«مايو 1968»: حكاية ثورة الأفلام والغاز المسيل للدموع
منذ خمسين عامًا، وبالتحديد في مايو/آيار 1968، اكتظت شوارع باريس بمظاهرات شبابية ضخمة مثل طلاب الجامعات الفرنسية غالبيتها، انضم العمال لهذه الثورة الطلابية، وبعد أيام قليلة أضرب ما يقرب من عشرة ملايين عامل وعاملة في كافة أنحاء فرنسا، استمرت هذه الثورة الطلابية طوال ستة أسابيع، وانتهى إضراب العمال برفع الحد الأدنى من الأجور وتقليل سن المعاش، وإجبار أحد أقوى الرؤساء في التاريخ الفرنسي «الجنرال شارل ديجول» على عرض نفسه لانتخابات رئاسية مبكرة.
قد يبدو هذا جنونيًا ولكنه مألوف في عام 1968 الذي اجتاحت فيه الثورات الطلابية والحركات الشبابية كافة أنحاء الكرة الأرضية، ولكن ما ميز مايو/آيار 68 الفرنسية هي روحها الفلسفية والفنية. فبينما كانت دعوات رفض الحرب الأمريكية على فيتنام، والروح الثائرة ضد حكومات مستبدة هما المحرك الأساسي لغالبية هذه الثورات، كان الوضع في فرنسا مغايرًا، حيث مثلت الرغبة في إعلان الحب، التحرر من القيود الاجتماعية، ورفض سيطرة الدولة على الفن، محركًا لشباب باريس «الحالمين» كما يطيب للكثير تسميتهم.
المثير للتأمل أن كل هذا قد بدأ بشرارة أطلقها مجموعة من السينمائيين الفرنسيين، وهذه هي حكايتنا اليوم، عن ثورة حالمة ربما تكون قد فشلت على المستوى السياسي، إذ لم يطح الحالمون بحكومة ديجول المحافظة في النهاية، ولكنها نجحت كثورة اجتماعية بدلت فرنسا على المستوى الفكري لأجيال وأجيال.
البداية من السينماتك الفرنسية
بدأ كل شيء حينما قررت حكومة شارل ديجول إزاحة «هنري لانجلو» من رئاسة «السينماتك الفرنسية» في فبراير/شباط 1968، وأن تدير الحكومة بشكل مباشر هذا المركز السينمائي. اندلعت ثورة السينمائيين، وعلى رأسهم مخرجو جيل الموجة الفرنسية الجديدة، «جان لوك جودار»، و«فرانسوا تروفو» ورفاقهم، ووصلت خطابات التأييد من كل فناني العالم، وفي مقدمتهم «شارلي شابلن» أحد أعظم صانعي السينما الصامتة في العشرينيات والثلاثينيات، و«ستانلي كوبريك» أحد أعظم صانعي سينما الستينيات والسبعينات عقب ذلك.
ولفهم قيمة السينماتك لابد لنا من العودة للوراء قليلاً عن تلك الأحداث، وبالتحديد إلى زمن الحرب العالمية الثانية. فرنسا تحت الحكم النازي وجيوش هتلر تحرق كافة الشرائط الفيلمية التي تم صناعتها قبل عام 1937، ووسط كل هذا يحاول ناقد سينمائي فرنسي هو «هنري لانجلو» جمع كل يقع تحت يديه من الأفلام، تنضم له ناقدة ألمانية/ فرنسية هي «لوتي ايسنر» من أسرة يهودية هربت من برلين لباريس بمجرد وصول هتلر لسدة الحكم، وبمساعدة مجموعة من الأصدقاء ينجح هذا الثنائي في جمع وتهريب ما يمكن اعتباره أكبر مجموعة سينمائية في هذا العصر، ونحن هنا لا نتحدث عن الأفلام فقط ولكن أيضًا كل ما يرتبط بها من نصوص وأزياء وخلافه.
انتهت الحرب وتحررت باريس ووفرت الحكومة الفرنسية مقرًا صغيرًا يتكون من مكتب ملحق به غرفة عرض سينمائي صغيرة استخدمه لانجلو وإيسنر لإنشاء مركز سينمائي فرنسي حمل اسم «السينماتك الفرنسية – Cinémathèque Française». ومنذ ذلك الحين ويتوافد محبو السينما على هذا المكان لمتابعة عروضه اليومية لأفلام من كل أنحاء الدنيا.
اندلعت ثورة السينمائيين إذن وبدأت شرارة الاحتجاجات ضد القيود التي تفرضها الدولة على الفن، الجامعات، المجتمع، والحياة بشكل عام. وحينما وصلت الأمور لذروتها في مايو/آيار احتلت جموع الطلاب ساحات جامعة باريس (المعروفة بالسوربون الآن) وبدأت الاشتباكات بينهم من ناحية وشرطة الشغب الفرنسية من ناحية أخرى. كان الفنانون والسينمائيون عنصرًا فاعلاً وسط الأحداث. كانت الأجواء شبيهة بحكايات فيكتور هيوجو في روايته الشهيرة «البؤساء».
على أحد جانبي نهر «السين» شباب حالمون، فنانون ومثقفون. انتشرت شعارات «كل السلطة للخيال»، «الشاطئ أسفل أحجار الرصيف»، «الملل هو الثورة المضادة»، «افتح نوافذ قلبك»، «انقل رغباتك للواقع»، «كن واقعيًا واطلب المستحيل»، وغيرها على جدران شوارع باريس. وعلى الجانب الآخر قوات مكافحة الشغب بأزيائها الباهتة وخوذاتها القديمة.
حينما تحدث الثورة فلا وقت لمهرجان كان
بهذه الكلمات الغاضبة انفجر المخرج الفرنسي جان لوك جودار في وجه بعض صناع السينما أثناء فعاليات دورة عام 1968 من «مهرجان كان»، لم تكتمل فعاليات هذه الدورة في النهاية وأعلنت اللجنة المنظمة إلغاءها نتيجة انسحاب العديد من الأفلام احتجاجًا على عنف الشرطة وتضامنًا مع تظاهرات الطلاب والعمال، بينما تعذر عرض بقية الأفلام نتيجة اعتصام عدد من السينمائيين داخل قاعات العرض احتجاجًا على إقامة المهرجان في هذا العام.
كانت «لجنة الدفاع عن السينماتك» وراء كل هذا، وهي اللجنة التي تشكلت عقب فبراير 68 وتحدث باسمها المخرجان الفرنسيان فرانسو تروفو، وجان لوك جودار، اثنان من أقطاب الموجة الفرنسية الجديدة.
لم يكن إلغاء «مهرجان كان» مجرد حدث احتجاجي، ولكنه مثّل لجودار وتروفو رمزية كبيرة؛ رمزية نهاية الشكل التقليدي للسينما.
انتقل تروفو وجودار في البداية من عالم النقد السينمائي ككاتبين في مجلة كراسات السينما الفرنسية، إلى عالم الإخراج واستحداث نظرية سينما المؤلف، وقررا في بيان إعلان تشكيل موجتهم السينمائية الجديدة برفقة مجموعة من السينمائيين الفرنسيين أن «السينما قد أضحت وسيلة جديدة للتعبير، وسيلة لها خصوصيتها تمامًا كما الرواية والرسم، وأن لها الحق في التعبير عن مشاعر وأفكار صناعها مهما بدا هذا التعبير مجردًا وبعيدًا عن الشكل التقليدي للسرد»[1]. وباشتعال تظاهرات مايو/آيار 68 وجدا أخيرًا حدثًا اجتماعيًا ضخمًا يعبر عن كل أفكارهم الثائرة على الشكل التقليدي للفن والمجتمع.
من فيلم tout va bien
خصص تروفو عقب ذلك وفي نفس العام فيلمه «Stolen Kisses» لتخليد أجواء مايو/آيار 68، إذ نرى في أول مشاهد الفيلم أبواب السينماتك الفرنسية الموصدة في استدعاء لبداية شرارة الاحتجاجات. أما جودار فقد مثلت الأحداث نهاية مرحلة سينمائية صنع فيها أفلامًا صنفها فيما بعد بأنها كانت «برجوازية»، وتغير الرجل بشكل مكتمل فتحول لأشكال غاية في الراديكالية في صنعه للأفلام.
وبينما حازت أفلامه قبل 68 على إعجاب جماهيري كبير، كان الرجل مدركًا لأجواء صناعة السينما ومعارضًا للشكل التقليدي ولكنه كان متصالحًا معها وراغبًا في صناعة أفلام يشاهدها الملايين، حتى ولو اضطر للموافقة على شروط المنتج الأمريكي في ظهور بطلته الفرنسية الفاتنة بيرجيت باردو في مشهد عري لا داعي له في حبكة فيلم «Contempt» في عام 1963، كما صرح بنفسه في إحدى المقابلات.
تحول الرجل لصنع أفلام لم يُعرض غالبيتها بشكل جماهيري، وحاول فيها التجريب على كل قواعد الإخراج. كسر جودار الحاجز البريختي وقرر تصوير فيلمه «Tout Va Bien» في ديكور مقسم لغرف متجاورة يظهر جميعها في كادر واحد وكأنه يخبر جمهوره أن حكاية الإضراب العمالي الذي يرويه، والمستوحى من أحداث 68، ما هي إلا أحداث داخل فيلم في النهاية. ثم وصل التجريب إلى ذروته بابتعاده بشكل مكتمل عن الشكل الروائي في السرد وتوقفه عن توجيه ممثليه بل وتوقفه عن الاستعانة بممثلين محترفين على الإطلاق.
عام 1968 بين باريس والقاهرة
في مصر شهدت جامعة القاهرة مظاهرات طلابية أيضًا خلال عام 1968، خرجت جموع الطلاب هنا في أعقاب قضية الطيارين المصريين، حين حاولت السلطة المصرية تحميل مجموعة من الطيارين مسئولية نكسة 67، خرجت المظاهرات الطلابية في عين شمس، والعمالية في حلون، تنوعت الهتافات بين رفض استمرار إغلاق المجال العام، المطالبة بإصلاح الجيش، والمطالبة بحياة سياسية واجتماعية اكثر ديمقراطية.
امتص جمال عبد الناصر كل هذه الاحتجاجات في بيان مارس/أذار 68 الذي وعد فيه بإعادة ترتيب البيت من الداخل، صياغة دستور جديد يتيح ممارسة النشاط السياسي والحزبي، ويحدد توقيتًا لانتخابات برلمانية ورئاسية، وفي نهاية العام عاد ناصر وألقى القبض على كل هؤلاء المحتجين.
المثير للتأمل أن هذه الثورة السياسية قد فشلت أيضًا، ولكن في نفس التوقيت في عام 1968، أنشأ مجموعة من السينمائيين المصريين أول نادي سينما في مصر، ازداد عدد أعضائه عن الألفي عضو، وأقيمت عروضه في قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية، ورافقت العروض نشرة سينمائية كتب فيها عدد من النقاد المصريين وعلى رأسهم الناقد الكبير «يوسف شريف رزق الله»، الذي أتاحت له معرفته الجيدة باللغة الفرنسية متابعة ما كان يجري وقتها في باريس، وكما يروي الناقد المصري «أمير العمري» في كتابه «شخصيات وأفلام من عصر السينما»[2]، فقد تابع محبو السينما الشباب حكايات مايو/آيار 68 وهم مبهورون بقدرة مجموعة من الفنانين على إطلاق شرارة ثورة حقيقية في واحدة من أعرض دول العالم.
وبينما تمتلئ الصحف والمواقع الفرنسية اليوم بمناقشة تأثير مظاهرات مايو/آيار 68 في يوبيلها الذهبي، ويعبر الكثير من الفرنسيين عن امتنانهم لما أتاحته لهم هذه الثورة من بداية جديدة لمجتمع أكثر تحررًا، لا يزال الشباب المصري اليوم يكافح من أجل الاستمرار في معركة التحرر، على مستوى السياسة، المجتمع، الفن، والحياة بشكل عام.