ماكس بلانك: رائد الفيزياء الحديثة وميكانيكا الكم
كانت هذه هي العبارة التي ختم بها ماكس بلانك خطابه أثناء استلامه لـجائزة نوبل، وهو يتحدث عن مصير طاقة الفوتون المنبعث. وهي الجائزة التي لم يتصور بلانك وهو يتخذ قرار دراسة الفيزياء بأن ينالها، فقد كان الاعتقاد السائد وقتها أن علم الفيزياء قد وصل لأقصى تطور ممكن، وكان بلانك يريد فقط تعميق فهم البشر ببعض أساسيات الفيزياء، فلم يتصور أنه سيؤسس لنظريات جديدة، لن تؤثر في مستقبل الفيزياء فقط، بل مستقبل العلم بأكمله.
تحل علينا اليوم ذكرى ميلاد «ماكس كارل إرنست لودنج بلانك – Max Karl Ernst Ludwig Planck»، عالم الفيزياء النظرية الألماني، ومؤسس علم الكم، أو النظرية الكمية لطاقة الإشعاع الكهرومغناطيسي، وأحد أهم فيزائيي القرن العشرين. تمثل نظريته، مع النظرية النسبية لأينشتاين، أهم نظريات القرن، وإعلان وفاة نظريات الفيزياء الكلاسيكية كتفسير للظواهر الطبيعية، عصر جديد تماما من الفيزياء.
حياته
ولد ماكس بلانك في مدينة «كايل – Kiel» بألمانيا، ولد في 23 أبريل/ نيسان 1858، وتوفي عام 1947، وكان سليلا لعائلة عريقة، فقد كان والده يعمل كبروفيسور في للقانون في جامعة كايل، كما أن جده وجد والده يعملان كبروفيسور في علم اللاهوت. وبعد انتقال العائلة لميونخ بدأ اهتمام ماكس بالفيزياء في الظهور مع دراساته للرياضيات والميكانيكا والفلك في المدرسة.
وكان محبا للموسيقى، فقد كان يجيد الغناء والعزف على البيانو والشيللو، بل وتأليف الموسيقى والكتابة للأوبرا. وعلى الرغم من ذلك، فضل ماكس دراسة الفيزياء بشكل منهجي في جامعة ميونخ عام 1874، على يد علماء عظام مثل «كيرشوف – Kirchhoff» و«هيلمهولتز – Helmholtz».
وبعد عام قرر التركيز في الفيزياء النظرية. وبعد أن قدم أطروحه عن نظرية الحرارة، بدأ يعمل كمحاضر غير مدفوع الأجر في جامعة ميونخ، وذلك في انتظار فرصة عمل أكاديمية رسمية كبروفيسور، لم تتتأتى له سوى بعد خمس سنوات، مع تقديم جامعة كايل فرصة أكاديمية له كبروفيسور مساعد في قسم الفيزياء النظرية عام 1885. واستمر بعدها في العمل على نظرية الحرارة و«الإنتروبيا – entropy».
في 1889 انتقل ماكس لبرلين، وعمل في جامعة برلين كبروفيسور في الفيزياء الكلاسيكية كوريث لمنصب أستاذه السابق «كيرشوف – Kirchhoff». وكان قد تزوج من زوجته الأولى «ماري ميرك – Marie Merck» عام 1887، وأنجبا أربعة أطفال، توفي ثلاثة منهم في فترة الحرب العالمية الأولى، بسبب الحرب وبسبب المرض.
في عام 1894 بدأ ماكس يهتم كغيره من علماء عصره، بـنظرية «إشعاع الجسم الأسود – Black Body radiation». والجسم الأسود هو الجسم القادر على امتصاص جميع أنواع الطاقة الساقطة عليه، بلا أي انعكاس أو خسارة في مقدار الطاقة، كما أنه قادر على إشعاع الطاقة بجميع الأطوال الموجية وذلك حسب درجة حرارته.
الجسم الأسود هو جسم مثالي تخيلي يحاول العلماء دراسته نظريا للوصول لتفسير ومحاولة فهم إشعاع الأجسام بشكل عام. حاول ماكس فهم علاقة شدة الإشعاع الصادر عن الجسم الأسود بتردد وطول الموجة، أي لون الضوء الصادر عنه، في حالة الضوء المرئي، وعلاقة ذلك بدرجة حرارة الجسم الأسود.
وفي عام 1900 أصدر ماكس أول نظرياته بخصوص الجسم الأسود، والتي لم تكن صحيحة ومفسرة بشكل كامل، وكان ماكس مدركا لذلك. لكن جزءًا مما لاحظه بلانك غيّر مستقبل الفيزياء، فقد لاحظ وأثبت رياضيًا أن الطاقة تصدر على هيئة «كمات – quanta» متساوية وليس بشكل موجة مستمرة كما تقول الفيزياء الكلاسيكية. وهذه الكمات لها صفات محددة، فهي دائما تساوي مضاعفات رقم ثابت أُطلق عليه بعد ذلك «ثابت بلانك – Planck constant».
ماكس بلانك وأينشتاين
في بدايتها، لم يُنظر لنظرية بلانك بعين الاهتمام من قبل العلماء. لكن تغير الأمر تدريجيا بعد أن استطاعت فكرة الكم تفسير العديد من الظواهر التي لم يكن لها تفسير سابق في الفيزياء الكلاسيكية. حتى جاء أينشتاين عام 1905 ليقدم تفسيره العملي لـ«الظاهرة الكهروضوئية – Photoelectric effect»، حيث قال أينشتاين أن طاقة الضوء ليست موجة مستمرة، لكنها مقسمة على كمات متساوية من الطاقة أطلق عليها الفوتونات، ويمكن حساب طاقتها باستخدام الثابت الذي طرحه بلانك سابقا، أي ثابت بلانك.
وبتأكيد ثابت بلانك ككم الطاقة الأساسي، تم حساب وحدات بلانك كزمن بلانك وطول بلانك وحرارة بلانك وذلك اعتمادا على الثوابت الفيزيائية الأساسية كسرعة الضوء في الفراغ وثابت الجذب وثابت كولوم وثابت بولتزمان.
وكانت العلاقة بين أنيشتاين وبلانك علاقة صداقة قوية للغاية، فكثيرا ما كان يسمعهما الجيران يعزفان الموسيقى سويا، أينشتاين يلعب الكمان وماكس يلعب البيانو. ونشأت تلك العلاقة غالبا بسبب دعم بلانك القوي للنظرية النسبية لأينشتاين في بدايتها، فقد أصبح بلانك رئيسا لجمعية الفيزيائيين الألمانية عام 1905، وحرص ماكس على أن تصل نظرية أينشتاين، المجهول وقتها، لأسماع جميع الفيزيائيين بقوة.
واستمرت تلك الصداقة لفترة طويلة جدا. كما أن أينشتاين نال ميدالية ماكس بلانك، وهي الجائزة التي سلمها له بلانك بنفسه. وقال أينشتاين عن أعمال بلانك:
وربما كانت تلك الصداقة هي العامل الأساسي في تغير مستقبل الفيزياء بالكامل، كما كان لها دور في صمود ماكس بلانك أمام ما واجهه في حياته من متاعب.
ماكس المتزمت يبدي مرونة غير متوقعة
وعلى الرغم من أن ماكس كان يبدو متزمتا أحيانا، وتشتهر سمعته كشخص محافظ أخلاقيا، بمعايير هذا الوقت، إلا أنه كان يبدي نوعا من المرونة الاجتماعية أحيانا. وعلى الرغم من التقاليد التي تقول أنه لا مكان موجود للمرأة بين صفوف العلماء، وهي الأفكار التي لم ينكرها بلانك، إلا أنه استقبل «ليز مايتنر – Lise Meitner» عندما انتقلت لبرلين بعد حصولها على الدكتوراه.
ووافق، لما أبدته من ذكاء وذهن متوقد، أن تحضر ليز محاضراته، كما وفر لها وظيفة في قسم الكيمياء في الجامعة، كما عينها بعد ذلك مساعدته، وأصبحت بفضل دعمه أول امرأة تعمل في منصب البروفيسور في جامعة ألمانيا. وليز هي من اكتشفت أن الذرة يمكن أن تنقسم، وقاد عملها مع «أوتو هان – Otto Hahn» إلى اكتشاف الانشطار النووي لذرة اليورانيوم عام 1938. وبهذا الاكتشاف اقتسمت ليز وأوتو جائزة نوبل عام 1944.
الحرب هي الحرب
مع بداية الحرب العالمية الأولى بدأت المشاكل تواجه بلانك، ووقتها كان بلانك أحد الرؤساء الأربعة الدائمين لـ«الجمعية البروسية للعلوم – Prussian Academy of Sciences»، أهم مؤسسة علمية ألمانية. وأعلن بلانك في بداية الحرب تأييده لها، لكنه عارضها بقوة بعد ذلك. وتوفي في تلك الحرب ثلاثة من أبناء ماكس بسبب الحرب مباشرة وبسبب المرض.
وبعد الحرب، ومع صعود النازي للسلطة عام 1933، كان بلانك يبلغ من العمر 74 عام، وعارض أفكار الحزب بشده لكن بشكل سري غير معلن. وساهم بشكل سري أيضا في استمرار عمل بعض العلماء اليهود في جامعات ألمانيا. ووقتها عارضه بشده حركة «العلماء الألمانيين – Deutsche Physik» والتي كان هيزنبرج أحد أعضائها، وسببوا له وللعلماء اليهود الكثير من المشاكل.
وبسبب استمرار ضغط الحزب النازي عليه، استقال ماكس من منصبه كرئيس دائم للجمعية البروسية للعلوم، ووقف النازيين أمام طريقه للحصول على أي منصب علمي آخر، مع استمرار رفضه لمبادئ الحزب أو للانضمام له. وحدثت محاولة فاشلة لاغتيال هتلر عام 1944 كان إروين ابن بلانك أحد المتهمين فيها، وتم إعدامه من قبل الجيستابو بعد إدانته. وكان لهذا الحدث تأثير سلبي قوي على نفسية ماكس، والذي فقد الرغبة في الحياة من بعدها.
ولكن، لم تنته المصائب عند هذا الحد، ففي نفس العام وقبل انتهاء الحرب، وفي قصف عشوائي لبرلين من قبل قوات الحلفاء، تم قصف منزل ماكس بلانك وتدميره بشكل كامل، خرج بعدها ماكس بلانك وزوجته الثانية من المدينة للريف، ولم يستقر بعدها في مكان واحد، بل استمر في السفر والترحال مع إعطاء بعض المحاضرات في الفيزياء والدين في دول العالم المختلفة. وكان كأغلب الألمان محافظا على لياقته في هذا السن، حتى أنه وفي عمر الخامسة والثمانين كان ما زال قادرا على تسلق جبال الألب.
ماكس المتدين
كان بلانك يتميز بتدينه الشديد وولائه الكامل للمسيحية البروتستانتية اللوثرية. وكرس للجانب الروحاني جزءا كبيرا جدا من نشاطه طوال حياته. ومن مقولاته في هذا الصدد:
وعلى الرغم من انتمائه لمذهبه، إلا أن بلانك كان يؤيد أي أفكار دينية تؤمن بوجود إله واحد، فكان غير متعصب وغير رافض لأي دين آخر، وقبل أن يموت بعدة أشهر سأله مهندس عن إشاعة تغييره للمذهب الذي يؤمن به، فقال:
نال ماكس بلانك جائزة نوبل في الفيزياء تقديرا للخدمات التي قدمها لعلم الفيزياء بكشفه عن مفهوم الكم، وذلك عام 1918، واستلمها فعليا عام 1919. وتعتبر معاهد بلانك للعلوم الآن من أقوى المعاهد وأكثرها عراقة. وتوفي بلانك عام 1947 عن عمر 89 عام، بسبب جلطات في المخ، مخلفا ورائه تاريخا خالدا حافلا بالإنجازات العلمية، وثورة كاملة غيرت مفهومنا عن كيفية عمل هذا الكون العظيم.