في معنى القائد: عن «نزار ريان» في ذكراه السابعة
لم يكن نزار ريان رحمه الله داهيةً من دهاة السياسة، ولا كان ذا روحٍ إداريّة تنظيميّة، ولا شغوفًا بالمناصب الحزبية والألقاب القيادية، ولا رُزق الصبر على الاجتماعات والترتيبات، ولا ابتلي بالتصدّر للمؤتمرات الصحفية، والمنصات التحليلية.
نعم كانت له نظرةٌ ثاقبة أذكرُها في كثيرٍ من المواقف الفاصلة، التي قرأ فيها الواقع خلاف الناس، وجاءت الأحداثُ فيها وفق ما ذكر، منها يوم غزو العراق إذ توقّع لصدّام هزيمةً مدوّية وخاتمةً بائسة، خلاف ما كان يُتوقّع من قائدٍ مخضرم، وجيشٍ قويّ ذي تجربة، وما كان يتمناه العربُ، خاصةً الفلسطينيين، من صمودٍ وتمريغٍ لأنف أمريكا في التراب.
أذكرُ أيضًا حين سُئل عن توقعاته لنتائج الانتخابات التشريعية، فقال: «لعلّ حماس تفوزُ بثمانين مقعدًا أو نحوها»، وكان توقّعًا شديد التفاؤل، ومخالفًا لآراء أكثر المحللين انحيازًا لحماس، ففازت بستة وسبعين، ودعمت أربعة مستقلّين، فجاءت ثمانين بالتمام والكمال!
وأذكرُ ما سجّلتهُ الكاميرات يوم هتف بنبرةٍ واثقة: «لن يدخلوا معسكرنا، يعني لن يدخلوا معسكرنا» فما دخلوه يومها ولا بعدُ حتى قضى الوالدُ رحمه الله. ومثلُه تطمينُه للأمّة قبل استشهاده بيومٍ واحد: أنّ غزة بخير، وأن الصهاينة لن يدخلوا القطاع، ولن يعيدوا احتلاله، فما ردّ الله عزّ وجلّ بُشراه.
كان نزار ريان إذا خطبَ حرّك القلوب وأشعلها، وإذا حدّث آنس الأرواح وأسعدها، وإذا ناقش أخذ بالعقول والألباب في بالغ تواضعٍ وأدب. كانت هذه النظرةُ من أهمّ ركائز شخصيته القيادية، يضافُ إليها براعتُه الخطابية، وكاريزماهُ إذا واجه الجماهير، وجمالُ حضوره في المجالس والملتقيات الاجتماعية والأدبية، وقُدرتُه على الإقناع والتأثير.
غير أنني في ذكراه السابعة، أحبُّ أن أتكلّم عن أشياء في شخصية نزار ريان القيادية، كانت في نظري أهمّ ما تميّز به، واستطاع أن يحافظ عليها ويلتزمها حتى لقي ربّه شهيد فكرةٍ ومبدأ.
كان رحمه الله مع الناس دومًا، قائدًا لا يحبُّ أن يَفْضُلهم بشيء، خاصةً وهم يُعانون، فمن ذلك أنه لما اشتدّ بغزة الحصار، حرص أن يركب مع الناس المواصلات العامّة، وهي في غزة منظومةٌ بالغةُ البؤس، فكان أحيانًا تتوقّفُ له في الطريق سيارات لا تكادُ تمشي، إذا ركبتها شعرت أنّها تجرّك على الأسفلت، لا تقلُّك عنه، إذا اجتازت حفرةً أو «مطبًا» انكسر له ظهرُك، وتختنق فيها برائحة البنزين أو الغاز. فكان يوثر ذلك في ظلال الحصار، واستمرّ عليه سنين حتى استشهاده، رغم تعوّده منذ شبابه المبكّر اقتناء السيارات، وقد كان ذوقُه فيها رفيعًا.
وكان عنده مولّد كهرباء، يشعله إذا أراد البحث والكتابة، ويجعله خالصًا للمكتبة، ولا يمدّ منه إلى البيت، فقيل له: إن المولّد يمكن أن يضيء البيت بالطاقة التي تخرج منه، وإنّ كثيرًا منها يذهبُ هدرًا، فقال:
ومن حياته مع الناس أنّه كان يتسوّق بنفسه غالب حياته، فينزل إلى سوق المخيّم كلّ أسبوع، يسمعُ أحاديث الناس، ويخالطهم الخلطة الحقّة، ويرى في وجوههم الرضى والغضب، والصبر والجزع، ويقرأ ذلك كلّه، ويصدرُ عنه في آرائه ومواقفه، أو يجعله في حسبانه على الأقل، وكان أحيانًا يُباشرُ بنفسه حلّ مشكلاتهم ومساعدتهم؛ كما حصل قبيل استشهاده، حيثُ كان يحملُ معه في السوق نقودًا، فيعين بها من قطعتهُ الحربُ عن ماله، أو عطّلته عن عمله، ولا يجدُ ما ينفقُ في تلك الأيام العصيبة.
وكان رحمه الله دائم الحضور في مسجده، يأتيه مبكرًا، وينصرفُ متأخرًا، فيقصدُه من يريدُه، فلا يمنعه من لقائه أحد، فيشتكي إليه أو يراجعه، أو يسأله المساعدة، أو يخاصمه إن شاء، وكان يتعمّد أن يحمل معه شيئًا من المال عند خروجه للمسجد، استعدادًا لمن يلقاهُ من المحتاجين، وكان شديد الحلم عليهم، بالغ الاعتذار لهم.
حتى إنّ أحدهم جاءه مرةً فزعم أنّ امرأته ولدت، وأنه لا يجدُ من المال ما يقوم بأمرها، فأعطاه الوالدُ رحمه الله، فاحتجّ شقيقي محمّد، وقال: يا والدي هذا كذاب، إنّ امرأته لتلدُ كلّ أسبوعٍ مرّةً أو مرّتين، وإنّه يتذرّع بهذه الكذبة حتى يحتال على أمثالك من المحسنين! فغضب الوالدُ رحمه الله، وقال:
كان نزار ريان محبًا للقيا الطلّاب، بالغ العناية بهم، والاهتمام لأمرهم، وأكثرُ من درسّهم يحملون عنه أطيب ذكرى. ومن حرصه على الالتصاق الناس، إصرارُه على مواصلة التدريس في الجامعة، وكان الشيخ الياسين رحمه الله دعاهُ إلى تركها، بسبب مواعيدها الثابتة، وسهولة وصول العدوّ إليه واغتياله بسببها، فلم يجبه إلى دعوته.
كان قائدًا مع الناس، يكرهُ أن يتقدّمهم إلا في سوح الموت، وميادين التضحية، روى كثيرٌ من أقرانه أنه كان بادئة انتفاضة 87 يتصدّر مسيرات المواجهة، ويقفُ حيثُ ينهمرُ الرصاص، ويهتفُ: سوق الجنة قامت! وكان من أوائل الذين بادروا للعمل العسكريّ من شباب الحركة الإسلامية الفلسطينية، وله مع عمّه أبو ماهر تمراز، وأخيه الشيخ صلاح شحادة أحاديثُ كثيرةٌ في ذلك.
كان له قوانين في التضحية، منها ألا يردّ مطاردًا أيًا كانت ظروفه، فأكرمه الله عزّ وجلّ بإيواء كبارهم، فما منهم من أحدٍ إلا دخل بيته، عماد عقل، ويحيى عياش، وعدنان الغول، ومحمد الضيف، فكانوا يبيتون في بيته الشهور، لا يدري بهم أحد، واعتقلته سلطة الحكم الذاتيّ مرارًا من أجل ذلك، وعذّبته وطاردته، فلم يمنعه من معاودة الإيواء، ولم يتوقّف حتى أصبح هو بدوره مطلوبًا ومطاردًا.
وكما كان باذلًا نفسه، دعا إلى ذلك أولاده وشجّعهم عليه، فكان منهم الاستشهاديّ إبراهيم، الذي اقتحم على الصهاينة مغتصبة إيلي سيناي برفقة أخيه عبد الله شعبان، فأثخنا في العدوّ قتلًا وجرحًا، وكفّا عن النساء والأطفال، واشتبكا ستّ ساعاتٍ متواصلة مع نخبة الجيش الصهيونيّ حتى استشهدا قابضين على الزناد.
وحين ودّع الوالدُ إبراهيم قبيل انطلاقه إلى العملية، وقفا عند باب البيت من الداخل، ومدّ إبراهيم يده مصافحًا، فوضع الوالدُ يده على كتفه ليحول بينه وبين العناق! قال:
وذات مرّةٍ سأله رجل: سمعنا أنّك تُعطي أولادك أجرة المواصلات إلى مناطق المواجهة؟ (وكان الناسُ يمنعون أولادهم)، فردّ الوالدُ ساخرًا: بل أعطيهم أجرة الذهاب فقط! فهم يذهبون على نية الشهادة!
ولقي بعض أولاده أيام اجتياح مخيم جباليا، ولم يكن لقيه طيلة أيام الاجتياح، وكلاهُما كان يمكنُ أن يموت في أيّ لحظة، فلما لقيه سأله: كيف رباطُك يا بني؟ فأجاب: على الثغر الأول شمالًا، تمامًا في وجه الدبابة. فسعد بذلك، ولم يسأل عن شيء غيره! وتعجّب الحاضرون من المجاهدين من الموقف وتناقلوه.
ويوم قصفت سيارة ولده بلال، فأصيب إصاباتٍ بالغة، قال له الأطبّاء: قد نقطعُ رجله! فأجاب:
كان يكرهُ المزاحمة على شيء من الدنيا، وقال لي مرّةً:
ومن ذلك أن الدقيق نفد من منزله مطلع الحرب، فأوصى محمّدًا شقيقي أن يشتري كيسًا واحدًا من الدقيق، فقال محمّد: يا والدي الدنيا حرب، لو اشترينا ثلاثة! فقال: لا والله، لا أزاحمُ الناس في خبزهم وقت الحرب، بل اشترِ واحدًا، ثم إذا نفد، يجري علينا ما يجري على الناس!
هذا نزار ريان رحمه الله، القائدُ الفريد، الذي عاش مع الناس حياته كلّها حتى آخر رمق، وشاركهم كلّ فصول معاناتهم، ولم يتقدمهم إلا بمزيد بذلٍ أو تضحية، وذكّر بدروسٍ في القيادة، لا تؤخذ إلا فعلًا على الأرض.