الإعلام واليمين الفرنسي: عن الكره الذي أمسى عشقًا
في عددها ليوم 27 آب/ أغسطس، خصصت مجلة «القيم الحالية» (Valeurs Actuelles) اليمينية ملفًا خاصًا عن النائبة اليسارية من أصول أفريقية دانييل أوبونو. المجلة المعروفة بعدائها الكبير للتيار اليساري في فرنسا، اختارت كغلاف للملف صورة أوبونو تلف عنقها سلسلة حديدية كانت تستعمل قديمًا لجر العبيد، ما خلّف ضجة كبيرة وسلّط الضوء من جديد على الإعلام المنضوي تحت لواء اليمين المتطرف.
ورغم الاستنكار الذي صدر عن جميع الأطياف السياسية في البلاد، وعلى رأسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واعتذار «القيم الحالية» التي رفضت الاتهامات التي وجهت إليها بالعنصرية، مستدركة أنها في نفس الوقت تتفهم غضب وعدم تقبل أوبونو لهذه الصورة، فإن هذه الواقعة تبين لنا أن ملامح التغول الإعلامي لليمين المتطرف الفرنسي بدأت تتشكل بوضوح، ومع الأيام بدأت قدرة هذا الإعلام على خلق الحدث والجدل وتمرير رسائل قد تبدو جريئة أو صادمة تظهر جلية للجميع، مستغلة الضبابية الكبيرة للحدود الإعلامية ولحرية الصحافة، دور جديد لإعلام قديم جديد أصبح قادرًا دون شك على التأثير في كل ما هو سياسي واجتماعي وثقافي في فرنسا.
ريادة إعلامية لدواع عنصرية
يعتبر اليمين المتطرف الفرنسي أنه ضحية لتغطية إعلامية غير موضوعية من الإعلام الفرنسي سواء الرسمي أو غير الرسمي، تغطية تهدف بحسب أعضائه ومريديه إلى نقل صورة سلبية عنه بهدف تنفير قطاعات كبيرة من الشعب الفرنسي من الإنصات إلى خطابه السياسي الوطني.
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، عاد الإعلام لتسليط الضوء على خطاب اليمين المتطرف ورموزه، بعد أن قدم الأخير نفسه كصاحب الحل وحامل لواء الدفاع عن الأمة الغربية ذات العرق الأبيض من المتطرفين الإسلاميين، لكن هذا الانفتاح الإعلامي كان حذرًا للغاية، فقد كان اليمين المتطرف الفرنسي مثلًا، وعلى رأسه الجبهة الوطنية بزعامة جون ماري لوبين، يختار بعناية فائقة الصحفيين والمنابر الإعلامية التي سيسمح لها بتغطية مؤتمراته وملتقياته.
لكن على صعيد آخر، لم يكن المتطرفون اليمينيون في فرنسا ليكتفوا بمرور إعلامي استثنائي تسمح به الضرورة السياسية أو الاجتماعية محليًا أو عالميًا، ولكن الرهان كان على إنشاء شبكة إعلامية تقوم بنوع من «البروباغندا» وتدافع عن الأيديولوجية اليمينية المتطرفة أمام أطروحات اليسار واليسار المتطرف والناشطين ضد العنصرية وباقي خصوم رفقاء آل لوبين داخليًا وخارجيًا.
البداية كانت سنة 1980، حين دشنت الجبهة الوطنية أول مشروع إعلامي خاص بها وهو عبارة عن إذاعة تحت مسمى «راديو لوبين»، كانت الإذاعة تنقل الأخبار عبر ربط اتصالات الهاتفية بالمنخرطين أو عبر توزيع الشرائط عبر البريد، بعدها بست سنوات أي سنة 1986 تمكن حزب لوبين من أن يكون أول حزب سياسي يجهز نفسه بجهاز حاسوب مينيتل 3615، وهو ما يعتبر ثورة في التجهيز حينها. هذه الريادة التواصلية فتحت صفحة أخرى مهمة بعد أن أنشأ الحزب اليميني المتطرف موقعه الإلكتروني الرسمي. كل هذه الخطوات التواصلية الجديدة جعلت من الجبهة الوطنية وتيار اليمين المتطرف أحد الرواد السياسيين المهمين في مجال الإعلام والتواصل حتى وإن كان قليل الحضور على مستوى الإعلام الرسمي، وهذا ما قد يفسر مثلًا كون مارين لوبين، رئيسة التجمع الوطني الفرنسي (الجبهة الوطنية سابقًا)، تتفوق على الرئيسين الفرنسيين السابقين فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي في عدد المتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي.
كافح اليمين المتطرف في فرنسا حتى يكون له موطأ قدم على الساحة الإعلامية الفرنسية، ولا نقصد باليمين هنا الأعضاء المرتبطين عضويًا بالتجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) ولكن التيار بكامل أطيافه ومؤسساته والداعمين له.
تمكن هذا التيار السياسي من تأسيس عدد من المنابر الإعلامية التي كانت تلاقي أحيانًا صعوبة في إصدار رسالتها الإعلامية من داخل فرنسا بسبب رسائل الكراهية الفجة التي كانت تبثها، كجريدة «دقيقة» (Minute) التي تأسست سنة 1962 للدفاع عن أفكار التيار اليميني ونشط فيها عدد من الكتاب اليمينيين أبرزهم باتريك بويسون، المستشار السابق لنيكولا ساركوزي والمدير السابق لقناة هيستوار المختصة في التاريخ والتابعة لمجموعة TV1 الفرنسية.
بجانب «دقيقة»، نجد أسبوعية ريفارول (Rivarol) وهي صحيفة مصنفة على أنها «معادية للسامية» بسبب نشرها مقالات تدعم أطروحة التشكيك في الهولوكوست. سنة 2016، نظمت الجريدة حفلًا كبيرًا احتفالًا بعيد ميلادها الخامس والستين، حضره نحو 600 شخص أغلبهم مناضلون من اليمين المتطرف يتزعمهم رموز يمينية مهمة كجون ماري لوبين، الكنسدر كابرياك، هيرفي ريسين ثم أخيرًا روبير فوريسون الأكاديمي الفرنسي الذي توبع في أكثر من مرة أمام المحاكم بتهم تخص التحريض على الكراهية والعنصرية والدفاع عن جرائم ضد الإنسانية. كما تضم الترسانة الإعلامية لليمين منابر إعلامية أخرى منها جريدة «كوزو» ومجلة «اللاصحيح» (L’Incorrect) التي أسسها مقربون من ماريون ماريشال لوبين، حفيدة جون ماري لوبين وابنة أخت مارين لوبين، وموقع «ماريان» (Marianne) الإلكتروني.
الإعلام الجديد كأداة للتجنيد
رغم المجهود الكبير الذي بذله التيار اليميني من أجل تأسيس عدد من الجرائد والمجلات للدفاع عن أطروحاته الأيديولوجية، فإن الجرائد تبقى مكلفة بسبب أسعار الورق وتكلفة الطباعة والتوزيع أضف إلى ذلك وصولها لعدد معدود من الناس وهم القراء الذين اختاروا شراء هذه الجريدة، لذلك هنالك حل أفضل وأسرع وأقل تكلفة وأكثر فاعلية : الاستثمار في شبكات التواصل الاجتماعي.
كل ما تحتاج إليه لنشر أفكارك على منصات التواصل الاجتماعي هو حاسوب أو هاتف ذكي وشبكة الإنترنت، كما أن النقطة الإيجابية إضافة إلى التكلفة البخسة طبعًا، هي أن أفكارك تصل إلى الجميع، المتفقون معك والمختلفون حد سواء.
هذه الأمور جعلت من شبكات التواصل الاجتماعي مضمارًا مفضلًا لتيار اليمين المتطرف للدعوة إلى أطروحاته الأيديولوجية، إذ يتم تنظيم دورات تكوينية للشباب الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي حول كيفية إدارة المعارك الافتراضية عبر التركيز على نشر عدد كبير من الرسائل ذات مضمون معين على الصفحات المهمة ونشر رسائل السخرية الاستفزازية لخلق نوع من الجدل كالمحتوى الذي يتم تداوله حول الإسلام والرموز المقدسة لدى المسلمين. أول مجموعة بدأت هذه الاستراتيجية التواصلية كانت مجموعة «الهوياتيين»، وهي مجموعة ثورية يمينية فرنسية تأسست سنة 2002، سباقة إلى تنظيم دورات تدريبية مركزة لأعضائها حول كيفية التعامل مع التقنيات الجديدة لتواصل أكثر فعالية.
أما الجيل الجديد لليمين المتطرف ممثلًا في مجموعة «جيل الهوية»، فقد حاول من خلال مواقع التواصل الاجتماعي تقديم صورة مختلفة عن الصورة النمطية لمناضلي اليمين حليقي الرؤوس، مفتولي العضلات الذين يحملون رايات عليها الصليب المعقوف رمز النازية في حين يصرخون في الشارع «هايل هتلر».
عمل «جيل الهوية» على تغطية فعالياته على مواقع التواصل الاجتماعي، والاشتراك بقوة في الحوارات المجتمعية والسياسية في فرنسا عبر اختيار عدد من الناطقين اللبقين من أصحاب الشواهد العالية للحديث باسم المجموعة، لكن نوع الرسائل الداعية للكراهية ظل حاضرًا كما هو الحال في باقي المجموعات المتطرفة الأخرى، وهو ما دفع موقع تويتر في يوليو/تموز 2020 إلى إغلاق العديد من الحسابات الناشطة لجيل الهوية بما في ذلك حساب رومان إيسبينو الناطق الرسمي باسم المجموعة ليقرر بعدها الفصيل الهجرة نحو تطبيق «تحدث» (Parler) الذي يعتبر المنصة المفضلة لليمين المتطرف الأمريكي.
الشاشة: سحر لا يخفت
قد تكون مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية قد سرقت الأضواء فعلًا من الجرائد الورقية والمجلات، إلا أنها لم تتمكن من سرقة رونق الشاشة الصغيرة رغم مزاحمتها إياها عبر منصات الفيديو كاليوتيوب.
بداية، تعتبر القنوات التلفزيونية من أهم مصادر المعرفة والتثقيف والترفية في فرنسا، نشرة الثامنة مساء مثلًا على القناة الأولى تعد من المواعيد اليومية الأساسية للعديد من الأسر الفرنسية، لذلك فالحضور على الشاشة بشكل عام وعلى القنوات المفتوحة يفتح الأبواب أمام جميع الأطياف السياسية والأيديولوجية في فرنسا للدخول إلى قلب الأسر ومخاطبة مختلف الشرائح والأجيال.
ناضل اليمين المتطرف الفرنسي للظهور على الشاشة ومخاطبة الفرنسيين مباشرة، إلا أن الفرص كانت قليلة ورهينة بظروف في الغالب تكون غير مريحة، لذلك حاول هذا التيار إنشاء وسائله الإعلامية المرئية من قبيل قناة Liberty TV أو قناتي Russia Today French و Sputnik المدعومتين بتمويل روسي.
لكن خلال السنوات الأخيرة تمكن رفاق آل لوبين من فرض أنفسهم ضيوفًا دائمين على برامج التوك شو الفرنسية بعد أن عاد اليمين المتطرف للأضواء وتمكن خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة من الوصول إلى الدور الثاني عبر ممثلته مارين لوبين التي خسرت أمام الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون.
ومن أبرز الوجوه التي أصبحت ضيفًا دائمًا على الإعلام الفرنسي، اليميني إيريك زمور صاحب الآراء والمواقف العنصرية الصادمة أحيانًا وأحد أبرز مروجي نظرية «الاستبدال الكبير» (The Great Replacement) التي ترى أن طرد الرجل الأبيض من أوروبا سيكون من بوابة النمو الديموغرافي بسبب الهجرة العربية والإسلامية لفرنسا.
وتمكن زمور من حجز مكان له في برنامج «فاص أ لانفو» الذي تقدمه الصحفية كريستين كيلي على قناة «سي نيوز» التابعة لمجموعة «كانال بلس» حيث يقوم بالتعقيب والتعليق على الأحداث الجارية ومناظرة بعض المعادين لطرحه سواء من اليساريين أو من المناضلين ضد العنصرية.
حضور زمور بشكل مستمر على وسائل الإعلام، فتح له أبواب قنوات أخرى لنقل أفكاره، ففي سبتمبر/أيلول 2018، أذاعت قناة LCI المنضوية تحت لواء TV1 خطاب زمور كاملًا خلال مشاركته في مؤتمر يميني نظمته ماريون ماريشال لوبين والذي قال فيه إنه من الظلم مقارنة النازية بالإسلام لأن النازية رغم جرائمها العديدة فإنها لم تصل للسوء الذي جعلها توضع في نفس الكفة مع دين كالإسلام، ولم تنجح جميع محاولات مقاطعة هذه القنوات والمعلنين عليها من توقيف ظهور زمور على الشاشة بسبب نسب المشاهدة المهمة التي يحققها بسبب خطابه الإعلامي الصادم والمستفز لخصومه.
بوق الكراهية: أن تشعل النار في كل مكان
لم نعد نحتاج اليوم للحديث كثيرًا عن أهمية الإعلام، ودوره في نشر الرسالة والصورة، في الحشد والبروباغندا، لذلك فإن انتشار المنابر الإعلامية اليمينية في فرنسا، يمهد أكثر من أي وقت مضى لتسلق اليمين المتطرف لسلم الشعبية وتحقيق حلمه التاريخي في حكم فرنسا وجعلها أكثر بياضًا.
دون نسيان أن ما يقال في الإعلام الفرنسي اليوم لم يعد يصل للفرنسيين فقط، بل أصبح يصل لكل مكان في العالم تقريبًا، من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها، والدليل مجزرة أستراليا في مارس 2019 التي استهدفت مسجدين بمدينة كرايستشرش، منفذ المجزرة وفي الرسالة التي تركها بعد عزمه على تنفيذ جريمته أكد أنه مقتنع بضرورة طرد المسلمين حتى تتمكن الدول الغربية من إحباط نظرية «الاستبدال الكبير» التي أحياها الفرنسي رينو كامو وروج لها ونشرها إيريك زمور ليتلقفها إرهابي في آخر الكرة الأرضية ويجعلها ذريعة لقتل 51 شخصًا وإصابة 49 آخرين.