الموالد في مصر: رحلة البحث عن «البركة»
بهذه الطريقة تُقام الموالد، ومن خلال هذا النهج يحتال البعض فيُنشئون أضرحة وهمية يُحتفى بها سنويًّا، عبر ترديدهم لقصص وخرافات هم من صنعوها بأنفسهم عن كرامات لأشخاص غير حقيقيين أو عاديين صوروهم كأولياء، كي يقتاتوا من وراء تلك الموالد بجعلها مصدرًا للقمة العيش.
بيد أن الاحتفالات الدينية عرفتها مصر القديمة، فكانت تُقام المواكب الدينية تمجيدًا وتضرعًا للآلهة آنذاك، هكذا تخبرنا النقوش على جدران المعابد المصرية؛ كـعيد الإله «مين» وعيد زيارة الإله آمون لمعبد الأقصر الذي كان يُطلق عليه عيد «أوبت الكبير»، والذي كان يتخلل مراسمه موكب احتفالي كبير تُقدم في نهايته القرابين والذبائح.
وفي منتصف القرن الأول الميلادي، عندما دخلت المسيحية مصر اتخذت الاحتفالات الدينية شكلًا مختلفًا عُرف بأعياد القديسين، الذين يُقام لهم الصلوات مع ذكر سيرة حياتهم، وتُقدم النذور والشموع والذبائح لطلب الشفاعة من القديسين لهم عند الله.
وفي عام 642 ميلاديًّا، أُدخلت ثقافة الاحتفالات الدينية المجردة من تقديس الأشخاص في مصر، كالاحتفال بشهر رمضان وعيد الفطر والأضحى، ومع تولي الفاطميين حكم مصر أوجدوا ثقافة الاحتفالات الشعبية التي من بينها الاحتفال بأولياء الله الصالحين، وكانت تلك الأعياد تُقام آنذاك من باب الدعاية لحكام الدولة الفاطمية، وأخذت أعداد الموالد تزداد عامًا بعد عام. حتى باتت مصر في المرتبة الأولى من حيث الثراء البين في احتفالات الموالد الشعبية، التي يُحتفل فيها بمولد أو وفاة «وليٍّ» من الأولياء الصالحين، والغرض من تلك الاحتفالات تكريم صاحبها وليس البكاء عليه.
ووفقًا لما ذكرته الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية، فإن عدد الموالد الإسلامية والمسيحية يبلغ نحو 2850، ويحضرها نحو 40 مليون شخص. وتنتشر تلك الموالد في كل محافظات مصر بمختلف قراها ومراكزها من الدلتا إلى الصعيد. ومن أشهرها، موالد «الحسين والسيدة فاطمة والسيدة زينب والسيدة عائشة» في القاهرة، و«السيد إبراهيم الدسوقي» في مدينة دسوق الواقعة في محافظة كفر الشيخ – دلتا مصر، و«السيد أحمد البدوي» في محافظة الغربية – مدينة طنطا، و«عبد الرحيم القناوي» في قنا، و«أبو الحجاج الأقصري» بمدينة الأقصر في صعيد مصر، و«أبو العباس المرسي» و«سيدي جابر» في الإسكندرية.
فلسفة الموالد: بركة وكرامات
تنطلق الموالد من نقطة محورية، وهي تقديس لأشخاص يعتقدون امتلاكهم لكرامات ظلوا يتحلون بها حتى بعد وفاتهم، وأن تلك الكرامات قادرة على تحويل حياتهم من حال إلى حال آخر. فترتبط الموالد ارتباطًا وثيقًا بظاهرة «الشخص المقدس» الذي – في نظرهم – يمتلك معرفة قوية من نوع خاص بالله، كما يستطيع أن يقوم بالوساطة بين الناس والله وخاصة بعد وفاته.
وعلى المستوى الشعبي، يعتقد الكثير من الناس أن هناك مسافة كبيرة تفصلهم عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا بد من البحث عن وسيط وشفيع لهم عند الله، يطلب من الله لهم قضاء حوائجهم.
نشأ ذلك الفكر من الاعتقاد بأن ثمة علاقة وثيقة وحميمة بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والله تعالى، ذلك الاعتقاد هو جوهر ولب التصوف. وبدأ الناس بالقياس على إيمانهم هذا بعلاقة الأولياء بالله. فكلما كان الولي أقرب نسبًا إلى الرسول كان أقرب أيضًا إلى الله. ومن ثَمَّ تأسس الاعتقاد بوجود واسطة بين الله والناس.
قصص البركة والكرامات كثيرة، منها ما يروى عن الشيخ أحمد أبو زغلل، ولي من أولياء الله الصالحين ويُقام ضريحه في كفر إبراهيم العايدي – مركز بلبيس الشرقية، والذي يبدأ الاحتفال بمولده 2 أكتوبر/تشرين الأول ولمدة سبعة أيام. إذ يُقال إنهظهر للناس في القرية بعد وفاته في عام 1975، ليذكرهم بإطعام الكلاب التي أهملها الناس لغزارة الأمطار آنذاك، كما أنه ظهر لمريديه ليحثهم على عمل مولد له في عام 1987. ويقول الشيخ زاهر حفيد الشيخ أبو زغلل، وخليفته، إن الكرامات هي «الوقود الذي يقود عملنا، كثيرًا ما يشعر قلب المؤمن بإمكانية حدوث شيء لكن العقل يرفض ذلك، حينئذٍ تتدخل الكرامة لإثبات صحة ما أحس به القلب».
بيد أن معظم الكرامات لها صفة التخاطر، والتي تكون لدى الشيوخ كنوع من الحدس، لكن الناس يعظمون من شأنها ويطلقون عليها لفظ كرامات لإبرازها كأشياء خارقة للعادة. من أمثلة تلك الكرامات، كرامة للشيخ أحمد رضوان، إذ يحكى أنه:
عادات وطقوس ارتبطت بالموالد
يرتبط بالموالد الإسلامية عادات وطقوس غريبة جعلت للموالد المصرية طابعًا مميزًا ومختلفًا عما يتم في بعض الدول العربية، منها:
1. حلقات الذكر
يتجمع المريدون للشيخ الذي يقام من أجله المولد في مكان يتم الاتفاق عليه،ويشكلون دائرة أو عدة دوائر خلف بعضها ويتمركز فيها شيخ الطريقة أو قائد حلقات الذكر. وفي تلك الحلقات يظل المريدون يهزون أجسامهم في حركة نصف دائرية ويرددون كلمة «الله» في صورة جماعية، أو يرددون الذكر نفسه ويقفون في صفين متقابلين أو صفوف متراصة خلف بعضها البعض.
2. الأغاني الشعبية
في الموالد يتسابق المطربون الشعبيون أيهم يجذب العدد الأكبر من المستمعين، تبدأ الأغاني الشعبية في الغالب بالمديح النبوي وتركز على الامتياز الكامل للنبي محمد – عليه الصلاة والسلام – وتقديمه على سائر الأنبياء والرسل. لكنها على لا تقتصر على مدح الرسول فحسب، وإنما قد يختار المطرب الشعبي قصة من قصص القرآن الكريم ويتغنى بها، بعد أن يضيف إليها تفاصيل من عنده لجذب أسماع الحاضرين. كقصة سيدنا يوسف، فيصف المطرب حالة «زليحة» وعدم ذوقها لطعم الراحة من شدة شوقها ولوعتها.
أما إذا كان المولد لأحد الأولياء، فلا يكتفي المطرب بذكر هذا الولي فقط في أغانيه، بل يتناول بالذكر معظم الأولياء كي يضمن استمرار الناس في السماع واندماجهم معه؛ لأن تحيته لأحد الأولياء تعتبر تحية لأتباعه ومحبيه.
لا يقتصر الحاضرون على التصفيق أو التحية كعبارات «الله عليك، اشجينا» تشجيعًا للمطرب، بل تشتمل كذلك على الجانب المادي المتمثل في «النقوط». وغالبًا ما يستأجر كثير من هؤلاء المطربين فرقًا شعبية من الجيزة أو القاهرة أو بعض مدن الوجه البحري كدمنهور. وعادة ما يتم الاتفاق مع تلك الفرق، بمعرفة رجال الطرق الصوفية لإحياء ليالي المولد ولإدخال السرور على أتباعهم وعلى الحاضرين، فيتم الإعلان عن حضور هؤلاء المطربين منذ الصباح وقبل حضورهم لإحياء الليالي الختامية للمولد عبر مكبرات الصوت.
3. الوفاء بالنذور
مثل شعبي مصري
انتشرت النذور مع انتشار الأضرحة والمعتقدات الدينية، فباتت ظاهرة اجتماعية والموالد هي المناسبة للوفاء بتلك النذور. بيد أن النذور لا تقتصر على النقود فحسب، بل قد تكون في شكل أطعمة توزع على الفقراء والمحتاجين وعلى الحاضرين في المولد حتى ولو لم يكونوا بحاجة إليها، أو أن تقدم إلى الولي شموع لتضاء في مناسبة المولد، أو آيات قرآنية تقدم في أطر خشبية مذهبة أو مفروشات لمسجد ومقام الولي أو سجاجيد. علاوة على الأضحيات التي تذبح ويعد منها الطعام، والتي تساعد وفقًا لمعتقداتهم على توثيق العلاقة بين الأولياء والمترددين والتوحيد بينهم.
4. الألعاب الشعبية
تتطور الألعاب الشعبية في الموالد ببطء شديد، إذ تُعلم وتُلقن من جيل إلى آخر أو من جماعة إلى أخرى، معتمدة على أنشطة بسيطة وأدوات قليلة كلعبة «الشد والسحب» باستخدام الحبال، والصيد والجري والقفز والمسك والاختفاء وألعاب التوازن، والألعاب النارية وألعاب الحظ والمراجيح وألعاب الأطفال وفقرات الساحر. كما تنتشر في الموالد أيضًا ألعاب التحطيب التي غالبًا ما يصاحبها موسيقى المزمار البلدي والتي يشارك فيها بعض الحاضرين إما بالمشاهدة والاستمتاع أو الممارسة الفعلية للعبة. ولتحية أحد المشتركين، يدفع الحاضرون النقوط لفرقة المزمار أو أن ممارس اللعبة نفسها يدفعها كي تؤدي الفرقة بعض الألحان الخاصة التي يرغب في سماعها أثناء اللعب. وتنتشر لعبة التحطيب تلك في أغلب الموالد في الوجه القبلي. وتتميز موالد الوجه القبلي كذلك بألعاب الخيل ورقصه والتي تعد تعبيرًا عن الفرحة بالمولد. كما تقام مباريات السباق بين المشاركين بخيولهم على أنغام المزمار البلدي.
5. عملية الختان
تتم عملية الختان في الموالد للأطفال من عمر أربعين يوم إلى عشر سنوات، وتنتشر تلك الممارسات في الأكشاك الخاصة بالحلاقين الذين يمارسون هذه العملية أمام المترددين على الموالد وسط دعواتهم بشفاء الأطفال الذين يجرى لهم العملية وتهنئتهم لأسرهم بعد إتمامها «على خير»، وقد يتبارى كل حلاق بسرعة إتمامه لهذه العملية ودقته المتناهية فيها، لكن سرعته تلك قد ينتج عنها ما لا يحمد عقباه من مضاعفات ومشاكل خطيرة تصيب الأطفال وتهدد حياتهم. بيد أن هذه العملية الجراحية تتم إما بدافع ديني أو بسبب المعتقدات أو قيم يعتنقها المجتمع، إلا أنها تمارس في الموالد نظرًا للاعتقاد في هذه المناسبة وأن الجراحة التي تتم فيها سيكتب لها النجاح بفضل بركة الولي صاحب المولد، وقد يفضل بعض القرويين إجراءها لأطفالهم بعيدًا عن بيوتهم في القرية خشية الحسد.[2]
6. مواكب الاحتفال
يصاحب بعض الموالد مواكب احتفالية تخرج من مختلف المحافظات، كمولد السيد البدوي الذي يتميز بـــخروج المواكب الكبيرة المكونة من مئات المواطنين من محبي الطرق الصوفية، والتي تسير إلى المولد من مختلف المحافظات، باستخدام الجمال وعربات تجرها الخيول، أو السير على الأقدام نحو طنطا، في رحلة قد تستمر أيامًا. ويظل المشاركون خلالها يرددون هتافات عديدة، كــ «الله أكبر، وصلى الله عليه وسلم»، علاوة على عبارات المديح لشخص السيد البدوي، مثل: «بتحبوا مين يا بدوي، والله الله بدوي جاب الأسرى».
7. الحلوى وعروسة المولد
تمثل الحلوى المصرية المظهر الأساسي في الاحتفال بالمولد النبوي خاصة، وموالد بعض الأولياء، تلك الحلوى هي عبارة عن السمسمية والفولية والحمصية والجوزية والبسيمة والملبن المحشو بالمكسرات، علاوة على عروسة المولد الشهيرة والحصان. هو مظهر احتفالي بامتياز تلجأ إليه أغلب الأسر المصرية الفقير منها والغني ويمثل الاستمرار فيها حفاظًا على أحد أهم الموروثات الاجتماعية رسوخًا في وجدان الشعب المصري. وترجع عروسة المولد في أصلها التاريخي إلى موكب الحاكم بأمر الله الفاطمي عندما كان يجوب القاهرة برفقة زوجته التي كانت ترتدي رداءً أبيض وعلى رأسها تاج من الياسمين، فأُعجب بها صناع الحلوى الذي صنعوا لها هي وزوجها الحاكم تماثيل قابلة للأكل من السكر على شكل عروسة.
- نيكولاس بيخمان، الموالد والتصوف في مصر، ترجمة وتقديم، رؤوف مسعد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2009، ص87
- فاروق أحمد، الموالد:دراسة في العادات والتقاليد الشعبية في مصر، جامعة الأسكندرية، كلية الآداب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص ص153-180