مدحت شلبي: خفايا جنرال الترفيه الرياضي الأول
ترى ما السبب وراء شعبية كرة القدم الجارفة؟ يبدو السؤال منطقيًا لدى كثيرين لكن الإجابة لهذا السؤال لا تتسم بالثبات.
أجاب الأديب الأرجنتيني بورخيس على هذا السؤال قائلًا: «لأن الغباء أمر شائع»، بينما يؤمن البعض في المقابل أن كرة القدم هي الحياة والوطن والإرث الذي لا يبلى.
لكن أهم ما يميز الكرة أنها بسيطة ومعقدة في آن واحد. يمكنك أن تغرق حتى أذنيك في تكتيكات الكرة وتاريخها وتفاصيلها الفنية البحتة، كما يمكنك أيضًا أن تكتفي بمعرفة القواعد البسيطة للعبة وتبقى متعلقًا بها بشكل كبير.
لا يختلف المشهد الكروي في مصر عن مثيله في بقية البلدان، لكنه يتمتع ببعض العناصر التي تشبه المصريين أنفسهم. أحد أهم تلك العناصر دون شك هو الإعلام الرياضي.
من بين كثيرين من رجال الإعلام الرياضي هناك رجل وحيد يمكننا أن نقف أمامه ليفسر لنا كثيرًا من المشهد الكروي في مصر بأكمله.
يمتلك هذا الرجل تاريخًا وتأثيرًا بالغين في عقول محبي كرة القدم المصريين، رغم أن كثيرين لا يتناولون هذا التأثير بالجدية اللازمة وهنا تحديدًا يكمن سحره الخاص.
الجنرال مدحت شلبي. ضابط الشرطة الذي تدرج حتى رتبة لواء متقاعد والرجل الأكثر خفة ظل من بين مذيعي كرة القدم ومقدمي البرامج الرياضية، حتى لقبه البعض باسم «شلبوكا»، وهو اللقب الذي يسعد به على أي حال.
نحن لسنا بصدد تناول سيرة شلبي ذاته، لكن ولأننا نبحث عن تأثير الرجل فلا بد لنا أن نتناول جزءًا مهمًا من تاريخه، هذا الجزء الذي ساعده ليكون رجل الترفيه الأول في عالم كرة القدم المصرية.
رجل الترفيه الأول
اكتسب مدحت شلبي شهرته في عالم كرة القدم كمعلق في البداية. يشرح الجنرال فلسفته في التعليق كالآتي: «تنقسم متعة مشاهدة مباراة كرة القدم إلى نصفين، النصف الأول يتعلق بمتعة المباراة نفسها على أرض الملعب. أما النصف الثاني فيتعلق بالمتعة التي يكسبها المعلق للمباراة أثناء التعليق».
يمتلك المذيع الرياضي الأهم لسنوات ليست بالقليلة، أدوات كثيرة لجعل تعليقه ممتعًا للغاية. وراء تلك الأدوات تجارب عديدة، تجارب لم تبدأ رفقة كرة القدم من الأساس ولذا فهي بعيدة عن فنيات اللعبة.
توفي والده وهو في السادسة من عمره، فقررت الوالدة الرحيل من دمنهور نحو القاهرة. سكنت العائلة في شارع إسماعيل الفلكي بمصر الجديدة، حيث يسكن السنباطي وكارم محمود ويسرا وعائلة شويكار.
صادق الصغير أحمد السنباطي- نجل الموسيقار رياض السنباطي- بحكم الجيرة. يحكي شلبي أن أحمد الذي احترف عزف الكمان داخل فرقة أم كلثوم كان يعزف لهم بعض مقطوعات أغاني الست قبل أن تعرض على الجمهور.
تعلق الجنرال بالفن منذ صغره بشكل كبير، لكنه لم يملك رفاهية احتراف الفن. قرر الالتحاق بالكلية الحربية لسبب وحيد وهو أنه لن يحتاج أكثر من 12 شهرًا فقط للتخرج وجني الأموال ومساعدة الأسرة.
لم يستطع شلبي النجاح في اختبارات الكلية الحربية، فتوجه إلى اختبارات كلية الشرطة ونجح بالفعل. احترف كرة القدم داخل الكلية حيث يمتلك جهاز الشرطة ناديًا لكرة القدم. أصبح لاعبًا في صفوف هذا الفريق بالفعل.
تحكمت الظروف في مسيرة الرجل كما يبدو، إلا أنه تأثر بتلك النشأة التي أنتجت لنا رجلًا من الصعب أن يوجد خلف مكتب خشبي يمارس الأعمال الاعتيادية أو حتى ضابط شرطة يتعامل مع الحياة من منظور جامد دون روح.
لم يلتحق الرجل بالسلك الشرطي حبًا فيه كما هو واضح؛ لذا تعلق أكثر بكرة القدم ولكنه لم يكن بارعًا في اللعبة على ما يبدو. وحبًا في ظهور مواهبه للنور تقدم للعمل في التلفزيون المصري كمذيع في الأساس وليس معلقًا لمباريات كرة القدم رغم أن تعيينه في البداية كان في قسم البرامج الرياضية.
تعدد مواهب شلبي أتاح له احتراف برامج المسابقات لعدد لا بأس له من السنوات، حيث كان يدير تلك البرامج متسلحًا بكم معلومات فنية جيد للغاية وحضور ذهني ملحوظ.
استطاع أخيرًا العودة للبرامج الرياضية ثم أتيحت له فرصة التعليق على بعض المباريات المهمة لتبدأ أسطورة شلبي المعلق.
تلك هي أدوات مدحت شلبي؛ ولذا فلا عجب أنه أثناء تعليقه لمباراة كرة قدم يستخدم كوبليه من أغاني أم كلثوم أو سجعًا متماثلًا ينطوي على خفة ظل هائلة.
استطاع شلبي أن يقدم المتعة كمعلق باعتبار كرة القدم نشاطًا ترفيهيًا تلتف حوله الجماهير ثم تطور الأمر بعد أن ظهرت القنوات الرياضية للنور.
كانت أولى تجارب مدحت شلبي كرجل العرض الأول داخل التلفزيون اللبناني، الذي حصل على خدمات شلبي لتقديم مباريات كأس العالم 1998.
كرة القدم كنشاط ترفيهي فقط
ولأن التلفزيون اللبناني لم يكن غنيًا حينئذ، فكان عليه أن يقدم وحده البرنامج الرياضي ما قبل المباراة ثم يعلق على المباراة ثم يعود لتحليل المباراة ذاتها.
برع شلبي في تأدية كل الأدوار بما يتناسب مع تناول الشعب اللبناني لكرة القدم. فكرة القدم في لبنان لا تتمتع بالشعبية الطاغية مثل مصر على سبيل المثال.
استغل الرجل كل ما يملك من أدوات ليستمر وحده لساعات أمام المشاهدين دون أن يكون مملًا. ولذا عندما ظهرت القنوات الرياضية في مصر كان شلبي خيارًا منطقيًا للغاية.
نحن في غنى عن سرد تاريخ الرجل في القنوات الرياضية وبرامجه التي امتدت لسنوات؛ لأنها ببساطة الأقرب لذهننا جميعًا. لكن أهم ما يميز تلك البرامج أنه استطاع أن يبقى لساعات وساعات كل يوم ليقدم كرة القدم كنشاط ترفيهي فقط.
يحكي شلبي مع نجوم كرة القدم القدامى عن نوادر زمان، ثم يطلق قفشات معتادة رفقة ضيوفه عن سلوكهم الشخصي، ولا مانع أن يرسل كاميرا داخل بيت أحد اللاعبين لعله يحرز هدف الفوز فنشاهد جميعًا احتفال العائلة بالهدف، بل واحتفال الشارع ثم المنطقة بأكملها.
تعامل الجنرال مع كرة القدم معاملة برامج المسابقات، فقط مقدمة يؤكد خلالها رفقة ضيوف الأستوديو أن الأهلي استطاع أن يسيطر على المباراة منذ البداية ويجب أن نشكر المنافس الذي حاول، وأن الزمالك يجب أن يبدأ التغيير من الإدارة مع شكر بعض القامات المشرفة ثم يبدأ العرض الذي يحمل كثيرًا من المتعة دون فائدة.
تعامل جمهور الكرة في المقابل مع برامج مدحت شلبي على أنها جلسة لطيفة زادها الأساسي كرة القدم، وهي الجلسات التي تعج بها مقاهي مصر منذ الأزل. ربما لم يدرك شلبي نفسه مدى تأثيره داخل عقول مشجعي كرة القدم.
النتيجة أن كثيرين من متابعي كرة القدم في مصر لم يتعرفوا على تفاصيل تكتيكية بسيطة تتعلق باللعبة لفهم ما يشاهدون. هذا الوعي الذي يؤثر في المشهد الكامل لكرة القدم بما يحتويه من لاعبين ومدربين.
تستطيع أن تلاحظ الإشادة المستمرة من المتابعين للفقرة التكتيكية التي يقدمها المذيع الشاب إبراهيم فايق رفقة المحللين أحمد عز وتامر بدوي لتعرف أن الجماهير المصرية التي تطورت هي الأخرى عبر الوقت كانت تحتاج لهذا النوع من التفاصيل بخاصة بعد أن شاهدت صلاح وعرفت أسماء مثل بيب وكلوب.
تلك الجماهير كانت تستحق أن تتفهم تكتيك شحاتة وأدوار أبوتريكة وبركات وأفكار جوزيه بشيء من الاحترافية أكثر مما حدث. تلك الفترة كانت تعج بالأفكار والتفاصيل التي ربما أدركها القليل .
بينما أفرد جوناثان ويلسون في كتابة الهرم المقلوب مساحة للجزء التكتيكي الذي استخدمه حسن شحاتة والعودة لطريقة 3-5-2 في مواجهة الفريق الأفريقية التي استخدمت طريقة 4-4-2 وقدرة شحاتة على إعطاء اللاعبين العديد من الأدوار المركبة طبقًا لسير المباراة. اكتفى شلبي والأستوديو الخاص به في التعامل مع شحاتة كونه المدرب الوطني الذي التف حوله اللاعبون وحباه الله بتوفيقه وساندته دعوات المصريين.
مدحت شلبي كأداة
تعامل مدحت شلبي مع كرة القدم كأداة ثانوية ولذا كانت النتيجة أن شلبي نفسه أصبح أداة في يد من يعتبرون كرة القدم قوة ناعمة لها تأثير. هنا تظهر لنا نسخة شلبي الذي يقرر أن يصعد ببعض الأسماء حد السماء أو يتغاضى عن بعض الأسماء اللامعة وكأنها غير موجودة.
يبرع الرجل في هذا النوع الذي يستخدم كرة القدم كراية لتلميع الأشخاص أو إقصائها. لا داعي هنا أن نذكر تلك المشاهد ونتناولها بالتفصيل، لكن يمكن للمتابع العادي الربط بين ضيوف شلبي والاتجاه العام للمسئولين عن الكرة في مصر ليتفهم دور شلبي الذي لا يستهان به.
فقط اربط بين شلبي وأسماء مثل الخطيب ومحمود طاهر ومرتضى منصور وتركي آل الشيخ وهاني أبوريدة. وتابع كل موقف كيف يتعامل شلبي مع نفس الأشخاص بشكل مغاير طبقًا للظروف المحيطة.
حسنًا، يبدو أن الجنرال يمتلك تأثيرًا ليس هينًا في شكل المشهد الكروي في مصر، وهو ما يغري البعض لتكرار هذا النموذج ولكن الأمر ليس سهلًا.
شلبي: هذا المزيج صعب تكراره
حاول البعض تكرار نموذج شلبي الناجح دون شك، لكن النتيجة كانت دومًا هي فشل هؤلاء، فهذا المزيج المكون لشخص شلبي واستيعابه لدوره المحدد سلفًا صعب للغاية أن يتكرر.
لك أن تعرف أن الجزء المتعلق بالبدايات قصها شلبي نفسه خلال برنامج يتناول مسيرته رفقة الفنانة إسعاد يونس. يعرف عن إسعاد يونس ذاتها خفة الظل والحضور إلا أنها لم تتوقف عن الضحك طوال حديث الضيف حتى صارحته أخيرًا خلال البرنامج قائلة: «انت شربات».
لذا فالرجل موهوب بشكل فطري بالفعل وهو ما لا يُقلد أبدًا بل يقع بالجميع في خانة التكرار والملل والظهور دون فائدة. لكن هناك قصة أخرى قد تشرح الكثير أيضًا.
يقص مدحت قصة تعود إلى فترة دراسته داخل كلية الشرطة، حيث كان مسئولًا عن تجميع مبلغ مالي من زملائه بالدفعة ليشتري به هدية بسيطة لدكاترة المواد القانونية التي يدرسها طلاب الشرطة.
تقدم شلبي خلال المحاضرة الأخيرة لدكتور مادة القانون الجنائي، تلك المادة الضخمة للغاية على حد قوله وأعطاه الهدية ثم نظم شعرًا بالفصحى من تأليفه الشخصي، حتى أن دكتور المادة بكى من فرط التأثر واحتضنه على الفور. فهمس شلبي للدكتور أثناء هذا العناق المؤثر: خفض يا دكتور خفض المنهج.
يستطيع شلبي أن ينظم شعرًا بالفصحى من 34 بيتًا يؤثر في دكتور مادة قانون جنائي بينما لا يستطيع بقية عناصر الإعلام الرياضي الحديث بالفصحى ثلاث جمل متصلة. هذا الرجل يملك موهبة ضخمة تكمن في لسانه ولا يحاول فقط استرضاء المشاهد بل يقدم ما يريد من أفكار بشكل غير مباشر لا يشعر معه الجمهور بالوعظ أو التوجيه.
امتلك شلبي ما يستطيع به أن يثري الإعلام الرياضي، لكنه قرر أن يكون الجنرال الضاحك فقط بعيدًا عن تثقيف جمهور كرة القدم الذي أحب شلبوكا في المقابل وجعله أسطورة.