مبابي وباريس سان جيرمان: فرنسا تُلهيك
في الثقافة الشعبية اليابانية تُعد باريس مدينة الأضواء المرتبطة بالأفلام الرومانسية والشوارع المُمتلئة بالبهجة. لكن مع أول خطوة يخطوها أي ياباني داخل فرنسا يصطدم بأن الواقع لا علاقة له بما يعرفه عن عاصمة الأحلام، حيث لا شوارع مرصوفة بإتقانٍ، ولا موسيقى رومانسية في الخلفية، بل تجربة مريرة، يتمنى أن تنتهي في أسرع وقت.
هذه الظاهرة تُعرف عالميًّا باسم «متلازمة باريس»، حيث تختلف التوقعات جذريًّا عن الحقيقة.
في الواقع، يلعب الإعلام دورًا في صناعة هذه الهالة حول باريس، حيث تُصوَّر عادةً كمدينة مثالية للحالمين. والحقيقة أن الأزمة -كل الأزمة- هي أن «فرنسا تُلهيك».
العميل «باريس سان جيرمان»
دعنا نختبر مدى واقعية الظاهرة أعلاه. إن كُنت مُشجع كرة قدم، هل يمكنك أن تخبرنا بأول ما طرأ على ذهنك بمجرد قراءة اسم فرنسا؟ «كيليان مبابي» بكل تأكيد، صحيح؟
بالفعل، نُشرت بالأسابيع الأخيرة آلاف التقارير حول ملحمة تجديد كيليان مبابي، نجم «باريس سان جيرمان»، لناديه الفرنسي، وتنازله عن حُلم طفولته -ولو بشكل مؤقت- باللعب لـ «ريال مدريد» الإسباني.
وكأن العالم توقَّف فجأة منتظرًا قرار الفرنسي اليافع، الذي يُمثل ثروة قومية لفرنسا ولمشروع «باريس سان جيرمان» المزعوم، حيث استدعى إقناعه تدخُّلًا مباشرًا من الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، بجانب عدد من الشخصيات الفرنسية والقطرية المؤثرة من أجل إقناعه.
والسؤال: هل استحقت قضية «مبابي» هذا الزخم؟ أو بمعنى أوضح، هل تقتصر مشاكل كرة القدم الفرنسية على تحديد لاعب شاب لمستقبله المهني؟ الإجابة هي نعم ولا في نفس الوقت.
العالم بأسره على دراية كاملة بعلاقة نادي «باريس سان جيرمان» بالحكومة القطرية، والذي يزعُم البعض أنه واجهة لتلميعها، وبنفس المنطق، يمكننا الزعم أن نفس النادي يلعب دور القشة التي تتعلَّق بها دولة بحجم فرنسا، لإنقاذ رياضة كرة القدم بداخلها من الغرق.
على وشك الانهيار
في يوم 25 يونيو/ حزيران 2021، نشر موقع «ذي أثليتيك» تقريرًا مطولًا يشرح أسباب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأندية الدوري الفرنسي، والتي قد تتسبب في نهاية المطاف في عرض الأندية للبيع، لعدم قدرة مسئوليها على تسييرها.
كسائر دوريات العالم، تأثَّر الدوري الفرنسي بتفشي «فيروس كورونا»، لكن ما زاد الطين بلة؛ كان انهيار صفقة البث التلفزيوني، التي كادت لتكون بمثابة اللقاح المضاد لتداعيات توقُّف كرة القدم بسبب الفيروس.
كانت رابطة الدوري الفرنسي تأمل في تقليص فجوة عوائد البث مع دوريات مثل الإنجليزي، الإسباني، الألماني، والإيطالي، وهو الحلم الذي استطاعت شركة «MediaPro»، المدعومة من الصين، بيعه لـ«ديديه كويلو»، رئيس رابطة الأندية الفرنسية، عبر تقديم عرضٍ لشراء حقوق بث 80% من مباريات الدوري مقابل نحو مليار يورو سنويًّا في عقد يمتد لـ 4 سنوات، بزيادة تقدَّر بنحو 60% عن العقد الأخير المُبرم مع «Canal+».
وبعد أن سددت «MediaPro» أول دفعة مستحقة بقيمة 130 مليون جنيه إسترليني، تخلفت الشركة التي تتخذ من برشلونة مقرًّا لها،عن سداد باقي المستحقات، وبحلول ديسمبر/ كانون الأول، انتهى الحُلم.
ماذا بعد؟
ولكي تُدرك حجم الأزمة، فمجموع ما تحصُل عليه الرابطة من حقوق بث المباريات يصل لنحو 663 مليون يورو سنويًّا، أي ما يعني خسارة ما يدنو من 40% طبقًا للعقد السابق المبرم مع «MediaPro».
تعتبر فرنسا منجمًا للمواهب، حيث يحصُل اللاعبون الشباب على دقائق تنافسية كافية، ما يسمح لهُم بالتطوُّر في هدوء، قبل الانتقال لمحطة أكبر بأوروبا. لكن في ظل هذه الظروف القاسية، يرى «تيم بريدج»، أحد مديري شركة «Deloitte» للخدمات المالية، أن الخطر الذي تواجهه الأندية الفرنسية قد يضطرها لبيع لاعب أو اثنين فوق المعتاد، بالتالي قد تشهد الملاعب الفرنسية فقرًا في المواهب، بعدما كانت مكانًا مثاليًّا لاحتوائهم وتطويرهم.
قلق وشغب
في الـ 29 من مايو/ آيار، هبط نادي «سانت إيتيان» الفرنسي رسميًّا لدوري الدرجة الثانية بعد خسارته أمام نظيره «أوكسير» في تصفيات الصعود/الهبوط، الأمر الذي أشعل غضب جماهير الفريق العريق، والتي اجتاحت الملعب مصوبةً ألعابها النارية تجاه اللاعبين الذين فشلوا في الحفاظ على مقعدٍ بالدوري الممتاز.
حقيقةً، لا تُعد حوادث الشغب أمرًا جديدًا على الملاعب الفرنسية، فخلال هذا الموسم فقط شهد الدوري الفرنسي عددًا لا بأس به من حالات العنف الجماهيري، ولعل أبرزها تعدِّي جماهير المنافسين مرتين على جناح «مارسيليا» الفرنسي «ديميتري باييه».
إضافة لسلسلة من أعمال العُنف الجماهيري التي انتهت أخيرًا بتدخُّل الشرطة لفض اشتباكات بين جمهوري «مارسيليا» و«فينورد» الهولندي على هامش استضافة الأول لنظيره الهولندي بنصف نهائي «اليوروبا ليج». بينما كانت الكارثة الأكبر حين فشلت فرنسا في تنظيم دخول الجماهير لنهائي دوري أبطال أوروبا بين «ليفربول» الإنجليزي و«ريال مدريد» الإسباني.
بطبيعة الحال يحاول مسئولو الكرة الفرنسية تشتيت انتباه العالم عن حقيقة الأسباب التي أدت إلى تزايد العنف داخل ملاعب كرة القدم الفرنسية، عبر الإشارة إلى دور تفشي «فيروس كورونا» في إصابة العديد من الشباب المندفع بالقلق من المستقبل. لكن هل ضرب الفيروس فرنسا وحدها؟
أثناء محاولة لتفسير ظاهرة «وباء العنف» المتفشي في الملاعب الفرنسية، اتضح أنه لربما توجد علاقة بين الكارثة الاقتصادية التي تعاني منها الأندية الفرنسية والشغب داخل وخارج الملاعب.
حسب «رونان إيفيان»، المدير التنفيذي لجمعية مشجعي كرة القدم في أوروبا، اقتحام الجماهير للملاعب الفرنسية يعود بالأساس لافتقار المضيفين للحكمة في التعامل مع الجماهير الغاضبة، ويرجع ذلك لاضطرار بعض من المضيفين للتحول إلى وظائف أُخرى أثناء فترة توقُّف كرة القدم بسبب انتشار «كورونا». بالتالي، لا يمكن أن تطلب من شخص يتقاضى راتبًا متدنيًا وفي ظروف عمل سيئة أن يخاطر بحياته لمنع شخص ما من اقتحام الملعب.
لكن ما علاقة كل ذلك بـ «مبابي»؟ الإجابة البديهية هي أنه بالفعل لا علاقة له بهذه المشاكل التي تطحن عظام الكرة الفرنسية، حيث يلعب لنادٍ لا تمثل حقوق البث بالنسبة له أي إضافة، ولا يعاني ماديًّا كما يعاني ملايين الشباب المحليون، ولهذا رُبما تدخَّل «ماكرون» لإثناء نجم «باريس سان جيرمان» عن الرحيل؛ لأن رحيله يعني بداهةً انهيار هذا المشروع، وربما فتح مناقشات حقيقية حول وضع الكرة الفرنسية، بل حول قدرة فرنسا نفسها على استضافة الأحداث الرياضية الكُبرى.
«مبابي» هو فرنسا في عيون اليابانيين، قبل أن يصطدموا بالواقع، أو بالأحرى هو سلاح فرنسا الأخير كي «تُلهيك».