خسروا المُلك فلجأوا إلى اللهو: حياة أهل مكة في العصر الأموي
مع بداية الحكم الأموي سنة 41هـ/ 622م، اتجه مجتمع الحجاز، بخاصة في مكة والمدينة، إلى الأخذ بأسباب اللهو، على نحو مغاير تمامًا لما كان سائدًا خلال سنوات الخلافة الراشدة، مدفوعًا إلى ذلك بأسباب سياسية واجتماعية.
وهو ما تكالب العديد من الباحثين في محاولة تفسيره وتحليل كافة أبعاده.
يرى طه حسين في كتابه «حديث الأربعاء»، أن أهل الحجاز بعد أن أخفقت ثوراتهم على الأمويين (مثل ثورة عبدالله ابن زبير وثورة الحرّة وخروج الحسين بن علي)، وفشلوا في الاحتفاظ بسلطانهم السياسي، أصبحوا «يائسين» من الاشتراك في الحياة السياسية، فأقبل أكثر أهل الحضر منهم على اللهو والترف والمجون، وأما أقلهم فانصرف إلى الدين والتُقى، ووقف فريق بين بين، يحتفظ بمكانته الدينية، ويأخذ مع ذلك بحظه من متاع الحياة، ومن هنا كانت مكة والمدينة في هذا العصر أقرب إلى اللهو والمجون والافتتان باللذة وما تستتبعه من لعب وشرب وغناء، وأصبحت المدينتان في هذا الأمر أكثر من دمشق عاصمة الخلافة الأموية ومستقر الخليفة.
ويذكر: «كان القرشيون إذا أرادوا نوعًا من اللهو الحر، وقصدوا إلى الاستمتاع باللذات، يفرون إلى المدينة حيث يدركون مجالس الغناء والخمر، وحيث يجتمع الرجال والنساء وحيث الرقص المشترك، وحيث تجري الأمور في كثير من الحرية والصراحة في المدينة بأكثر منها في مكة».
ويذهب أحمد أمين في كتابه «فجر الإسلام»، إلى تفسير آخر، مفاده أن البدو إذا تحضروا وبُسط لهم في العيش أسرفوا في اللهو، شأن كثير ممن غني بعد الحرمان.
إلا أنه يذكر أن السبب الرئيس في توجه أهل الحجاز للهو في العصر الأموي يتمثل في أن الأمويين تبوءوا الخلافة وحصروها فيهم، بل في بيت من بيوتهم، وضيقوا على من عداهم في بطون قريش، وحجزوا عليهم التفكير في الشؤون السياسية، وكان الشام هو العنصر المؤيد لخلفاء بني أمية، والعراق هو العنصر المعارض، فانصرف فتيان الحجاز بما لهم من مال وفير وجاه عزيز عن الإمارة والخلافة والسياسة إلى اللهو، فكان الظُرف والغناء والشراب.
تحييد شباب الحجاز بالأعطيات
تقول أسيمة العظم في كتابها «المجتمع في العصر الأموي»، أن اللهو تفشى من جميع نواحيه في أكثر حواضر البلاد العربية مثل دمشق، والبصرة، والكوفة، والمدينة، ومكة، والطائف. لكنه انتشر بصورة خاصة في المدن الثلاث الأخيرة من الحجاز لأسباب عدة، منها أن بني أمية كانوا حريصين على أن يحجبوا الشباب من أبناء الصحابة والتابعين في الحجاز بحيث لا يتعدونها إلى مكان آخر ويثيرون ضدهم القلاقل، فكانوا يبذلون لهم الأموال ليشغلوهم عن السياسة ويدعونهم في قطرهم آمنين متمتعين بأسباب اللهو، ولم تكن هذه الأموال والأعطيات تصل إلى أيدي هؤلاء حتى يبددوها في شتى سبل اللهو والعبث.
وروى ابن عبد ربه الأندلسي في «العقد الفريد» أن عبدالله بن جعفر- ابن عم الحسن والحسين – كان يفد على بني أمية في الشام فيغمرونه بالأعطيات، وما أن يعود إلى الحجاز حتى تكون هذه الأموال قد تبددت عن بكرة أبيها.
وروى أيضاً عنه أنه كان يُعطى المئة ألف درهم فما تبيت عنده، كما رُوي أن يزيد بن معاوية أعطاه أربعة آلاف درهم فلامه البعض على ذلك، فقال «ويحكم، إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده إلا عارية».
إذا، فتحت هذه الأموال لشباب ذلك القطر أبواب اللهو على مصراعيها، واقتدى هؤلاء بسليل البيت الهاشمي عبدالله بن جعفر، الذي قيل عنه إنه التقَى التابعي عبدالله بن صفوان، فقال له: قد صرت يا أبا جعفر حجة لفتياننا علينا، إذا نهيناهم عن الملاهي، قالوا: هذا ابن جعفر سيد بني هاشم يحضرها ويتخذها، بحسبما روى ابن عبد ربه.
ومن الأسباب التي كانت مدعاة لانتشار اللهو في هذه المدن، مواسم الحج وغيرها من المواسم الأخرى، والتي جعلتهم يتعرفون على شتى حضارات الأمم التي اعتنقت الإسلام، وصارت ترد إلى الحجاز بغية الحج، ومن ثم عرفوا أنواعًا من اللهو، بحسبما ذكرت «العظم».
المدينة: حفلات غنائية ونوادي تسلية
ساعد الموقع الجغرافي المدينة المنورة أن تكون مركزًا للّهو في العصر الأموي، إذ تقع على سهل تربته الجنوبية مشبعة بالمياه التي يندر مثلها في سائر الحجاز، وتتدفق هذه المياه وتكثر بخاصة بعد نزول الأمطار، وتنحدر السيول، ما شكل بدوره مناظر طبيعية جذابة، ومن ثم كانت قبلة أنظار الذين اعتزلوا السياسة وطلبوا الراحة والسكينة، وتمسكوا بأسباب الرفاهية أمثال عبدالله بن جعفر، وعبدالله ابن أبي عتيق الذي يرجع نسبه للخليفة أبي بكر الصديق، ورفيق لهوه الشاعر عمر بن ربيعة، بحسبما تذكر «العظم».
كما حبا الله المدينة بتربة خصبة مُنبتة لشتى أنواع الأشجار المثمرة، وعلى رأسها النخيل، ومناخها، رغم شدة الحر صيفًا والبرودة شتاء، يُفضل على مناخ مكة، لكن مكة كانت تفضل عليها بكثرة مزروعاتها وأثمارها.
وكانت تعقد في المدينة الحفلات الغنائية، إضافة إلى النوادي التي أنشأها البعض وجهزها بأنواع التسلية والألعاب المعروفة من نرد وشطرنج وما شابهها.
ولعل مكانًا في الحجاز كله لم يشهد من اللهو ما شهده موضع قرب المدينة كان ملتقى الطبقة الراقية، ومتنزه الأشراف والعامة وهو «العقيق»، ذلك الوادي البديع الذي يبعد أوله عن المدينة نحو ميلين أو ثلاثة من الجهة الجنوبية الغربية، وتنحدر إليه السيول الهابطة من الجبال المحيطة به، فتجعل منه نهرًا كبيرًا يضطرب في بعض الأحيان مثل مد الفرات، ويتفرع بين الجنائن والبساتين ويرويها. وفي هذا الوادي البهيج كانت تقام حلقات الأنس والسمر على ضفاف الماء ووسط رياض غنّاء، وفق وصف «العظم».
بيوت المغنيات بالمدينة
يذكر شوقي ضيف في كتابه «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية»، أن المدينة كان بها دور للمغنيات يتوافد عليها الناس لقضاء أوقاتهم وسماع الغناء، ومنها دار عزة الميلاء، والتي تعد من أقدم مغنيات المدينة، وكانت ذات جمال بارع، وسمعها حسان بن ثابت وأعجب بها، ويروى أنها غنت يوما من شعر عمر بن ربيعة يوما فشق ثيابه، وأطلق صيحة عظيمة صُعق معها من شدة الطرب.
وهناك أيضًا المغنية «جميلة»، التي اتخذت دارًا كبيرة تمتلئ بالمغنيين والجواري، وتقام فيها حفلات باذخة للغناء، وكان يشترك فيها بعض المغنين من مكة أحيانًا مثل ابن مسجح وابن سريج وابن مُحرز، وكذلك كان يشترك فيها المغنون من المدينة مثل معبد ومالك بن أبي السّمح الطائي ونافع بن طنبورة وغيرهم. واكتظت الدار أيضًا بالمغنيات مثل سلاّمة القس وسلامة الزرقاء وحبابة وخُليدة ورُبيحة وعُقيلة العقيقة وبُلبلة ولذة العيش.
وبحسب «ضيف»، بلغ الغناء في دار جميلة كل ما كان ينتظره من رقي وازدهار، إذ عُرف الغناء المصحوب بالجوقات الكبيرة، كما عُرف الغناء المصحوب بالرقص والمضرب على الآلات الموسيقية الكثيرة، وكثيرًا ما كانت تجمع سكان المدينة وتقوم باستعراض كبير يضم مشاهير المغنيين والمغنيات، لا في المدينة فقط، بل في مكة أيضًا.
ويصف أبو فرج الأصبهاني في كتابه «الأغاني» حفلة أقامتها هذه المغنية ودعت إليها عددًا من مغني الحجاز، «فقام كل واحد منهم وغّنى بدوره فقرظته (مدحته) جميلة، ثم حان وقت الغداء فمُد الخوان، وأتتهم من الأطعمة ما لذ ومن الفاكهة ما طاب، ثم ما زالوا يومهم كذلك بأطيب مجلس وأحسن حديث حتى جنّهم الليل فدعت بالشراب، ثم دعت لكل واحد منهم بعود، وأخذت عودًا فضربت، ثم أمرتهم فضربوا معها بضرب واحد ثم غنت بشعر لامرئ القيس».
وتناول شوقي ضيف مظاهر اللهو بالمدينة في كتاب آخر له، هو «تاريخ الأدب العربي/ العصر الإسلامي»، فذكر أن هذا المجتمع كان ملتقى كثير من الطفيليين وأصحاب الفكاهة والتندر، واشتهر من بينهم شخص يدعى «أشعب»، وكان ماهرًا في إضحاك معاصريه لا بنكته ونوادره فحسب، بل أيضًا بإشاراته وحركاته.
ولمع في هذا المجتمع كثيرات من النساء قُدن المرح فيه والظرف وعملن على تهذيب الأذواق، نذكر من بينهن السيدة سكينة بنت الحسين، وقد ترجم لها أبو الفرج الأصبهاني في أغانيه ترجمة صور فيها جمالها وبهاءها ووقارها وأخذها بأسباب الزينة، وكانت ظريفة ومزاحة، وكثيرًا ما كان يختلف إليها «أشعب» لإضحاكها، وكانت تفسح في مجالسها للرجال والمغنين والمغنيات وللشعراء، وكثير ما كانت تفاضل بينهم.
ويروي الأصبهاني، أن السيدة سكينة بنت الحسين أرادت تكريم أحد المغنين ويدعى حنين الحيري لما وفد إلى المدينة، فدعته إلى منزلها وأذنت للناس إذنًا عامًا، فلم يُر يوم كان أكثر حشرًا ولا جمعًا من يومئذ.
مكة: مضحكون ونوادٍ للألعاب
كانت مكة مثل المدينة، يغرق شبابها في ثراء واسع ورثوه عن آبائهم من أموال التجارة في العصر الجاهلي، فقد كانت قوافل مكة تنقل السلع بين حوض المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط، وأضيفت إليها أموال الفتوح الإسلامية وما فُرض لأهلها من أعطيات ورواتب في دواوين الخلافة، وما قسم فيهم الأمويون دائمًا من أموال، وكان الحج يفيء عليهم كل سنة بما يسد خلة كل محتاج.
واستتبع هذا الثراء انتشار أماكن اللهو وصوره وأشكاله، حيث كانت تقام حفلات غناء وعزف على أوتار العيدان والطنابير والآلات الموسيقية من كل لون.
ويذكر «ضيف» في كتابه «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية»، المذكور آنفًا، أن أهل مكة تعلقوا بلعب الشطرنج والنرد والقرق أو ما يسمى في مصر بـ«السيجة»، وروى أبو الفرج الأصبهاني أن «عبدالحكم الجمحي اتخذ بيتًا فيه شطرنجات ونردات وقرقات، ودفاتر من كل علم، وجعل في الجدار أوتادًا، فمن جاء علّق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترًا فقرأه، أو بعض ما يلعب به، فلعب به مع بعضهم».
وعلى هذا النحو انتشرت بعض الملاهي في مكة، وانتشر معها المرح، وربما كان من أهم ما بها وجود مُضحك مشهور كانوا يتخذونه للتندر والدعابة يسمى «الدّرامي»، والذي كان يضحك الأمراء والرجال والنساء، وكان لا يطيب متنزه إلا به.
ومن الدور والنوادي الشهيرة في مكة دار كانت بأطرافها، وكان يأتيها ابن سُريج والغريض في كل جمعة، ويجتمع لهما ناس كُثر من مكة، ويوضع لكل منهما كرسي يجلس عليه، ثم يغني كل منهما صوتًا، أو كما نقول الآن «دورا».
وبحسب «ضيف»، عُدت كل دار لمغن ناديًا من نوادي الغناء، فهو يستقبل فيها من يريدون سماعه، وكذلك كانت بعض دور الأشراف والشريفات تعد كأنها نواد، كدار ابن أبي ربيعة الذي كان يلزمه المغنون وعلى رأسهم ابن سريج، وكان هو نفسه يشتري القيان والإماء المغنيات، ومثل دار الثريا بنت علي بن الحارث الأموية، وقد تخرج فيها المغني الغريض.
ولم تشتهر مكة في هذا العصر بدور كبيرة للمغنيات، مثل داري عزة الميلاء وجميلة في المدينة، لكن أكثر المغنيات اللائي اشتهرن في دار جميلة كن يزرن مكة ويغنين بها.