الأخلاقيات الطبية: هل يحق للمريض اختيار «الموت»؟
«سيبوني أموت يا عالم!، حرام عليكم، انتو كفرة!، أنا مش طايق حياتي»، هكذا صرخ المريض السبعيني عم عبد الصبور، وهو لا يكاد يتمالك أنفاسه اللاهثة، تجاه طبيبه وأهله الواقفين في قلق على حافة سريره في عناية القلب بإحدى المشافي الحكومية شديدة الازدحام.
يعاني المريض من ضعف شديد في عضلة القلب، جعله زبونًا دائمًا لعناية القلب المركزة، لا يكاد يقضي أسبوعيْن متواصليْن في منزله. فهو مُعرَّضٌ من حين لآخر لفشل حاد في وظائف القلب، وهبوطات حادة في الدورة الدموية. وفي آخر مرات حجزه بالعناية، حدث توقف في عضلة القلب، لكن نجح الإنعاش القلبي الرئوي CPR في إعادة القلب إلى العمل، ووضع بعدها لأسبوع كامل على جهاز التنفس الاصطناعي.
«هو مالوش حل نهائي غير البهدلة ديه يا دكتور ؟!» قالها ابنه في انكسار وألم.
«زي ما قلتلكم، حل حالة زي ديه في أوروبا والدول المتقدمة هو زرع قلب ورئتين!»، قالها الطبيب بلهجة شبه آلية لا تخلو من لمحة من التأثر.
«أنا زهقت من شكشكة الإبر، وريحة المستشفى، ونهجة الصدر، وكرهت نفسي واللي جابوني…. يا رب خدني يا رب وريّحني» هكذا صرخ المريض مجددًا في عصبية شديدة وهو يخلع قناع الأكسجين ويلقي به أرضًا.
أعطاه الطبيب جرعةً محسوبةً من المورفين لتهدئة أنفاسه وأعصابه، وأمر بوضعه على دعم أكسجيني متواصل، وعلى العقاقير رافعة الضغط والدورة الدموية vasopressors بالتنقيط الوريدي، ومتابعته بحذر شديد يليق بخطورة حالته وسوء احتمالاتها.
الحق في الموت!
قد يبدو العنوان صادمًا، فالمتوقع أن يكون الحديث عن حق المريض في الرعاية الصحية التي تضمن له الاستمرار في الحياة، وحبذا لو أمكن أن تحسن له نوعية الحياة، لكن هذه فكرة بديهية ليست مثار خلاف، إنما المنطقة الشائكة المؤرقة التي نناقشها هنا هي حق المريض في الموت.
بداية، نستبعد أن يكون المقصود هو إتاحة الفرصة لأي إنسان أن يطلب من أحد الأطباء أن يساعده على التخلص من حياته «الانتحار»، فهذا شبه إجماع على تجريمه دينيًا وقانونيًا وفكريًا في كل زمان ومكان، وهو نوع من القتل.
المقصود هنا هو حق المريض في أن يطلب من الطبيب أن يتوقف عن تقديم الرعاية الصحية له، حتى وإن تسبب هذا في ازدياد احتمالات الوفاة. وكذلك حقه أن يوصيَ مسبقًا كتابيًا أو شفهيًا advance directive بألا يتم القيام بإجراءات علاجية معينة له أبدًا تحت أي ظرف، كالإنعاش القلبي الرئوي CPR مثلاً، بحيث إذا جيء به إلى المشافي فاقدًا الوعي، تكون وصيته توجيهًا بما يريد.
وكغيرها من الكثير من القضايا الشائكة التي يجتمع فيها الدين والطب والفلسفة والقانون، ما زلنا نتخبط فيها على غيرِ هُدىً.
الأمر أكبر من الطاقة الفردية:
إن قضايا كتلك تمس الحياة والموت، لابد وأن تؤخذ بأقصى درجات الجدية والاستعداد، وأن يُبذل كل جهد ممكن لحسم جوانبها بشكل يجعل الجدل في أضيق الحدود.
شخصيًا أرى الحل الجذري لهذه القضية وأشباهها لن يكون حلاً فرديًا أو اجتهادًا لقلةٍ مهما بلغ جُهدُها، إنما يحتاج الأمر إلى مجامع كبرى تجمع بين صفوة الصفوة من علماء الدين والطب والفلسفة والقانون، تُقَلِّب في كافة أوجه الأمر، وتخرج بتوصيات فعالة وقوانين ملزمة وواضحة تزيل اللبس الذي يمس حياة الناس.
لكن إلى أن يحدث هذا، فليجْتَهد كل معنيٍّ منا بهذا الأمر في حدود علمه وعمله، ولنستعِن بما وصل إليه غيرنا في هذا الأمر الشائك.
بين الموت والحياة
«الحق يا دكتور .. عم عبد الصبور فجأة ما بيردش عليا … شكله أرست arrest».
هكذا قالت الممرضة وهي تطرق باب غرفته بقوة. هرع الطبيب من غرفته وطوى الأمتار التي تفصله عن المريض في ثلاث ثوان، وبدأ بجس نبضه ومحاولة سماع دقات قلبه. قلب المريض الضعيف توقف تمامًا الآن cardiac arrest كما حدث آخر مرة.
لنصف دقيقة تصارعت الأفكار في عقله. هذا المريض الذي يعرفه جيدًا يعتبر حالة نهائية end-stage غير مرجو شفاؤها بنسبة لا تقل عن 99%. فما الداعي إلى «عمل إنعاش قلبي رئوي CPR»، فلا تدخل طبي أو جراحي متاح بعدها لتغيير مسار حالته. واحتمال ضئيل للغاية أن يعود قلبه بعد التوقف، وحينها سيوضع على التنفس الصناعي، واحتمال نجاته كما حدث المرة الفائتة أشبه بالعبور من ثقب الإبرة. في المقابل صوت آخر رد في عجلة، طالما عاد مرة قد يعود مرة أخرى، ولا نحرمه أو أهله من يومٍ يرونه فيه على قيد الحياة ولو بأنبوبة تخترق فمه وحنجرته، وتحيط به الأنابيب من كل اتجاه.
بالطبع لا وصية مسبقة من المريض بهذا الخصوص كما في الجانب الآخر من الدنيا. إذن فقرار حياة عم عبد الصبور الآن بين يدي ضمير الطبيب وطاقته ومزاجه!، ولا وقت يسمح بالبحث عن أحد أقربائه لاستطلاع رأيه، وحتى هذا لو حدث، فضميريًا وقانونيًا لا يطمئن لهذا.
كان نصف وقت المعركة الفكرية السابقة يدور بينما الطبيب بالفعل فوق صدر عم عبد الصبور يقوم بعمل الانضغاطات الصدرية chest compressions عماد الـ CPR!.
القضايا الشائكة
سأحاول تلخيص أخطر نقاط الجدل في هذه القضية (قضية حق المريض في الموت) فيما قلّ سرده وثقُل وزنه قدر الإمكان.
أولاً: مبدأ سيادة المريض على جسمه وحياته وقراراته Autonomy:
وهذا المبدأ سيتكرر معنا كثيرًا في أي حديث عن الأخلاقيات الطبية، ولكن أي جدلٍ في هذه الفرضية البدهية؟، للأسف عندنا هناك شك وجدال كبير في هذا.
في الغرب -وإن اختلف الأمر من مكان لآخر- تكون حرية الفرد هي المقدس الأول. وانعكس هذا على قوانين الخدمة الطبية، فكان هذا المبدأ هو الأساس مع بعض الاختلافات البسيطة من مكان لآخر. ولذا فحق أصيلٌ للفرد وليس غيره طالما هو بوعيه أن يتخذ كل القرارات الطبية التي يعرضها عليه طبيبه مهما كانت حالته طارئة، ومن حقه أن يرفض تلقي العلاج طالما لن ينتج عن قراره إيذاء لغيره (كأن يرفض أن يعالَج من مرض معدٍ للغاية كالالتهاب السحائي). وفي حالة فقدانه الوعي، فوصيته المكتوبة advance directive هي المرجع الأول، ويشجع الأطباء مرضاهم على عمل هذه الوصية الطبية مسبقًا لتكون جاهزة عند حدوث طارئ، ولا يتم اللجوء للأقارب (الأقرب فالأقرب) إلا في حالة غياب الوصية. وبلغ من تقديرهم لهذا المبدأ، أنه حتى المرضى النفسيين المصابين بالسكيزوفرينيا schizophrenia والتي تُتلف قدرة المريض تمامًا على التفكير المنطقي، وتُذهب بصيرته، يحق له اتخاذ كل القرارات طالما أن حالته مستقرة بالأدوية النفسية.
أما في الثقافة العربية بشكل عام، فلا قواعد أو قوانين حاسمة في هذا الاتجاه أو ذاك. عندنا فكرة تقليدية سائدة، أساسها ديني، تقول إن جسم الإنسان ملك لله سبحانه وتعالى الخالق البارئ؛ وبالتالي فلا يجوز أن يتصرف فيه صاحبه المؤقت وهو الإنسان بغير ما يرضي المالك الأصلي.
ولا توجد تمامًا ثقافة الوصية الطبية، فقيمة الفرد إجمالاً -للأسف- وقيمة قراره ورأيه ليست كبيرة في معظم أمور حياتنا، وهذا ينعكس قطعًا على القرارات الطبية. فالوصائية والأبوية paternalism هي الأساس لدينا. ولو اعتمد أحد الأطباء رأي المريض نفسه قبل أي تدخل طارئ، سيحاسب حسابًا عسيرًا، وقد يتعرض لمساءلة قانونية بحجة أن المريض في حالة لا تسمح له بالتفكير السليم. ولذا تجد تدخلات من أهله في قراراته المصيرية لا تقتصر في أحيانٍ كُثُر على أقارب الدرجة الأولى.
ثانيًا: ما هو الموت؟
ما زال التعريف الحاسم للموت مثار خلاف، لكن أصبح من شبه المجمع عليه أن توقف القلب والتنفس cardio-pulmonary arrest ليس هو الموت، إنما هو موت خلايا المخ brain death والذي يبدأ في الحدوث عند انقطاع وصول الدم إليها أكثر من ثلاث دقائق كما يحدث عند توقف القلب، وهنا مواطن الخلاف. فقلة تكتفي بموت القشرة المخية cerebral death والتي تمثل مراكز يقظة وذاكرة وشخصية الإنسان ووظائفه العليا، والغالبية تشترط موت جذع المخ أيضًا brainstem death والذي يحتوي مراكز الوظائف الحيوية كحركات التنفس والقلب. وحسم هذه القضية لا غنىً عنه لاتصاله بأمور هامة جدًا كالفصل من أجهزة التنفس الصناعي والتي يبقى بعض المرضى معلقين عليها بين الحياة والموت لشهور وسنوات، والحقوق التي تترتب بعد وفاة الإنسان كالميراث، …إلخ، وأخذ الأعضاء من جسم المريض وهي بحالة جيدة لزرعها لدى أصحاء يحتاجونها إذا كان قد أوصى بذلك، ….إلخ، وهذا مبحثٌ كبير يحتاج جهدًا آخر، لكن لم يكن مفرٌ من الإشارة إليه.
ثالثًا: حدود الحق في الموت:
ليس المراد هنا كما أشرنا سابقًا أفكار شبه مُجمَع على رفضها أخلاقيًا كالانتحار تخلصًا من الحياة، أو حتى ما يسمى بالقتل الرحيم للمرضى بالأدواء المتقدمة الميؤوس منها كالسرطانات المنتشرة بالجسم، ..إلخ تخليصًا لهم من الآلام والمعاناة. فالأخيرون يتوفر لهم ما يسمى Hospice services، والتي تهتم فقط بإراحتهم من الآلام والأعراض المرضية المؤرقة دون تدخلات كبيرة طبيًا وجراحيًا، وذلك لتلطيف الأيام/الشهور الباقية لهم ما أمكن.
ولكن سأسرد بعض الأمثلة الحياتية التي تواجه الأطباء يوميًا:
- مريضٌ مصاب بداءٍ متقدم لا يوجد له علاج جذري، أو يوجد ولا قدرة للمريض عليه (سرطان متقدم – فشل كبدي متقدم – ضعف شديد بعضلة القلب، …إلخ)، واحتمالات الوفاة الراجحة كبيرة خلال شهور. وأصيب بفشل كلوي حاد مثلاً، أو التهاب رئوي شديد، …إلخ استدعى حجزه بالعناية المركزة، وهذا يعني انتزاعًا له من أهله معظم الوقت، وسحب عينات دم، وشكات إبر، وتعبًا نفسيًا وجسمانيًا للمريض، ومصاريف كثيرة، …إلخ من أجل تأخير ما سيأتي عاجلاً أو آجلاً. وكثير من هؤلاء يناشد الأطباء وأهله صباح مساء أن يخرجوه إلى منزله ليموت في سلام، لكن معظمنا لا يستريح لهذا، ونفرض وصايتنا عليه، ونبقيه يتعذب برحمتنا إلى حين.
- نفس المريض لو توقف قلبه، هل نقوم بعمل CPR أم لا؟. والـ CPR تكون احتمالات نجاحه محدودة جدًا، وغالبًا ما ينتج عنه تكسر في الضلوع، وجروح بالفم والحلق أثناء تركيب أنبوبة التنفس، …إلخ، وإن نجح فسيوضع المريض على التنفس الصناعي ليتوقف قلبه من جديد بعد دقائق أو ساعات أو أيام، وهذا إنهاك للطاقم الطبي والإمكانات المهترئة والموارد المحدودة للقطاع الطبي ولأهل المريض من أجل حالة شبه ميئوس منها. للأسف كثيرًا ما تنتهي حيرة الطبيب ببين عقله وعاطفته إلى أن يقوم بعمل CPR. شخصيًا أصبحت أميل إلى حفظ كرامة المريض، وعدم عمل CPR في مثل هذا الوضع إلا إذا كان جسرًا لتدخل جذري يمكن إفادة المريض به، وأدعو الله إن أصبحت في هذا المكان أن أكون بين يدي طبيب يفكر بهذا الشكل.
- مواقف مخجلة متكررة في وضعنا المزري تتصل بقضيتنا. كثيرًا ما يرد إلى استقبال الطوارئ مرضى قلبهم متوقف منذ دقائق وأحيانًا ساعة (المريض لا يستجيب، وأهله يذكرون أن هذا بدأ منذ مدة كذا)، وتكون علامات الموت الظاهرية متحققة فيهم (كاتساع وثبات بؤبؤ العين رغم توجيه الضوء إليه – غياب رد الفعل القرني corneal reflex، …إلخ)، ومع ذلك يضطر معظم الأطباء لعمل CPR؛ وذلك حتى لا تحدث مشاكل مع أقارب المريض، ويتهمون الأطباء بالإهمال وترك مريضهم يموت دون محاولة إنقاذ، وهذه المواقف اللامعقولة مما لا يمكن تفسيره ولا تبريره ولا التعليق عليه!
نهاية سعيدة!
لم يستطع إلا أن يفعل ما يفعله دائمًا، ولا يدري أيهم الأكثر إرضاء لضميره أمام الله الرحيم بعباده؛ محاولة إعادة قلب هذا المسكين للعمل ليستمر عذابه، أم تركه لمصيره الذي سيحدث عاجلاً أو آجلاً.
عامةً شاءت الأقدار ألا ينجح الـ CPR في إنعاش قلب عم عبد الصبور، ولم يستطع الطبيب -رغم رهبة الموقف- أن يخفي قدرًا من السعادة لوصول رحلة معاناة عم عبد الصبور إلى محطة الراحة النهائية من الدنيا، وكذلك لأنه لم يكن هناك جهاز للتنفس الصناعي متاح في هذه اللحظة، وكان سيضطر هو والتمريض للجوء إلى التنفس اليدوي ببالونة التنفس Umbo bag breathing لدقائق أو ساعات ريثما يجد أهل المريض عناية أخرى يتوفر بها جهاز للتنفس الصناعي، ولكن سبقت رحمة الرحمن، وحلّت على الجميع.