«ميج رايان»: حكاية موهوبة راوغتها أنوثتها
ثمة أناس، بشر، خلقهم الله ليحضنا من خلالهم على الملاحظة، والتدقيق بحثا في بعض متفردات النفس البشرية، وموهبتها بالتبعية. وحالة «ميج رايان» النجمة الأمريكية الشهيرة، والتي تربعت فوق قلوبنا في أيام التسعينات، من هذه الحالات المتفردة التي لا تنفصل ملامحها الشخصية والإنسانية عن الموهبة التي تمتلكها، وشكل الإطلالة التي تظهر بها، وتلك الروح التي ميزتها دونًا عن بقية شقراوات هذه الفترة من تاريخ السينما الأمريكية، وجعلتها في منطقة خاصة جدًا بعيدة كل البعد عن دلالة المواصفات الجمالية التي تزخر بها هيئتها.
«ميج رايان» إمرأة جميلة، شقراء، ذات عينين عسليتين شفافتين، فم رقيق صغير، أنف دقيق، ودقن مدقوق محندق. وجهها طفولي، شديد العذوبة، يحتمل أكثر من تأويل جمالي أنثوي، ولكن ما حسم الأمر بخصوص التأويل المختار لـ«ميج رايان» هو جسدها.
ذلك الجسد النحيف، المصمت، الذى لا يجيد الحديث عن نفسه. جسد «ميج» هو ما دفع بها خارج تصنيف المرأة المثيرة، على الرغم من جمالها الزاعق الذي لا يتجاهله الكادر أبدًا. فهذا الجسد وحده كفيل بأن يسرب إلى أحدهم هذا الحسم تجاه أنوثتها المفقودة، فقط وهو يطالع صورة لها. إنما هو واحد من أسباب أخرى ستؤدى لنفس الشعور، إن كنت ستشاهد «ميج» صوت وصورة.
سِمات رئيسية
«ميج» هذه المرأة التي دوما تلوح بذراعي طفلة، تمشى بساقين لامباليتين، تغالي في حركة رأسها ارتباطا بانفعالاتها، وتكرمش ناحيتي أنفها امتعاضًا واعتراضا، تفتح ما بين شفتيها لتندهش وتتأفف، وتضم حاجبيها افتعالا لتغضب، تبكي بهزلية على الرغم من دموعها الحقيقية المشتعلة، تضحك بحِدية، تلبس بذوق رجولي سراويل، قمصان، وحتى إن ارتدت تنانير قصيرة تتجاهل مظهرها الأنثوي وتتعمد إطفائها بحذاء رياضي تدفس فيه قدميها.
أما الفساتين، فتتعامل معها بمنطق الضرورة لا أكثر ولا أقل. في أفلامها الأولى، ارتضت بشعرها الطويل وحاولت التواؤم معه، بينما حسمت أمرها في أفلامها التي جاءت في مرحلة وهج نجوميتها، واحتفظت بشعر قصير مميز أيما كان الدور الذي تؤديه.
نعم، هذه هي السمات الرئيسية لـ«ميج رايان» ولكل الشخصيات التي أدتها، فكيف يمكن لممثل أن يحتفظ بكل كليشيهات مظهره وهو يؤدي كل مرة دورًا جديدًا، والأهم لماذا تَقبّل المشاهد «ميج رايان» وهي تطل عليه في كل مرة بهذه اللامبالاة، ومن دون تنازل قيد أنملة عن موضوعها الإنساني والشخصي الذي يحكم مظهرها؟
إجابة هذا السؤال تختزل بأكملها في الحضور الذي امتلكته هذه الشقراء الغريبة، وحينما يتلفظ أحدهم بكلمة «حضور» نجدنا قد استحضرنا الصورة الذهنية التي عرفناها عن هذه الكلمة من خلال تأثير عدد من النجوم الذين أحببناهم، ولكن دعك عزيزي القارىء من هذه الأفكار التراكمية عن كلمة «حضور»، لأن «ميج» خلقت له معنى جديدًا، وسجلته منذ التسعينات باسمها وحدها.
فالهالة التي تلتف حولها وهي تؤدي قوس قزحية ألوانها السبعة، تُغاير تماما بآليته الألوان الشرعية، والمعترف بها. «ميج رايان» موهوبة ولكنها ليست عبقرية تمثيل، موهبتها ليست متفردة، وإنما طرافة وحميمية هالة حضورها هي التي يجب أن ينسب لها صفة التفرد.
«ميج» عندما تتحدث تطلق لسانها وروحها ليأسروك، عيناها تخطفان قلبك، وصوتها الهش ينخر في عظامك. غضبها وسذاجتها يقعان في ذاكرتك موقعًا حلوًا، وكوميديتها تقتحم حزنك وعزلتك. إنها الطفلة التي لا تروض إحساسها، وتفتح له أبواب العالم على وسعها، ليصل إلينا عفويا بغير أية حواجز. لهذا السبب بحثت الأدوار الرومانسية الكوميدية عن «ميج رايان»، احتضنتها وضمنت لها فيها مكانة خاصة، لأن «ميج» أيضا منحتها منها ما لم يتوافر في نجمة أخرى، أحبها الجمهور في هذا التصنيف.
أدوار عدّة
هي الشقية، الرقيقة، الرجولية، الشقراء، خفيفة الظل، والجميلة جدًا.
هي «سالي» في فيلم «When Harry Met Sally» عام 1989، الفتاة المتطلبة، المرتبة، التي تظل ترفض صداقة «هاري» الفوضوي المتبجح، حتى تقع في حبه، وتبدأ في المعاناة -دون أن تشعر- لاستمالته والتقرب إليه، ودفع علاقتهما خارج نطاق الصداقة. «سالي» هنا لا تخلو من سذاجات «ميج» الحقيقية، قلة حيلتها، وفي الوقت ذاته، الجمال الأخاذ التي تنغلق عليه روحها، «سالي» وجه من وجوه «رايان».
تماما كـ«إيمي» في فيلم «Sleepless In Seittle» من إنتاج عام 1993، الفتاة التي تنتفض قرب إتمام زواجها التقليدي، لأن ثمة مشاعر باغتتها تجاه رجل أرمل استمعت إليه بالمصادفة في الراديو، لتظل من بعدها كالكرة المطاط، غارقة في كرتونية بائسة داخل صراعات الاستطراد في حياتها التي باتت مملة فجأة، أو اللحاق بركب الحلم الرومانسي المستحيل الذي لاح في الأفق فجأة.
ومن منا ينسى «كاثلين كيلي» الفتاة التهكمية، وهي تخطب ببراءة وغل لا تنقصه وداعة في المؤتمرات الصحفية، لتحمي متجرها الصغير من اضطراره لمواجهة غير عادلة مع متجر «آل فوكس» التجاري، المتباهي بأرستقراطيته الفارغة. في فيلم «You Have Got Mail» في عام 1998، «كاثلين» تقفز ببهلوانية في المشاهد الأولى، بمجرد مغادرة صاحبها، لتجلس أمام الكمبيوتر وتراجع محادثاتها بالبريد الإلكتروني مع رجلها «الإنترنيتي» المجهول.
هذه القفزة المُهرِجة خفيفة الروح والحياة، هي «ميج رايان». عصبية «كاثلين» المختلطة بالطرافة والرقة، التنمر والطفولة والرجولة، حينما كانت توبخ «فوكس الصغير/توم هانكس» وقت تطفله عليها في المقهى هي «ميج رايان». «كاثلين» التي كانت تلقى بالمناديل بكرتونية مثيرة للضحك، حينما زارها فوكس وهي مريضة بالبرد، تتحدث بأنف مزكوم، وملامح وجه منبعجة، وصوت حاد ممتعض شديد الحميمية في آن واحد، كل هذا لم يكن إلا «ميج رايان».
أفلام أخرى كثيرة لم تتخل فيها «ميج» عن كونها «ميج رايان» دون اختلاف، وبغير أي تنوع ، مثل «Addicted To Love» في 1997، و«French Kiss» في 1995، وغيرها، وفي المقابل لم يقابل الجمهور وتيرتها الوحيدة الواحدة هذه بمكيال ذرة ملل، بل بالعكس ارتفعت مكانتها في القلوب، وتعلقت بها الأرواح أكثر وأكثر.
أدوار استثنائية
خرجت «ميج» عن دائرتها المفرغة، الجامعة المانعة، والأهم من ذلك كله الناجحة. فنراها في فيلم «When Man Love Woman» في عام 1994، امرأة متورطة في معضلة إنسانية مأساوية، تخص تبعات إدمانها على الكحول. «ميج» هنا مختلفة، ترتدي ثوب امرأة أخرى، ملامحها أكثر هدوءًا وشحنًا شعوريًا. ولكنه الدور الذي أتى في مرحلة ما قبل اعتزازها بشعرها القصير، وثباتها على الملامح الرئيسية التي تلتصق بشخصها الحقيقي.
أما دورها في «City Of Angels» عام 1998، فهو يتسم بذات الرصانة والبعد عن «ميج» المعهودة، الممتلئة بالطاقة. في «City Of Angels» بدت «ميج» أكثر نضجًا، وتؤدة في أداء الرومانسية وفقا لما يتطلبه الفيلم، وحتى إن لم تتخلى عن شعرها القصير الذي بات من مواصفاتها الشكلية الثابتة، أو حضورها الذي يغلب عليه الطابع الطفولي رغم جمالها.
وفي 2008 أدت «ميج» دورها في فيلم «The Women»، ظهرت بشعرها الطويل، ومظهرها المهندم، ولكن الأمر لم تتوقف غرابته إلى هذا الحد، ما يمكننا البت فيه، أن أداء «ميج» إياه المتعلق بكونها «ميج رايان» اختلف تمامًا، توارت المسحات المصمتة في شخصها، وتقدمت علامات جديدة أنثوية، مرتبطة بطريقة كلامها، مشيتها، ابتسامتها، وكل شيء.
«ميج» الأنثى، سطعت وكأنها من البداية متواجدة بقوة وإلحاح. «ميج» المثيرة أزاحت نظيرتها تلك، التي سكنت جسد صاحبتها لسنوات، وكأن بداخلها شخصان مختلفان ومتضادان حتى النقيض. إنها أغرب حالة قد تلاحظها على تكوين أحدهم، هذا التحول التام، وكأنه يولد من جديد، وكأنه يلفظ بقوة هذا الشخص الذي كانه لسنوات طوال.
تطورت المترادفات الجديدة التي امتزجت بتكوين «ميج»، فلم تعد تكتفي بإبراز الأنثى المتواجدة بداخلها والتي حُرمت من رؤية النور لعمر كامل، وإنما بدت تشعر بأن هذه الأنثى ليست جذابة بالقدر الكافي، ومرة تلو الأخرى أطلت في أدوارها ووجهها مسحوق، وممرغ في عمليات التجميل. نعم، «ميج رايان» الفتاة التي كان شعورها بالتكلف يفوح إلى ما خارج الشاشة حينما ترتدي فستانًا، وترسم وجهها بالمكياج، الآن باتت تلجأ للتجميل والملابس المثيرة المكشوفة.
في هذه الفترة، لم تتوقف الصحافة عن تناول غرابة الأطوار التي اعتلت «ميج»، بخصوص إقدامها الملحوظ على عمليات التجميل، بهتت موهبتها في نظر الجميع، وتراجعت نجوميتها، شاركت في أدوار بأفلام رديئة، فقدت فيها كل هيبة حضورها، وركزت جل اهتمامها على أنوثتها المفقودة، منهم فيلم «My Mom’s New Boyfriend» في عام 2008.
«ميج رايان» نجمة كتبت تاريخها السينمائي بخصوصية تستدعي التأمل، امتهنت برضا أدوار لها نفس الفئة من التصنيف، لعبتها وهي متشبثة تمامًا بما يميز خصالها الشخصية كإمرأة جميلة، تبعد أميال عن مكامن الأنوثة التي تسكنها، وفجأة وبعد عمر ممتد، تستيقظ الأنثى لتجر صاحبتها الناجحة إلى الدرك الأسفل من الفشل.
آخر كلمتين:
يمكن تلخيص كل مرادفات الموهبة الملتبسة التي ميزت «رايان»، من خلال تأمل أدائها في مشهد من فيلم «When Harry Met Sally»، حينما كانت تقول لـ«بيلي كريستال»: