مكسيم رودنسون والتأريخ الثوري للعالم الإسلامي
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
كان مكسيم رودنسون من أبرز المختصين الدوليين في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي، وله سمعة عالمية بين باحثي هذا المجال. وقد ولد في باريس عام 1915، وتوفي في مرسيليا عن عمرٍ ناهز تسعة وثمانين عامًا عام 2004.
ترك المؤرخ الفرنسي وراءه ببليوغرافيا لأكثر من ألف عمل، بما في ذلك نحو عشرين كتابًا، ستة منها تُرجمت إلى الإنجليزية، وعدة مجموعات من المقالات. وامتدت موضوعاته المختارة من الجزيرة العربية في القرن السابع إلى دول وحركات الشرق الأوسط الحديث.
ذلك الإرث الفكري له أهمية خصوصًا بالنسبة إلى اليسار اليوم؛ لأن رودنسون سعى لشرح التطورات السياسية والاجتماعية الرئيسة في المجتمعات العربية بمساعدة المفاهيم الماركسية المطبّقة بروحٍ إبداعيةٍ وغير دوغمائية.
لم يكن رودنسون أكاديميًا منعزلًا، وقد تكون مساهمته الأكثر تأثيرًا هي روايته المشتبكة سياسيًا لأصول إسرائيل ومسارها في كتبٍ مثل إسرائيل: دولة استيطانية استعمارية؟ وإسرائيل والعرب. وكثير من الذين لم يسمعوا عن رودنسون من قبل مدينون لتقييمه النقدي للصهيونية، الذي جمعه مع رؤيةٍ واضحةٍ لإخفاقات القومية العربية.
كان ذلك مجرد جانبٍ واحدٍ من عمل رودنسون. وتُعد كتبه ومقالاته أدوات لا تقدر بثمنٍ لأيّ شخصٍ يبتغي فهم مجتمعات الشرق الأوسط، في الماضي والحاضر. وستقدم هذه المقالة للقراء مقدمةً عن المعالم السياسية والفكرية الرئيسة في مسيرة رودنسون الطويلة والرائعة.
حياةٌ ضد التيار
فرّ والدا رودنسون، وهما خيّاطان اشتراكيان من أصلٍ يهودي وخلفيةٍ طبقيةٍ متواضعة، من المذابح الروسية في نهاية القرن التاسع عشر ليستقرا في فرنسا، حيث انضما إلى الحزب الشيوعي في عام 1920. وفي سن الثالثة عشرة، بينما هو مسلح فقط بشهادة تخرج من المدرسة الابتدائية، أصبح رودنسون صبيًا يوصل الطلبات وعلم نفسه الإسبرانتو والإنجليزية واليونانية واللاتينية.
التهم الكتب التي استعارها وطلب مشورة المعلمين كلما استطاع. وعندما كان في السابعة عشر من عمره، اجتاز امتحان القبول في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس. وبعد أربعة أعوام، تخرج في اللغات: التجرية والأمهرية، والعربية الفصحى، والعربية الشرقية، وعربية شمال أفريقيا، والتركية.
وفي عام 1937، حصل رودنسون على منحةٍ دراسيةٍ من المجلس القومي للبحوث. وفي العام نفسه، انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. وكما يتذكر لاحقًا، كان للحزب الشيوعي الفرنسي ثقافة «عمالية» قوية، وشعر أنه أقرب إلى أعضاء الطبقة العاملة في الحزب من المثقفين الآخرين المنحدرين من عائلاتٍ برجوازية: «على الأقل هكذا اعتقدت. لكن ‘العمال بدوامٍ كامل’ اعتبروني مع ذلك مثقفًا وحاملًا لكافة الرذائل الكامنة في هذه الفئة».
غادر رودنسون فرنسا بعد فترةٍ وجيزةٍ من بدء الحرب العالمية الثانية إلى سوريا ولبنان. وكان إتقانه اللغةَ العربيةَ الذي مكنه من الهروب من الترحيل إلى معسكرات الاحتلال النازي. ولم يحالف الحظ العديد من أقاربه، بما في ذلك والديه، اللذين ماتا أثناء نقلهما إلى أوشفيتز في عام 1943.
وخلال الأعوام التي قضاها في الشرق الأوسط، درّس رودنسون في مدرسةٍ ثانويةٍ وتعاون مع البعثة الأثرية لفرنسا الحرة. وهناك بدأ دراسته للإسلام من منظورٍ مادي. وبعد عودته إلى باريس عام 1948، أصبح رئيسًا لقسم المطبوعات الشرقية بالمكتبة الوطنية، ثم مديرًا للدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا.
وخلال مسيرته التدريسية، تقدم رودنسون ليصبح أستاذًا للعربية السودانية والإثيوبية الكلاسيكية، وأخيرًا محاضرًا في الإثنوغرافيا التاريخية للشرق الأدنى. وقد ألهم العديد من الطلاب: في عام 1971، كان يشرف في وقتٍ واحدٍ على أكثر من سبعين رسالة دكتوراه.
ظل رودنسون عضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي حتى طرده من الحزب في عام 1958 لإظهاره خطًا فكريًا مستقلًا بشكلٍ متزايد، خصوصًا بعد «الخطاب السري» للزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف في عام 1956 الذي ندد ببعض انتهاكات عهد ستالين. وفي عام 1981، كتب نقدًا ذاتيًا طويلًا وصارمًا لفترة اعتناقه الستالينية، موضحًا أنه ينظر إلى ستالين الآن باعتباره «طاغيةً ساديًا» مسؤولًا عن جرائم فظيعة، بينما أصر على صِدق العديد من المناضلين الشيوعيين في ذلك الوقت، الذين آمنوا أنهم كانوا يقاتلون من أجل عالمٍ أفضل.
وقال المؤرخ إنه لن يقبل «الإدانة المُرائية» من الشخصيات التي أيدت ظلم الوضع القائم. ومع ذلك، أعلن رودنسون احترامه أولئك اليساريين الذين كان فهمهم للستالينية أكثر وضوحًا منه في ذلك الوقت: «أقبل فقط دروس أولئك الذين أثبتوا أنهم أوضح رؤيةً من خلال توجيه سخطهم وتمردهم بشكلٍ أفضل».
الماركسية الإبداعية
كان رودنسون بخاصةٍ باحثا ميدانيًّا مكرسًا لـ«تمارين التحقيق الملموسة» (جمع وتحليل المصادر وقراءتها بشكلٍ نقدي). وقد حافظ على استقلال عقله. وعندما أتيحت لي الفرصة للتحدث معه بإسهابٍ في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أسر لي أنه لم يَعُد يَعتبر نفسه ماركسيًا، مرددًا ربما تعليق ماركس الشهير بأنه ليس «ماركسيًا» وفقًا لمعايير بعض أبناء عصره الذين زعموا أنفسهم تلامذةً له.
وكان رودنسون على أي حال من أوائل «الماركسيين» بعد الحرب الذين دافعوا عن مقاربةٍ للتاريخ تستند إلى تحليل التكوينات الاجتماعية الملموسة. ومن وجهة نظره، بينما يُحدد نمط الإنتاج السائد الواقع الاجتماعي بالتأكيد، يمكن أن تؤثر الأنماط الأخرى التابعة عليه أيضًا. وزيادةً على ذلك، فإن «البنى الفوقية» السياسية والأيديولوجية لمجتمعاتٍ معينةٍ لم يتم تحديدها بشكلٍ صارمٍ من خلال «قواعدها» الاقتصادية، كما تقول الأشكال الأكثر فظاظةً للنظريةً الماركسية. وقد ساعدت هذه الأفكار على إخراج الماركسية من المأزق العقيم الذي حاصرتها فيه الدوغما الستالينية.
كان رودنسون قادرًا «بشكلٍ متواضع»، على حد تعبيره، على قراءة نحو ثلاثين لغة، وكره الحدود الوطنية بقدر ما كره الحدود بين العلوم. لقد كان لغويًا ومؤرخًا وعالمًا أنثروبولوجيًا وعالم اجتماع في الآن نفسه. وبصفته متخصصًا في اللغات السامية، كان مهتمًا أيضًا بالعالم التركي وآسيا الوسطى وإثيوبيا والإسلام واليهودية والصهيونية وإسرائيل والقضية الفلسطينية والطبقات الاجتماعية والاقتصاد والجماعات العرقية والعنصرية والطب والمطبخ والانسحار والسحر والأساطير وطقوس القمر.
يمثل أهم عملين له، محمد (1961)، والإسلام والرأسمالية (1966)، نقطة تحول في علم التأريخ للعالم الإسلامي، حيث قدما تحليلا ماديًا لتطور هذا العالم ورفضا منح الدين مكانةً مميزة. لقد رفض رودنسون «المفهوم المثالي للدين كمجموعةٍ من الأفكار التي تطفو فوق الحقائق الأرضية وتُحيي باستمرار روح وأفعال كافة أتباعها» ،وهو مفهوم كان (ولا يزال) سائدًا بشكلٍ خاصٍ في مناقشة المجتمعات الإسلامية:
وفي عام 1972، نشر كتاب الماركسية والعالم الإسلامي. وتتناول هذه المجموعة من المقالات والمقدمات وأوراق المؤتمرات والدراسات المكتوبة بين عامي 1958 و1972، والتي حدثها المؤلف للنشر، التشكيلات والأيديولوجيات الاجتماعية في الدول ذات الأغلبية المسلمة، كما كتب العرب (1979)، وهو دراسة تحاول رسم صورةٍ أنثروبولوجيةٍ واجتماعيةٍ وتاريخيةٍ وسياسيةٍ لشعبٍ بتنوعه اللا محدود، فضلًا عن أوروبا ولغز الإسلام (1980)، والذي يتتبع تطور وجهات النظر الغربية حول العالم الإسلامي من المواجهات المبكرة إلى العصر الحديث.
النبي لحمًا ودمًا
كانت سيرة رودنسون لنبي الإسلام عام 1961 بمثابة تحولٍ في التفكير السائد في ذلك الوقت حيث قدمت للقراء رجلًا من لحمٍ ودم. ووصف الكتاب محمدًا جسديًا كما لو كان يقف أمامنا: «كان مربوعًا برأسٍ كبيرٍ لكن وجهه لم يكن مستديرًا ولا ممتلئًا البتة. وكان شعره مجعدًا قليلًا وعيناه كبيرتان وسوداون وواسعتان تحت رموش طويلة».
وواصل المؤلف تقديم صورةٍ نفسيةٍ لمحمّد:
حاول رودنسون تقديم تفسيرٍ ماديٍ لميلاد الإسلام في مكانٍ وزمانٍ حيث تقاطعت الأفكار التوراتية والقوافل التجارية. وفي عام 610، عندما بلغ الأربعين من عمره، بدأ محمد في تلاوة الرسائل التي اعتقد أن الله قد أملاها عليه، والتي أصبحت القرآن. وادعت العقيدة الجديدة أنها تجمع الموحدين الحقيقيين من خلال إعادة النظر في التقاليد اليهودية والمسيحية وتجاوزها وتوفير هويةٍ روحيةٍ مشتركةٍ لكافة العرب بغض النظر عن حواجزهم القبلية.
وفي عام 622، بعد أن كانت الطبقة الأرستقراطية المكية قد أجبرت النبي الجديد في السابق على النفي إلى المدينة، التفت حول قيادته. وقاد محمد وخلفاؤه جيشًا عظيمًا من البدو في غزو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وإسبانيا. لكن في الوقت نفسه، ظل الإسلام مرتبطًا بموقفه الأصلي المناصر للمساواة، وغالبًا ما وقف في طريق السلطة المطلقة للخلفاء والأمراء والسلاطين الذين جاءوا بعد ذلك.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، رفض رودنسون نمط «الحتمية البدائية» المرتبط أحيانًا بالماركسية، والذي ينص على أنه «لو لم يولد محمد مطلقًا، لكان الموقف قد دعا إلى محمدٍ آخر». كانت هذه إشارة واضحة إلى الفيلسوف الماركسي الروسي جورج بليخانوف، الذي قدمت مقالته المؤثرة «حول دور الفرد في التاريخ» الادعاء نفسه حول نابليون.
بالنسبة إلى رودنسون، لا يمكن تفسير مسار الأحداث التاريخية بمثل هذه التأنُق:
خلافاتٌ جديدة
استند رودنسون في تحليله المادي للتقاليد الإسلامية على وجه الخصوص إلى عملين أساسيين عن حياة محمد في مكة والمدينة نشرهما المؤرخ البريطاني ويليام مونتغمري وات في الخمسينيات من القرن الماضي. في ذلك الوقت، قَبِل علم التأريخ الغربي هذا الرأي في خطوطه العريضة. ومنذ نهاية السبعينيات، عرّضه بعض الباحثين البارزين، مثل جون وانسبرو ومايكل كوك وباتريشيا كرون، لانتقاداتٍ شديدة.
لقد صورت هذه الشخصيات «قَبتاريخ» الإسلام على أنه حركة مسيانية تجمع بين اليهود والمسيحيين وأدت إلى الفتح العربي. وأعاد عملهم عملية كتابة القرآن تاريخيًا إلى فترةٍ بعد قرنين من الزمان، بل ساءلوا دور محمد ومكة في ولادة الإسلام.
ومع ذلك، فإن الأبحاث الحديثة لا تُقدم دعمًا كبيرًا لمثل هذه النظرية التعديلية التاريخية الراديكالية. على النقيض من ذلك، تميل الأبحاث إلى تأكيد أن القرآن قد نشأ في وسط الجزيرة العربية وأن معظم محتوياته تعود إلى القرن السابع، بالرغم من أنه ربما كانت هناك مراجعات نصية في مرحلةٍ لاحقة.
وفي عام 1972، كشف ترميم الجامع الكبير في صنعاء عن مخطوطة، ربما يرجع تاريخها إلى أواخر القرن السابع، تحتوي على نحو نصف القرآن. ثم كشف أستاذ ألماني متقاعد في أوائل التسعينيات عن وجود أرشيف فوتوغرافي أساسي لأجزاءٍ من نسخةٍ قديمةٍ من القرآن يُعتقد أنها اختفت في تفجيرات الحرب العالمية الثانية. ومنح هذا الاكتشاف زخمًا جديدًا للبحث في أصول القرآن.
وعند قراءة سيرة رودنسون عن محمد اليوم، يجب على المرء أن يضع هذه الخلافات المستمرة في الاعتبار. فهذه السيرة تظل متوافقةً على نطاقٍ واسعٍ مع أحدث الأعمال، لا سيما أعمال فريد إم دونر أو أنجيليكا نيوورث.
الاستشراق والتخلف
كان «الإسلام والرأسمالية» (1966) دون شك أكثر الكتب التي نوقشت بحماسةٍ من بين كتب رودنسون. ورددت أطروحته المركزية صدى نقاشات الستينيات حول الأسباب الرئيسة للتخلف، لا سيما في العالم الإسلامي. بالنسبة إلى رودنسون، لم يمنع الإسلام النموَ الاقتصادي، سواء عن طريق مؤسساته أو ممارساته العلمانية.
وأشار أولئك الذين حاججوا بخلاف ذلك إلى عاملٍ عقائديٍ رئيسٍ واحدٍ اعتقدوا أنه أعاق تطور الرأسمالية في البلدان الإسلامية، ألا وهو حظر القروض بفائدة. ووفقًا لبحث رودنسون، فقد تم التّحايل على هذه القاعدة في الممارسة على نطاقٍ واسعٍ بالوسائل القانونية. ودائمًا ما دافع الإسلام عن الملكية الخاصة والإثراء الفردي طالما كان الأثرياء خَيّرين ويقدمون المساعدة للأيتام أو الفقراء.
بعد مسار التحقيق الذي فتحه رودنسون، سعى مؤرخون مثل جايرس باناجي لإظهار أن إسلام العصور الوسطى قد سد في الواقع الفجوة التاريخية بين التجارة المزدهرة في العصور القديمة المتأخرة وتجارة الدول-المدن الإيطالية والبرتغال وهولندا بعد مئات السنين. وتضمن هذا الدور الوسيط الممارسات التجارية والابتكارات القانونية والمؤسسات.
ومنذ القرن التاسع عشر فصاعدًا، سيطرت أوروبا الغربية والولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. بالنسبة إلى رودنسون، فإن الوضع المهيمن لهذه القوى يفسر سبب عدم قدرة رأس المال التجاري في المجتمعات الإسلامية، الذي كان موجودًا بكميات كبيرة، على إنتاج شكلٍ مكتفٍ ذاتيًا من الرأسمالية الصناعية.
إن محاولة مصر المذهلة للتصنيع في النصف الأول من القرن التاسع عشر تدعم حجته. ففي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان لدى مصر واحدة من أكثر عمليات التصنيع الحديثة تطورًا في العالم، بخاصة في قطاعات مثل غزل القطن والنسيج. ومع ذلك، أدى تدخّل دبلوماسي وعسكري قوي من جانب بريطانيا وقوى غربية أخرى إلى وضع حدٍ لهذه التجربة في أربعينيات القرن التاسع عشر.
يُظهر الإسلام والرأسمالية أهمية التعقل القرآني في الوقت الذي كان فيه مؤسسو الإسلام منخرطين في حوارٍ مع المجتمع العربي في القرن السابع الميلادي. وقد تطورت طريقة التفكير هذه استجابةً لصعود التجارة والتمويل. والتحريض القرآني على التفكير ومواجهة الأفكار والانخراط في جهدٍ فكريٍ للعثور على الحقيقة ينبع من الحاجة إلى تعزيز فهم أكثر شمولية للعالم.
هل يدعو القرآن حقًا إلى القدرية، التي هي نزعة سلبية تتعارض مع روح المبادرة، كما اقترح العديد من الباحثين؟ لنفترض أن مصير البشر يعتمد على الله، خالق كل شيء، كُليّ العِلم. إذا كان ذلك كذلك، فإن فكرة القضاء والقدر في الإسلام (كما في الديانات الأخرى) لا تتعارض مع الدعوة إلى العمل، لأن الفاعلية البشرية هي نفسها نتاج لإرادة الله. وفي الواقع، لا تشير كلمة «الجهاد» إلى الحرب المقدسة فحسب، بل تشير، بخاصة، إلى الجهد المبذول لتحسين الذات والمجتمع.
«الحصرية التملكية»
كان رودنسون أحد هؤلاء المفكرين الذين اعتقدوا أن البحث عن الحقيقة من خلال الأساليب العلمية هو امتياز شامل للإنسانية، وكذلك انتقاد الأيديولوجيات التي تُعيق تطورها. وقد قدّر عمل إدوارد سعيد الاستشراق (1978)، والذي أصبح نصًّا مؤثرًا بشكلٍ كبيرٍ في العلوم الإنسانية:
ومع ذلك، أبدى رودنسون بعض التحفظات على نهج سعيد. كان مدركًا تمامًا للتحيزات الاستعمارية للعديد من الباحثين الأوروبيين تجاه الشرق، ومع ذلك فقد كان حَذِرًا من مقاربةٍ يمكن أن تؤدي إلى إبطالٍ قَبليٍ للعلم الغربي.
في «أوروبا ولغز الإسلام» (1980)، أوضح هذه المخاوف بشكلٍ صريح. من وجهة نظر رودنسون، بينما من المهم التعرف على التأثير المشوِه للاستعمار وتحديه على كلٍ من اختيار البيانات وتفسيرها من جانب الباحثين، فإن هذا لا ينبغي أن يعني تبنّي مفهوم «العِلمَين».
كان يشير إلى فكرةٍ روّج لها ملازم ستالين، أندريه جدانوف، في أواخر الأربعينيات. أخضعت الجدانوفية المجتمعَ السوفييتي لمحاكم تفتيشٍ حقيقيةٍ من خلال تقسيم مجالات العِلم والثقافة إلى فئتين، «البروليتارية» و«البرجوازية»، رافضةً فكرة البحث العلمي الموضوعي، ومنحت مفوّضي الحزب الحقّ في الفصل في الخط الفاصل بين الفئتين، حتى في مجالاتٍ مثل علم البيولوجيا والفيزياء.
في مقالٍ صدر عام 1985 بعنوان «إعادة النظر في الاستشراق»، أصر سعيد على أن انتقادات رودنسون لمقاربته لا أساس لها من الصحة. ومع ذلك، فقد تبنى تحذيرًا صاغته ميرا جيلين من منظورٍ نسوي، متطرّقًا إلى مسألة «ما إذا كان يمكن للمجموعات التابعة -النساء والسود وما إلى ذلك- عند تعيين هوية النقد المضاد للهيمنة والعمل من خلاله، حلّ معضلة مجالات الخبرة والمعرفة المستقلة التي تم إنشاؤها نتيجةً لذلك».
وفقًا لسعيد، سيتعين على العاملين في مثل هذه المجالات الاحتراس من إغراءٍ مزدوج:
بالرغم من كل الانتقادات اللاذعة المتبادلة بينهما، كان رودنسون ليوافق على ذلك.
الإسلام والسياسة
في الإسلام والرأسماليّة، كان رودنسون قد أطلق بالفعل ملاحظةً تحذيريةً حول الشكل الذي من المرجح أن يتخذه الإسلام السياسي، سابحًا ضد تيارٍ اعتبره عالم ثالثية متفائلة بسذاجة:
كما أوضح رودنسون أكثر من مرةٍ في كتاباته، فإن «الإسلاموية» ليست ظاهرة أُحادية البُعد. فيمكن أن يتخذ الإسلام السياسي توجهات متضاربة، اعتمادًا على الفاعلين الاجتماعيين الذين يزعمون أنهم من دعاته والقادة السياسيين والفكريين الذين تقدموا لمفصلة برنامجه. وما من عقيدةٍ دينيةٍ واحدةٍ متسقةٍ داخليًا يمكن تطبيقها على عالم السياسة.
لقد رفدت الشريعة من التقليد المبني حول أفعال وأقوال النبي وأصحابه والخلفاء الأوائل، بعد نحو 150 إلى 200 عام. وفي حين أن هذا الجسم الفكري يميل إلى دعم المصالح الخاصة المميزة والدعوة إلى الخضوع الكامل للسلطة، فإن مطالب عقيدة وُلدت في سياقٍ قائمٍ نسبيًا على المساواة غالبًا ما تقطع في الاتجاه المعاكس، وتقدم الأساس للنقد الاجتماعي. ومن ناحيةٍ أخرى، أراد الخلفاء والأمراء والسلاطين الذين سيطرت قوتهم الأوتوقراطية على العالم الإسلامي منذ منتصف القرن السابع فصاعدًا أن يكونوا وحدهم القضاة في المسار الصحيح الذي يتّبعه المسلمون.
لم يتم ترسيخ الأديان مرةً واحدةً وإلى الأبد من خلال نص الكتاب التأسيسي المقدس. بل تتطور الأديان مع المجتمعات التي تتبناها، والتي تتمتع طبقاتها الحاكمة بتأثيرٍ حاسمٍ على أشكالها المؤسسية والعقائدية. وقيام الحكام الأقوياء بإلحاق العلماء بهم ليس شيئًا فريدًا يخص الإسلام دون سواه، حتى لو اتخذ شكلًا معينًا في العالم الإسلامي. كما أن «الهرطقات» التي تُعلن العودة إلى «الإيمان الحقيقي» غذت العديد من حركات المقاومة الاجتماعية داخل الإسلام، تمامًا كما فعلت في الأديان الأخرى.
لاهوت التحرير ولاهوت الاضطهاد
هل الإسلام محكوم عليه بأنه أداة للسياسات الرجعية؟ ليس بالضرورة، كما أصر رودنسون. ففي ظل تأثير الثورة الروسية ونضالات التحرير التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، طورت قطاعات معينة في العالم الإسلامي نوعًا من لاهوت تحريرٍ ذي دلالات اشتراكية.
أوْْلى رودنسون اهتمامًا خاصًا بهذه التطورات، حيث نظر إلى مسيرة الناشط السياسي التتري مير سايت سلطان غالييف. وكان سلطان غالييف المتحدث داخل الحزب البلشفي باسم المطالب القومية والدينية لمسلمي روسيا:
دعم لينين سلطان غالييف، لكنه وقع في وقتٍ لاحقٍ في نزاعٍ مع القيادة السوفيتية. ففي ظل حكم ستالين، سُجن وأُطلق عليه الرصاص في النهاية. ورأى رودنسون أن هذا الثوري التتري هو الرجل الذي أدرك أولًا أهمية المسألة الوطنية في البلدان المستعمرة، و«الأهمية الدولية للاشتراكية لتلك الحركات الوطنية التي لا تتصور على الفور حربًا طبقيةً كاملةً وفرضًا للاشتراكية».
اعتقد رودنسون أنه من الممكن تصور «إسلام التحرير» على غرار لاهوت التحرير المسيحي في أمريكا اللاتينية. وهذا يمكن أن يحدث إذا كان حامل هذا الاتجاه حركة شعبية قطعت قيادتُها بوعيٍ تقليد العلماء الطويل في التعاون مع الطبقة الحاكمة وسلطة الدولة.
ومع أخذ ذلك في الاعتبار، انتقد رودنسون عمار أوزقان، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الجزائري. في رأيه، كان أوزقان محقًا بالتأكيد في الاعتراف بالمشاعر الدينية واسعة الانتشار التي حشدتها الحركة القومية ضد الاستعمار الفرنسي في كتابه أفضل قتال عام 1962. ومع ذلك، عارض رودنسون دعم أوزقان السلطات الإسلامية التقليدية في الجزائر. وحذر من أن رجال الدين هؤلاء سيدافعون حتمًا عن مصالح الطبقات الحاكمة الجزائرية الجديدة بعد الاستقلال، فضلًا عن القِيَم الاجتماعية الرّجعيّة.
وفي مقابلةٍ عام 1986 مع الماركسيّ الّلبنانيّ جلبير الأشقر، استذكر رودنسون رحلةً قام بها إلى الجزائر في عام 1965، في الوقت الّذي كان فيه أوّل رئيسٍ للبلاد، أحمد بن بلة، «يقوم بمحاولاتٍ حذرةٍ لتعزيز مساواة المرأة»:
يعتقد رودنسون أن دعم بن بلة الحَذِر للمساواة بين الجنسين كان عاملًا مهمًا وراء الانقلاب الذي قاده هواري بومدين والذي أطاح به في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العام. لقد رأى هذا كمثالٍ مبكرٍ لظاهرةٍ أوسع بكثير:
صعود الأصولية الإسلامية
إن البذور التي اكتشفها رودنسون في أعقاب استقلال الجزائر انفجرت بالكامل بعد الثورة الإيرانية 1978-1979 مع توطيد نظام آية الله الخميني الأصولي الشيعي. وبينما كانت الحركة الثورية الإيرانية تتطور خلال العامين الماضيين، استقبلها بعض المثقفين اليساريين الغربيين بمزيجٍ من البهجة والانبهار. لقد كانوا أكثر حماسًا لأنهم رأوا الآمال السياسية للستينيات الثورية تتدهور في أماكن أخرى.
رأى رودنسون على الفور مخاطر مثل هذا الرّدّ السّاذج وغير المستنير. وفي ثلاثة مقالات نُشرت في كانون الأوّل/ ديسمبر 1978 في صحيفة «لوموند»، وصف الأصوليّة الإسلاميّة بأنّها نوع من «الفاشيّة الّتي عفى عليها الزّمن» القائمة على «إرادة إقامة دولة سلطويّة وتوتاليتاريّة تحافظ شرطتها السّياسيّة بشراسةٍ على النّظام الأخلاقيّ والاجتماعيّ»، بينما تفرض أيضًا «الامتثال لمعايير التّقاليد الدّينيّة كما يتمّ تفسيرها بالمعنى الأكثر مُحافظة».
وكما يعتقد رودنسون، كان مؤيدو الخميني من نوعين: علّق البعض أهميةً قصوى على «تجديد الإيمان» بوسائل اصطناعية وقسرية، بينما رأى آخرون في ذلك «مكملًا نفسيًا» من شأنه تسهيل «الإصلاح الاجتماعي التراجعي». وفي شباط/فبراير 1979، في المجلة الأسبوعية الفرنسية لو نوفيل أوبزرفاتور، قدّم تعليقًا ساخرًا لحماس ميشيل فوكو لما كان يحدث في إيران تحت قيادة الخميني:
في إيران أيضًا، بدا أن الماركسيين والليبراليين على حدٍ سواء مندهشون من القوة الحشدية للشعارات الدينية -«التي تغطي الأسباب المادية للاستياء والثورات»، وفقًا لرودنسون- التي باسمها واجهت الجماهيرُ جيشَ الشاه بأياديها الفارغة. وحاول العديد من المثقفين الإيرانيين التقدميين منذ فترةٍ طويلةٍ إيجاد نقاط التقاءٍ بين الإسلام، بخاصة الإسلام الشيعي، والاشتراكية.
البعض فعل ذلك بكل صدق، مثل علي شريعتي، الذي كانت أفكاره مؤثرة في أوساط منظمة مجاهدي خلق الإيرانية اليسارية. واتبع آخرون هذه المقاربة لأسباب تكتيكية، على أمل كسب قلوب الجماهير. فبعد ما يُسمى الثورة البيضاء 1962-1963، وهي عبارة عن برنامج لتحرير الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية أطلقته ديكتاتورية الشاه الموالية للغرب، حاول آخرون تشكيل تحالفاتٍ دينيةٍ معارضةٍ لحكمه.
ومع ذلك، فقد تغاضوا جميعًا عن الموقف الاجتماعي وأيديولوجيا القيادة الدينية الإيرانية، التي كانت قريبة من برجوازية البازار التجارية بشكلٍ أساسي. وبحلول السبعينيات، كان روح الله الخميني قد أقنع الملالي بمفهومه لـ «حكومةٍ إسلامية» تخضع لسلطةٍ لا جدال فيها لمرشدٍ أعلى.
بالنسبة إلى رودنسون، لم يكن من المجدي محاولة منع المسلمين من السعي وراء مستقبلهم في نسخةٍ ما من الإسلام «سيتعين عليهم تشكيل وجهها الجديد بأيديهم». وفي الحالة الإيرانية، لم يكن مصطلح «إسلامي» في صياغة الخميني هو ما كان يجب أن يجذب انتباه المراقبين، بل كلمة «حكومة»، التي استثمرها الخميني بقوةٍ من خلال مضمونٍ أوتوقراطي في خطاباته وكتاباته.
رأى رودنسون الأصولية الإسلامية على أنها نتاج مآزق الحداثة بأشكالها المختلفة -الاستعمارية أو الاستعمارية الجديدة أو القومية أو حتى «الاشتراكية»- سواء في المنطقة العربية أو تركيا أو إيران أو آسيا الوسطى أو أفريقيا جنوب الصحراء. وفي عام 1986، حذر من أنها ستبقى سمةً من سمات المشهد السياسي في الدول الإسلامية لفترةٍ طويلة:
وفي هذا، بالطبع، كان على حق.
«شُكّ في كل شيء!»
تميزت حياة رودنسون ومساره الفكري بالبحث المستمر عن الحقيقة في إطار إيمانٍ بالانعتاق الجماعي. ودون تردد، تبنّى وصية ماركس المشهورة: شُكّ في كل شيء! كان لا يثق في النظريات المجردة التي تفتقر إلى أساسٍ ملموسٍ وسعى دائمًا إلى بناء مفاهيمه الخاصة على البحث الإمبريقي الذي لا يكلّ. كما أنه لم يقبل فكرة أن يكون التفكير النقدي حول موضوعٍ معينٍ من اختصاص مجموعةٍ واحدةٍ من الناس لأنهم وحدهم من عانوا هذا النوع من الاستغلال أو الاضطهاد.
رفض رودنسون بشدةٍ فكرة الماركسية كمجموعةٍ عقديةٍ كاملةٍ تحتوي بالفعل على كافة الإجابات عن الأسئلة السياسية المهمة، «مثل إحدى تلك اللوحات الإلكترونية في محطات مترو باريس، التي تشير إلى المسار الصحيح من نقطةٍ إلى أخرى». في فهمه، لم تكن هناك «ماركسية واحدة فقط، ولكن العديد من الماركسيات، والتي تمتلك كلها جوهرًا مشتركًا، صحيح، ولكن أيضًا مع العديد من الاختلافات، وكل نسخة شرعية مثل أي نسخة أخرى».
ومن مرحلته الستالينية، استخلص الدرس القائل بأن المُثُل السياسية العُليا ليست «ضمانةً ضد أفخاخ الرضا الذاتي والنرجسية الجماعية، ولا ضد الهذيان الأيديولوجي والهفوات الأخلاقية التي يمكن أن تؤدي إليها حتى أكثر الالتزامات إثارةً للإعجاب». ومع ذلك، فإن شكوك رودنسون بشأن الدوغمات الأيديولوجية لم تدفعه نحو الهدوء السياسي. وكما كتب في مقدمة الماركسية والعالم الإسلامي: