ميدفيست مصر 2019: حكايات سينمائية عن الطب والصغار
ما الذي يجمع بين السينما والطب؟
هذا سؤال يبدو غريبًا لأول وهلة، لكنه بعد التفكر فيه لقليل يبدو طبيعيًا للغاية، الطب والسينما يجمعهما كل شيء تقريبًا، يجمعهما حياة البشر، أجسادهم وأرواحهم، يجمعهما الحكايات، الأمل في الخلاص، والخوف من الموت.
وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال وخلق هذا الجسر، تمت إقامة مهرجان ميدفيست مصر السينمائي، الملتقى الأول في العالم العربي عن الطب في الأفلام، وهو النسخة العربية من مهرجان Medfest الذي يقام في المملكة المتحدة في ربيع كل عام، ويتم من خلاله عرض أفلام سينمائية ومناقشتها وتحليلها من قبل الجماهير بالإضافة لمتخصصين في السينما والطب.
في كل عام يختار مؤسسو «ميدفيست مصر» تيمة مختلفة للمهرجان، في العام الأول 2017 تم اختيار الطب النفسي، وفي العام الماضي تم اختيار صحة المرأة، وفي مارس من 2019 تدور أحداث المهرجان عن صحة الطفل.
الحديث هنا ليس طبيًا متخصصًا، وليس سينمائيًا متخصصًا، لكن الهدف منه هو الجمع بين ما يلامس أرواح البشر في العالمين. حضرنا اليوم الثالث من المهرجان الذي امتدت فعالياته بين 21 و29 مارس من عام 2019، بين عروض سينمائية ومناقشات أدارها متخصصون، وشارك فيها الجمهور الذي غلب عليه الطابع الشبابي، ننقل لكم اليوم رؤيتنا كما نشارككم أيضًا المشاهدة لعدد من أفضل الأفلام القصيرة التي تحمل شاعرية السينما وإنسانية الطب.
عن العنف الأسري وأخلاقيات السينما
الفيلم الأكثر عنفًا في المهرجان بشكل عام قد يكون الفيلم الدنماركي «Beast»، والذي تم عرضه المرة الأولى في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي.
يمكننا رؤية الفيلم بشكل مباشر في رحلة طفل وأمه مع العنف الأسري، مع أب سادي يمارس الأذى بشكل دائم، ومع طفل حُكم عليه بلعب دور المخلص. ويمكننا أيضًا أن نشاهد الفيلم بشكل طبي، فنرى في الطفل مرشحًا محتملًا للإصابة باضطراب السلوك «conduct disorder»، حيث يؤمن بأن العنف هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع البشر نتيجة تربيته في بيئة عنيفة. كما يمكننا أن نرى أيضًا مظلومين يمارسون الطرح «projection»، فيختارون مظلومين آخرين ليصبوا عليهم غضبهم نتيجة خوفهم من مواجهة الظالم أو المعتدي.
وأخيرًا يمكننا أن نشاهد الفيلم بشكل سينمائي، حيث نرى كادرات تحكي الحكاية دون كلمات، بدءًا من طفل يمشي بحذر خلف شجيرات متراصة جنبًا إلى جنب، فيبدو وكأنه سجين بيته وأسرته وبيئته، وبين كادر يزداد بياضًا شيئًا فشيئًا في النهاية حتى يعبر المخرج عن بداية جديدة تخرج من رحم النهاية متمثلة في كادر أبيض مكتمل في آخر لحظات الفيلم.
الرسوم المتحركة: من مصر ومن بريطانيا
شملت عروض اليوم فيلمي رسوم متحركة ، أحدهما من مصر وهو فيلم «وحش الشبكة» للمخرج رامي الجابري، والآخر من بريطانيا وهو فيلم «Hedgehog»، ويمكننا رؤية تيمة متقاربة بين الفيلمين، ففي كليهما نجد أطفالًا يفضلون العالم الخيالي على العالم الحقيقي، مرة بالغرق في ألعاب الكمبيوتر ومواقع التواصل الافتراضي، ومرة أخرى بخلق أصدقاء خياليين ورفض تكوين علاقات طبيعية مع زملاء الدراسة.
يبدو إذن أن هاجس إدمان الإنترنت وتفضيل البشر عمومًا والأطفال خصوصًا لعالم الخيال حاضر بقوة، رغم اختلاف الثقافات والخلفيات الاجتماعية لصناع الأفلام، لم تعد هناك خصوصية حقيقية للعالم العربي أو لأوروبا، كل البشر متشابهون في العصر الحالي، نتشارك نفس الأحلام وأيضًا نفس المخاوف.
العنصر المختلف في الفيلمين جاء من خلال الصنعة، ففي الفيلم المصري شاهدنا تحريكًا قائمًا على تقنية Stop motion، والتي يعتمد عليها عادة في أفلام تحريك الصلصال وخيال الظل، أما في الفيلم البريطاني، شاهدنا رسومًا متحركة مصنوعة بألون زاهية تشبه ألوان الشمع.
كيف تخبر طفلًا عن الموت؟
يخاف الأطفال من المجهول، كما نخاف جميعًا من الموت، الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحياة، والجانب الذي لم يعد منه أحد ليخبرنا عن ماهيته. عن الفقد والموت وعالم ما بعد الموت تدور أحداث الفيلم الأمريكي القصير «The tree house».
نشاهد طفلًا مستلقًا على العشب الأخضر، في بدلة سوداء، تخاطبه طفلة أخرى لتخبره بأنها هي أيضًا فقدت أمها، ندرك في هذه اللحظة أن هذا الطفل قادم للتو من جنازة والدته. عقب ذلك تقدم الطفلة حلًا بأن تخبره بأن والدتها لم تمت، صعدت، أجسادنا ليست سوى وعاء، تموية، تؤمن الطفلة أيضًا أنها هي ووالدتها ينتمون إلى الفضاء، وليس هذه الأرض، حياتهم عليها ليست سوى مرحلة مؤقتة، ستنتهى ويعودون إلى وطنهم.
تناولت الطبيبة النفسية السويسرية الأمريكية إليزابيث كوبلر روس، في كتابها «on death and dying» في نهاية الستينيات وللمرة الأولى رؤيتها عن المراحل الخمس للفقد، تلك المراحل التي تبدأ بالنكران، وتنتهي بالقبول، الوصول لوعد أو أمل باللقاء، أو الإيمان المكتمل بأنها النهاية.
من جوه: التنمر وقبول الاختلاف
الفيلم الثاني، للمخرج المصري رامي الجابري، «من جوه» الذي اعتمد فيه بشكل كبير على التعبير بالصورة، في فيلم خلى بشكل كبير من الحوار. هنا يستهدف الجابري خطر التنمر، وخوف البشر ورفضهم للتواصل مع المختلفين عنهم.
تزداد قيمة هذا الفيلم بشكل كبير، حينما ندرك أن الممثلين المتواجدين فيه لم يخضعوا لأي مكياج كما لم يتم استعمال أي مؤثرات بصرية، حينها ندرك أن هذا الرجل الذي يعاني من الوصم والتجنب داخل أحداث الفيلم لا يؤدي ولكنه ينقل لنا معاناته الحقيقية.
في الفيلم أيضًا نشاهد تجسيدًا معبرًا لظاهرة تأثير المتفرج «bystander effect» حيث نشاهد أن البشر لا يتحركون في مجموعات إلا عندما يبادر أحدهم بالفعل، وكلما زاد عدد الجمهور قلت احتمالية المبادرة، ولكن بمجرد أن تحدث المبادرة ويتحرك فرد واحد تزداد المشاركة بشكل سريع يشبه تساقط قطع الدومينو. في الفيلم نشاهد مثالًا حيًا على ذلك، تتراجع مجموعة الأطفال بمجرد رؤيتها للرجل المختلف، ولكن بمجرد أن تبادر طفلة وتقترب منه تشارك المجموعة كلها في نفس الفعل، في تقبله واحتضانه.
الأمهات والأبناء وكيف تنقلب الأدوار؟
فيلم الختام في هذا اليوم السينمائي الحافل هو الفيلم الأمريكي «الابنة الوحيدة لأم عزباء» عن ذكريات شابة مع أمها التي ربتها وحيدة، وكيف انقلبت الأدوار بينهم حينما حاولت هذه الأم الانتحار في يوم ما، كيف أصبحت الابنة مسئولة عن حياة الأم بمجرد إنقاذها لها، وكيف كانت حياة الأم قبل ذلك وبعد ذلك تتلخص في حياة ابنتها، لتجد نفسها وحيدة ومتأخرة عن طريقها المهني بعد أن أصبحت الطفلة شابة مستقلة.
الفيلم التسجيلي يعتمد بالأساس على مكالمة هاتفية طويلة بين الأم والابنة، يتخللها مشاهد فيديو شخصية تجمعهم، بالإضافة لبعض الصور، هذا المحتوى الشخصي جدًا نجح في لمس أرواح المشاهدين، الصدق هنا هو ما يشعرنا بالألفة مع الحكاية، كما أنه يدفعنا لاستعادة حكايات شبيهة من حياتنا، كما يدفعنا للتفكر أيضًا في تبادل الأدوار بيننا وبين آبائنا وأمهاتنا، كيف كنا نخاف من أن يتركونا وحيدين حينما كنا صغارًا، وكيف نهجرهم الآن ونحن كبار دون تفكير.