانستان وكان ينشد للمجاهدين، وقُتل في البوسنة أثناء دفاعه عن مطار سراييفو، وكان أسامة بن لادن يحب أناشيده.
وقد أصدر ألبومه عام 1990 وتضمن 12 نشيدًا، يدور غالبيتها في رثاء المجاهدين العرب الذين فقدوا حياتهم في أفغانستان، وأناشيد في حب أفغانستان، ورثاء أمهات الشهداء. وهذا الألبوم وثيقة مهمة للغاية في تاريخ النشيد الجهادي.
استمرت سلسلة ألبومات قوافل الشهداء التي بدأها أبو الزبير، فصدر الجزء الثاني عام 1992، وقد تضمن أناشيد في رثاء المجاهدين العرب الذين كتبوا التاريخ بدمائهم في البوسنة، وهجاء أفعال الصرب بالبوشناق المسلمين، وتسجيل معارك المجاهدين العرب في البوسنة، ورثاء معاناة شعب تركستان وفلسطين.
وبرز في الألبوم الثاني من سلسلة «قوافل الشهداء»، منشد يدعى عمر الحبشي الملقب بـ «أبي أسيد المدني»، والذي قاتل أيضًا في أفغانستان والبوسنة بصحبة أخيه أبي الزبير المدني، سيعمل أبو أسيد على إعادة إنتاج بعض أناشيد أبي الزبير لكن بجودة أفضل، وسيلعب أيضًا دورًا رائدًا في مسيرة النشيد الجهادي في الألفية. ويبدو أن سلسلة قوافل الشهداء توقفت عند الألبوم الخامس، وهي سلسلة حزينة للغاية، يقول أحد أناشيدها:
أيضًا أنتجت ساحة الشيشان أناشيد متفرقة تمدح وتصف قوة مجاهدي الشيشان، وخصوصًا أناشيد عديدة تصف شخصية السعودي سامر السويلم المعروف بـ «خطاب» وشجاعته في القتال، والتي كانت أكثر سماته لفتًا للانتباه، تقول أحد الأناشيد التي تصف خطاب:
وأحد الأناشيد التي انتشرت بشكل كبير ودندنها مجاهدو الشيشان أثناء القتال والتدريب، كانت إحدى قصائد «عبد الحكيم عابدين» الأمين العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، والذي مات قبل أن يرى كلماته وهي تلهب حماسة المقاتلين، ومنها:
اللافت أيضًا أن مجاهدي الشيشان لم يدندنوا فقط أناشيد الإخوان المسلمين، كالنشيد الشهير «لبيك إسلام البطولة» و«سنخوض معاركنا معهم»، و«نحن جند الله أشبال الفدا» للشاعر السوري محمود كلزي، التي أنشدها أبو مازن، بل استخدموا كذلك أناشيد من خارج الحركة الإسلامية، كأغنية «أعطني جعبة وبارودة» وهي من كلمات صلاح الدين الحسيني الملقب بـ «أبي الصادق الفلسطيني».
وفي الحقيقة، غالبية الأناشيد التي أنتجها المقاتلون والمنشدون الشيشان العرب، كانت تدور حول الصراع مع روسيا، منها:
أنتجت أيضًا ساحة البوسنة مجموعة من الأناشيد الجهادية، يدور معظمها حول وحشية الصرب تجاه المسلمين، منها:
اللافت أيضًا أن المجاهدين العرب في البوسنة استعانوا بأشعار مروان حديد وأنشدوا العديد منها، أشهرها:
كما كان هناك نشيد ردده المجاهدون العرب والبوسنيون بكثرة خلال جلسات التدريب، ويبدو أنه كان النشيد الرسمي في التدريبات والقتال، وهذه بعض أبياته:
وقفت غالبية الأناشيد الجهادية في الثمانينيات والتسعينيات عند حدود المظلومية ورد العدوان والتغني بأمجاد الماضي، ومن اللافت أن الجهاديين أعادوا نشر مجموعة من الأناشيد التي أصدرها بعض الشخصيات والجماعات الإسلامية منذ سنوات السبعينيات والثمانينيات، الفارق أنها كانت من دون دفوف أو آلات موسيقية أو إيقاع. ومن أشهر هذه الأناشيد نشيدا «بجهادنا» و«النار بدارك شبت» اللذان أنشدهما السوري أبو مازن وانتشرا بشكل طاغٍ في أفغانستان والشيشان والبوسنة، ومن كلماتهما:
وكذلك:
ورغم أن الحركة الجهادية كانت تنشد في خلواتها أناشيد وقصائد من خارج صفوفها، إلا أنها حرصت على إنتاج أشعار ومنشدين، فهذا الأمر يساعد على استقلال الجماعة ويزيد من فخر أفرادها بالانتماء إليها. مع ملاحظة أن معظم قادة الحركة الجهادية في التسعينيات والألفية كانوا يقرضون الشعر، كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبي يحيى الليبي.
وجديد بالذكر أن الأناشيد الجهادية نشرت أولًا بواسطة أشرطة الكاسيت، وكانت تباع بسعر زهيد في متاجر خاصة بالشرائط الإسلامية، ويلاحظ أن المستوى الفني للنشيد الجهادي في فترة الثمانينيات وأوائل التسعينيات كان متدهورًا جدًّا، كما كان محدود الانتشار ويستغرق وقتًا في الوصول إلى البلدان العربية.
ثم مع نشر الجماعات الجهادية لمحتواها على الإنترنت في التسعينيات ومطلع الألفية، حدثت نقلة كبيرة في النشيد الجهادي من كل جوانبه، وصار مادة رئيسية في معظم الإصدارات الجهادية، ولم يخلُ أي فيلم أو محتوى جهادي من النشيد حتى اليوم، وهذا أمر مبهر في الحقيقة، يشير إلى أن الجهاديين من أوائل الحركات الإسلامية التي استخدمت التكنولوجيا الغربية.
موضوعات النشيد الجهادي
تجاوز بعض أقطاب الحركة الإسلامية وطأة المظلومية أو المحنة المريرة، وتم الابتعاد عن مخيال الغرباء أو التسيس، فاستخدمت كلمات أخف من السابق، وبرزت موضوعات في التقوى والأخلاق الحسنة والالتزام بتعاليم الدين وحب الله ورسوله، لكن كان هناك جماعات أخرى لم تتخلَّ عن ترنيمة الغرباء والماضي المجيد وتمسكت بعهد قطب وحديد.
تبلورت ملامح شخصية النشيد الجهادي من بداية الألفية، وفي هذه الفترة 2000 – 2010 ركزت غالبية الأناشيد الجهادية على أن الجهاد واجب على كل مسلم، وميدان المعركة هو ميدان الشرف، وكل من لديه دين ونخوة حقيقية سيذهب للقتال، ولذا كثرت أناشيد المقارنة بين الشعور بالذل والفخر، بين نموذج الرجل البطل الذي هب لنصرة النساء والأطفال، وبين قعيد النساء والعيال ناقص الرجولة، والذي يخادع نفسه بالقيام بالعبادة دون أداء واجب الجهاد.
وبعض الأناشيد ربطت الواقع بالماضي، من خلال التأصيل لاستمرار الصراع التاريخي والجغرافي – ميثاق الانتقام القديم – وتقديم النضال الجهادي بصفته صراعًا عالميًّا لكل المسلمين، بجانب البكاء أو الحنين على زمن الماضي المجيد، حيث كثرت أناشيد الافتخار بعظماء التاريخ الإسلامي ومناجاتهم والتباكي على غيابهم مثل المعتصم وصلاح الدين.
كذلك كثرت أناشيد توثيق المعارك ومدح الانتصارات، بجانب تسجيل وصايا ورغبات الشهداء الأخيرة والسيرة الذاتية لهم في أبيات شعر لإحياء ذكراهم بعد وفاتهم، ومن ثم إنشادها في مرثيات حزينة تتباكى على فراقهم وتتعهد بمواصلة الدرب.
هذه العناصر تحولت إلى أداء دائم ووفاء واجب، وأصبحت موجودة في كل أنشودة رثاء شهيد، وتكمن أهميتها في إشراك الجمهور بأعمال الاستشهاديين، وإثبات الشرعية – قيمة موثوقة – والحفاظ على الذاكرة، والأهم تعزيز مفهوم الاستشهاد كجزء لا يتجزأ من الهوية الجهادية، والذي نجح من خلال هذه الممارسة في إدامة دورة الاستشهاد، وجعله يحظى بشعبية، بل تحويل الاستشهاد في حد ذاته من تفسير الموت إلى ممارسة الموت.
وشخصية الشهيد في النشيد الجهادي قد تبدو متناقضة، فمن جهة يتم التعبير عن مشاعر الحزن على فراقه، وتمني اللحاق به والاشتياق له، ومن أخرى، يتم تهنئته بتولى الملائكة غسل جثته، والتغني بدمائه الزكية الطاهرة، حيث تفوح من الجروح رائحة المسك – التي يمنحها الله للشهداء – بدلًا من رائحة الدم.
وفي الواقع، فإن النشيد الجهادي قدم ببراعة واقعًا بديلًا عن الحياة الدنيا، وكيفية التغلب على أوقات آلام الموت، بجانب تذكير المجاهدين الآخرين بطبيعة الحياة العابرة، والوعود الإلهية أو الجنة الأبدية لاستدراج بعضهم كاستشهاديين في المستقبل:
أما الصورة الشخصية للمجاهد في النشيد، فهو يتمتع بصفات نكران الذات والشجاعة والكرم، حساس وعاطفي، يضحي بنفسه من أجل تحرير الأمة، ويقوم بالواجب المتعين عليه في الدفاع عن الحياض والحرمات، ولا يخاف إلا الله، يشتبك في المعارك ببسالة ويحتقر الموت، متبعًا إرادة الله وغايته في خوض معركة الحق ضد قوى الشر، غالبًا ما تم إضفاء الطابع الديني على سلوكياته، والإشارة إليه كأحد جنود الله، بينما العدو ظالم ليس لديه أي شرف أو نزاهة.
ومع ذلك، فهناك مساحة للضعف والحنان في النشيد الجهادي، تأتي تحديدًا من خلال استحضار الأنثى، والتي ظهرت بشكل كبير، ولعبت أدوارًا نشطة في النشيد الجهادي، وبالأخص أم المجاهدين، والأخوات في الدين، والحور العين، بجانب تمثيل المرأة كزوجة وبنت.
الأولى لها احترام فائق وأناشيد خاصة بها تدور غالبيتها في شكل حوار على لسان الابن يدعو أمه أن تتصبر عند سماعها خبر مقتله، ويطلب منها أن تفتخر به، ويخبرها بأنه سيشفع لها وللعائلة لدخول الجنة، بجانب الإشارة إلى مكافآت الآخرة التي سيحصل عليها، مثل النجاة من عذاب القبر أو الاستجواب يوم القيامة:
أما حور العين، فلهن أهمية خاصة، من المبهر أنهن لم يستخدمن كتحفيز للجهاد ومنتهى الأمل فقط، بل تم التغزل بهن ووصف جمالهن والشوق للقاء بشكل فيه كثير من المبالغة والإغراء، ولا تُذكرن في النشيد إلا برغبة المجاهد في الاستشهاد، حيث يدخل الشهيد إلى الجنة، ويستعد للعرس لحظة وفاته، وبعض الأناشيد تبشر الشهيد بالحصول على الكثير من حور العين الجميلات، فمثلًا تذكر بعض الأناشيد:
وكذلك بالعامية:
وأما التزامات الجهاديين في النشيد تجاه المرأة، فتتجلى بشكل كبير في صورة الأخوات في الدين، واللاتي يوصفن بتعبيرات عدة، منها جرح الأمة المسلمة، وأحيانًا يشار إلى المجاهدين بوصفهم لبوا نداء الأخوات من أجل حمايتهن، في هذا السياق يتم استحضار قصص من الذاكرة، أشهرها قصة المرأة التي أسرها الرومان في عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله، فحين سمع بخبرها جهز جيشًا بأفضل الخيول الموجودة لإنقاذها، ويُعتقد أنه استخدم عبارة (لبيك يا أختاه) والتي صارت مادة رئيسة في النشيد الجهادي:
اللافت أيضًا أن فترة الألفية شهدت إنتاج مجموعة كبيرة من أناشيد اللطميات التي انتشرت في السبعينيات والثمانينيات، لكن بنظرة عالمية، فنجد أناشيد كاملة ضغطت على المشاعر وأثمت النفس بشكل مبالغ فيه، تضمنت أوصفًا لأمة مذلولة، أطفالها مشردون، ونساؤها مغتصبات، وبدلًا من وجود طاغية أو اثنين، صار العالم مليئًا بالطواغيت في كل مكان.
ظاهرة كاملة في النشيد الجهادي قد نصطلح عليها بـ «أنين المعذبين»، وهذه الظاهرة في الحقيقة انتقدها بعض رموز التيار الجهادي، وتكثر فيها جمل: (أخي قد طال الشقاء، يا إخوتي ماذا نقول أم حزننا جلب البكاء، أبكاني ممشاك أخي، تعبت عيني من البكاء، أخي دفنوك في قبر من الأحزان لا يرحم، أشكو إلى الله الكروب، أعاني بالفراق أسى، أقبلت يا عيد والأحزان أحزان، قد مضى يومي بأمسي، من أين أبدأ قصتي والجراح كثيرة، وحيد هزني ظلم الأعادي، ماذا أقول وقلبي بات يعتصر، أدمت فؤادي صورة وبها الفؤاد تحطما، ألا يا ليلُ ما أقسى ظلامك يذكرني سوادُك بالحداد).
- النشيد الفلسطيني الجهادي الذي نَشَأَ مع حركة حماس له أسلوب مختلف عن النشيد الجهادي، وبرأيي، فإن من الخطأ إدراجه في سياق النشيد الجهادي الذي نحن بصدده. وقس على ذلك نشيد حزب الله في لبنان.
- ستيفان لاكروا: زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، صـ 73.
- الجدل حول الإنشاد أو ما كان يسميه الفقهاء بـ (جلسات السماع) قديم جدًّا في التاريخ الإسلامي، ويبدو أنه ارتبط بالحركات الصوفية، قد يفسر هذا الأمر موقف علماء السلفية من النشيد المعاصر وإباحته بشروط قاسية، مع العلم أن العديد منهم حرم الإنشاد ككل وليس فقط المعازف، مثل الشيخ الألباني الذي اعتبر الأناشيد مبتدعة اسمًا ومسمى.
- أبرزها استديوهات النور الإسلامية بالرياض، وصوت الفاروق بالأحساء.
- ترك الإنشاد بسبب الاستنكار عليه في أن يجمع ما بين قراءة القرآن والنشيد، فاختار القرآن.
- أبو مصعب السوري: دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، صـ 897.
- جلسات الإنشاد الجهادية لا تعتمد على المنشد فقط، بل تكون أداءً جماعيًّا من خلال الدندنة مع المنشد أو دندنة كلمة معينة كاستجابة للمنشد، وهناك أناشيد خاصة لهذه الجلسات.
- الشعر أداة قوية في الحرب، هذا الأمر متأصل بعمق في الثقافة العربية، على سبيل المثال، يوضح ابن قتيبة (المتوفى 276هـ/ 889م) في كتابه الشعر والشعراء الدور الاجتماعي والسياسي للشعر في فترة ما قبل الإسلام ثم عصور الإسلام الأولى، فيسرد العديد من الأبيات التي توضح كيف للشعر أن يُحول الرجل الجبان إلى شجاع في المعارك.
- نشيد تمت أسلمته من كلمات الأغنية الأصلية «لبيك يا علم العروبة» لـ محمد سلمان.
- أنشدها أبو عبد الملك بعد ذلك وغير فيها بعض الكلمات.
-
كان «لواء المجاهدين» الذي شكله العرب يضم مقاتلين بوسنيين، وهؤلاء اختلطوا بالعرب وتعلموا اللغة العربية والقرآن، كما تزوج المقاتلون العرب من بوسنيات، وفي الواقع، كان هناك تلاحم بين المجاهدين العرب والبوسنيين بشكل يثير الإعجاب، وتجلى هذا التلاحم في العديد من الأناشيد التي كانت تُقدم كإهداء للشهداء وللمقاتلين البوسنيين والتغني بهم، مثل التغني بمقاتل اسمه Mirzada Jusića، حيث أنشده العرب:اسمع يا ميرزت هذي الوصية .. لما تتزوج من حورية
وتعيش معاها عيشة هنية .. تملا آمالك حب وحنية - جدير بالملاحظة أن النشيد الإسلامي الحركي في بداياته اهتم به السوريون، وبرزت منهم شخصيات منشدة، أبرزها بالترتيب: أحمد بربور الريحاوي، أبو مازن، أبو دجانة، أبو الجود، أبو راتب، ويمكن القول إن التجارب الأخرى للنشيد كانت استنساخًا لتجربة هؤلاء المنشدين.
- أبو مازن هو شيخ النشيد الإسلامي الحركي، ومعظم أناشيده كانت متواضعة فنيًّا، فجاء المنشدون من بعده، وأعادوا نشر أشرطته بأصواتهم، ومنهم جهاديون.
- وفقًا لحديث نبوي مختلف في صحته، فإن الشهيد يثاب بـ 72 حورية.