معنى الحياة: هل وجود الموت يعني عبثية الحياة؟
لماذا يسعى الأشخاص إلى معرفة معنى الحياة؟ هل هم على يقين بأن معرفتها شيء جيد وأن الحياة سوف تكون أفضل؟
فقد عاش رجال ونساء حياة تبدو رائعة ودون امتلاك هذا السر، أو ربما كانوا يمتلكون سر الحياة طول الوقت دون إدراك ذلك.
هل من الممكن أن يكون معنى الحياة شيئاً نفعله ببساطة في هذا الوقت الراهن مثل التنفس دون أدنى وعي منا؟
ماذا لو كان معنى الحياة مُحيِراً، ليس لأنه خفياً ولكن لأنه قريب، قريب للعين بشكل يتعذر معه رؤيته بوضوح؟
هل من الممكن أن يكون معنى الحياة هدفاً لا يصلح للسعي خلفه، أو حقيقة لا يفضل ذكرها، بل شيء يتجلى في فعل الشيء نفسه، أو ربما يكون أسلوبًا معينًا للحياة؟
وقتية الحياة وخواؤها
في مسرحية شكسبير، لم يكن ماكبث مُضطراً للانتحار، لأن غريمه ماكدوف سوف يرسله إلى الخلود بطعنة سيفه، إن ما كان يشعر به ماكبث من يأس دفعه إلى الثرثرة، ليصف الحياة بأنها شمعة قصيرة الأجل ويطلب منها أن تتعجل في الانطفاء رغم قصرها، ويضيف ماكبث بأن الحياة ليست سوى خشبة مسرح وممثل بائس مستمر في شعوره بالقلق طوال ساعته على المسرح، وأن الحياة مجرد حكاية يملؤها الصخب والعضب ولكنها بلا دلالة.
يشكو ماكبث من وقتية حياته وصغر مقدارها الزماني والمكاني، وأن الإنجازات تفرغ من مضمونها من حقيقة أن الحياة تزول وتضمحل بسرعة بالغة. لكن، لو افترضنا أن حياة شخص ما أصبحت أبدية، هل تلك العبثية التي كانت تستمر طوال الحياة القصيرة -التي تبلغ ستين أو خمسين أو حتى عشرين عاماً- سوف تنعدم؟ إن وقتية الأشياء ليست شيئاً مأساوياً، ألا يعد الموت واحداً من الشروط الأساسية لكي يكون للحياة معنى؟
إن فكرة المسرحية تؤدي إلى هدم وتقويض الفكرة القائلة بأن «الحياة بلا معنى بسبب وقتيتها»، وذلك انطلاقاً من أن أي مسرحية لا تستمر طويلاً، فنحن لا نرغب في الجلوس في قاعة المسرح للأبد، فلماذا لا تكون فكرة قصر الحياة مقبولة بالشكل ذاته. إن حقيقة خروج الممثل من المسرح لا يلغي كل شيء فعله أو قاله، بل على العكس فخروجه يشكل جزءًا من المعنى فهو لا يغادر المسرح بشكل عشوائي.
عدم الإيمان والغائية دون غاية
الأكثرية من الناس يؤمنون بوجود قوة مهيبة، وفي الأغلب يرتبط معنى الحياة عند تلك الأكثرية بتلك القوة المهيبة وهذا الكيان العظيم، لكن، ماذا لو كان هناك شخص ما لا يؤمن بهذا الكيان: هل ينعدم عنده معنى كل شيء، وهل الحياة بالنسبة له عديمة المعنى؟
يمكننا أن نتحدث عن معنى شيء ما دون افتراض أن هذا المعنى له ما أبدعه، وأنه ربما يكون قد صُمم عن غير وعي، ولا يكافح من أجل قول أي شيء، أو إيضاح شيء، لكنه أيضاً ليس فوضوياً، بل على العكس فقوانينه تثبت تناسقاً وجمالاً وتنظيماً قادرين على إبكاء العلماء.
قد تبدو عملية ما، صدفة في وقت حدوثها، ولكنها تندرج تحت نمط ذي دلالة بأثر رجعي، تلك هي نظرة هيجل لتاريخ العالم، فقد يبدو العالم بلا معنى بينما نعيشه، لكن الحقيقة أن العالم له معنى منطقي تماماً، ويقول هيجل حتى أن حماقات العالم وسخافاته وطرقاته المسدودة تسهم في تلك النهاية وفي الوصول إلى هذا المقصد، مثال: قد يقوم فنان ما برسم كلمة غزال على لوحته، ليس للتعبير عن مفهوم الغزال، ولكن لافتتانه بشكل الكلمة، غير أن الرسم سوف يعني غزالًا.
نجد نفس الأمر في شبكة المعاني المعقدة لأي عمل كتابي، ودن الافتراض دائماً أن الكاتب كان يقصد هذا المعنى عندما كان يكتب، والكثير من الكُتَّاب ظهرت لهم أنماط من المعنى لم يكونوا يقصدون وضعها في أعمالهم، ويعلق الفيلسوف النمساوي «فتجنشتاين» على هذا الأمر فيقول: «إنني أفكر بقلمي حقاً، لأن عقلي غالباً لا يعرف شيئاً عما تكتبه يدي».
شوبنهاور ونيتشه وفرويد وانعدام المعنى
مثلما يمكنك الاعتقاد بأن شيئاً ما -حتى الحياة ذاتها- قد يكون له مقصد أو اتجاه ذو دلالة لم يقصده أي شخص، يمكنك أيضاً الاعتقاد بأن الوجود الإنساني فوضوي وبلا معنى، ولكن هذا قد يكون نتاج قدر حاقد، أو إرادة خبيثة، أو قوة يخضع لها الجميع.
يري شوبنهاور أن الواقع بأسره وليس الحياة الإنسانية فقط، هو النتاج العارض لما يُطلَق عليه «الإرادة»، والتي تخلق الفوضى والدمار والتعاسة الأبدية، ولما كانت الإرادة حرة تماماً في تحديد مصيرها، فإن غايتها تكمن في نفسها، وهذا يعني أنها تستخدمنا وبقية الخلق لخدمة أغراضها الغامضة الخاصة، فقد نعتقد أن حياتنا لها قيمة، ولكننا في الحقيقة مجرد أدوات بائسة لا حول لها ولا قوة يتم استخدامها، ويتم خداعنا بذلك عن طريق تطوير آلية خرقاء تسمى «الوعي»، والتي تجعلنا نتوهم بأن لنا غايات وقيمًا خاصة وسلوكيات، بينما هذا الوعي هو وعي زائف.
تأثر نيتشه في بدايته الأولى بـشوبنهاور، وقد كتب نيتشه في كتاب «إرادة القوة»، ليوضح أننا أدوات تخضع للقوة، وأن العالم يخضع لمبدأ القوة: «الحقيقة قبيحة، ونحن نتمسك بالفن خشية أن نفنى من الحقيقة».
وقد تأثر فرويد بأبناء وطنه، وورث عنهم التشاؤم، فما سماه نيتشه «الإرادة» سماه فرويد «الرغبة»، ويرى فرويد أن الخيال والإدراك الخطأ وقمع ما هو حقيقي هي مقومات أساسية للنفس، وليست عناصر عرضية لها، ولولا هذا النسيان المنقذ لما استطعنا النجاة من أي مصاعب.
خسوف المعنى
يشعر أي شخص بالإحباط والذهول عندما يضع آمالاً عظيمة على شخص آخر ولا يجد منه سوى الخزلان واللامبالاة، نجده يشعر بعدم القيمة، يشعر بأنه غير موجود، لأنه كان ينتظر شيئاً ما، شيء سيجعله موجود ويشعر بأن حياته ذات معنى.
إن غثيان «جان بول سارتر» أو التحدي التراجيدي لـ«كامو» حين يواجه عالماً من المفترض أنه بلا معنى، هو إيضاح وتقويض لفكرة أنه ليس من المحتمل أن تشعر بأن العالم عديم القيمة، عديم القيمة إلى حد الغثيان، إلا إذا كان لديك توقعات مبالغ فيها من الأساس، مما جعل أمثال كافكا وتشيكوف يعتقدون بانعدام المعنى، هو تذكرهم لفترة ما كان المعنى فيها ما يزال وافراً، مما جعلهم يشعرون بهذا الإحباط من تضاؤله، فلديهم من الحنين ما يكفي للشعور بخسوف المعني.
لذا نجد العديد من الأعمال الفنية في هذا الوقت تتحول فجأة نحو فكرة من الغياب المحوري، إلى فجوة غامضة أو فترة صمت تميز النقطة التي تسرب منها الفهم وإضفاء المعنى، فتجدنا نفكر في منارة فرجيينا وولف الغامضة، أو جريمة جوزيف كيه لـكافكا، أو مسرحية تيشكوف «الشقيقات الثلاثة».
معنى الحياة
حسناً، بعد كل تلك الأسئلة وبعد الإجابة عنها، ما معنى الحياة؟
ربما من المستحيل أن نستخدم التعميم فيما يتعلق بالحياة الإنسانية، لأن القيام بذلك سيتدعي الخروج من نطاقها، وهو ما سيكون أشبه بمحاولة الانسلاخ من جلودنا. لا شك ألا أحد يستطيع استطلاعها ككل ويرى إذا ما كان لها معنى. لا يمكن لأحد فعل ذلك سوى شخص من خارج الوجود الإنساني كلياً، مثل الإله. إن هذه القضية قريبة لما قاله نيتشه في كتاب «أفول الأصنام» من أنه لا يمكن تقييد الحياة على أنها ذات قيمة أو عديمة القيمة في حد ذاتها، إذ إن المعايير التي نستند إليها من أجل تقرير ذلك ستكون هي ذاتها جزء من الحياة.
لكن إن أمكننا التعميم بشأن الحياة وكان ذلك التعميم صحيحًا، فإن ذلك يرجع إلى أن البشر بانتمائهم إلى نفس الجنس لديهم أشياء كثيرة متشابة، تجعلهم قادرين على إضفاء معنى وتعميم الحياة الإنسانية، مع عدم نسيان فروق الاختلاف بينهم، وإن كان معنى السعادة يكمن في الهدف المشترك للبشر، فلا يبدو ثمة شك بشأن ماهيته، فالشيء الذي يكافح الجميع من أجل بلوغه هو السعادة، إن السعادة في رأي أرسطو تنطوي على إدراك إبداعي للملكات الإنسانية النمطية للفرد، إنها شيء تمارسه قدر ما هي شيء تكونه، ولا يمكن ممارسته بمعزل عن الآخرين، فالفضائل الأرسطية في أغلب الأحيان فضائل اجتماعية.
إذن فقد تشكل السعادة معنى الحياة، ولكنها ليست قضية بسيطة، فقد يدعي أحدهم أنه يستمد السعادة من انتهاج سلوك حقير لا أخلاقي، هناك عناصر مرشحة لتشكيل معنى الحياة: القوة، والحب، والاحترام، والحقيقة، والمتعة، والحرية، والعقل، والاستقلالية، والدولة، والأمة، والإله، والتأمل، والتضحية بالنفس… وما إلى ذلك، إن الحياة تصبح ذات معنى بالنسبة لمعظم الناس بعلاقتهم بأقرب الأشخاص إليهم، مثل شركاء الحياة والأطفال.
اعتقد العديد من الفلاسفة بارتباط معنى الحياة بوجود عناصر معينة، فنجد نيشته يتحدث عن القوة من فكرة تحقيق الذات لا من فكرة السيطرة والهيمنة، وقد كانت رؤية سبينوزا مشابهة إلى حد كبير لرؤية نيتشه، ونجد فرويد يعتقد بأن الرغبة هي معنى الحياة، ويرى ليو شتراوس بأن التأمل في حقيقة الوجود هو أنبل أهداف الإنسانية إغراؤها.
إذًا كان للحياة معنى، فإنه بالتأكيد ليس هكذا، فمعنى الحياة ليس افتراضاً بقدر ما هو ممارسة، ليس حلاً لمشكلة، ولكنه مسألة العيش بأسلوب معين، إنه ليس مسألة ميتافيزيقية بل مسألة أخلاقية، إنه ليس شيئاً منفصلاً عن الحياة ولكنه الشيء الذي يجعلها جديرة بأن تُعاش، إنه يمثل سمة وعمقاً ووفرة وقوة معينة للحياة، وفي هذا الإطار يكون معنى الحياة هو الحياة ذاتها، لكن، بعد إدراكها بطريقة بعينها.
إن معنى الحياة هو مسألة فردية في المقام الأول، يتطلب القوة وتحمل مسئولية اكتشاف وتحديد المعنى لأنفسنا، إن معنى الحياة يكمن في السعادة والحب، والسعادة باللعين الأرسطية هي الازدهار الحر لملكات الفكر، وإذا كان الحب هو نوعية التبادل الذي تتيح لذلك أن يحدث على النحو الأمثل، فلا يوجد صراع حاسم بينها. يقدم باجيني مجموعة من الاحتمالات لمعنى الحياة: السعادة والإيثار والحب والإنجاز وفقدان أو نكران الذات والمتعة والخير الأصلح للنوع، وهكذا وعلى طريقة المصممين، يمكن لكل منا أن يأخذ ما يريده من هذه العناصر المتنوعة ويمزجها مكوناً منها حياة ملائمة له بشكل متفرد. إن السعادة تكمن في موسيقى الجاز، نظراً لأن كل فرد يمتلك حرية التعبير عن نفسه، والذي يولِّد لديهم الحافز لبلوغ أعلي المستويات، ولا يوجد هنا صراع بين الحرية ومنفعة الآخرين، فهناك تحقيق للذات ولكنه يتم من خلال فقدان الذات في الموسيقى ككل، ونظراً لأن هذا الازدهار كلي والمنفعة شمولية فيمكننا الحديث ببساطة عن الحب.