مولانا جلال الدين الرومي والمغول
أشرتُ في مقالي السابق إلى فكرة التحيّز والانتقائية التي يُصاب بها الجميع في حديثهم عن شخصيات تُقدّس نسبيًا من قِبل محبّيهم أو من يعتنقون أفكارهم، هذا الجمهور الكثير الذي يصعب حصره أو متابعته يشتركُ في أمر هام؛ وهو التشجيع والمتابعة دون الالتفات إلى الحقائق حتى وإن مرّت أمامه، وفي أوقات كثيرة يعطي ظهره لما يقدّم إليه [1]، حتى وإن كان ما يُقدّم إليه من شخص ليس متحيزًا إلى فئة تخاصمه وتزهد في مقولاته. فقد اعتدنا في تراثنا الثقافي أن نوجّه التاريخ تبعًا لما نؤمن به عقديًّا، فالشيعي لا يقبل بالرواية السنية، والسلفي لا يقبل بالرواية الأشعرية؛ مما يجعل الحديث عن رواية تتصف بالإجماع في أيّ من مستوياته أمرًا مستحيلًا [2].
خصص الكاتب عدة مؤلفات تدين الرومي والطريقة التي نُسبت إليه (المولوية):
– «المهول من نبأ من خدم المغول».
– «المنتخب من مناقب العارفين للأفلاكي في أخبار جلال الدين الرومي».
-«اللباب المعنوي في انتخاب المثنوي»، «الهابط الغوي من معاني المثنوي».
– «البراهين المعنوية الأولية على فسوق المولوية الدنيوية».
– «أخبار جلال الدين الرومي».
بالإضافة إلى رحلة الإمام بدر الدين العيني إلى قونية، وغير ذلك من الرسائل التي انتخب فيها أقوالاً وجمعها لتدعم فكرته في إدانة التصوف.
لسنا بصدد تحليل ودراسة هذه المؤلفات وما ورد فيها من آراء مغلوطة، إذ تحتاج هذه المواد إلى مجموعة من المقالات أو تخصيص بحث موسّع لها، لكننا سنتناول مروية تتعلق بموقف الرومي من المغول، لنرى إن كان ما يقوله الكاتب حقًّا أم أنه انتقى من الروايات ما يخدم فكرته وترك الكثير مما ينزه الرومي عما قاله.
يروي محمد عبد الله أحمد (أبو الفضل القونوي)[3] في كتابه (أخبار جلال الدين) عن الرومي ما يجعل منه (موافقًا على كفر جنكيز خان وما يقرّبه من الخيانة والعمالة للمغول، وهي التهمة التي يلصقها السلفيون دومًا بأهل التصوف عامة مع اختلاف العصور). ويخلط الكاتب بين ما يقوله جلال الدين بما يُقال عنه في السير بشكل أسطوري، ففي الفصل المعنون بـ(المغول وأهل الفتوة في الأناضول وعلاقة الجلال الرومي بهما) (ص 72-104)، لن يعثر القارئ إلا على إحالة واحدة على نصّ للرومي ورد في كتابه النثري (فيه ما فيه)، عاد الكاتب فيه إلى الترجمة التركية، وسنقف عند هذا الكتاب لننقل للقارئ ما لم يشر إليه الكاتب لتثبيت فكرته عن الرومي وإظهاره في صورة الخائن لأمة الإسلام! كما اعتاد مخاصمو الصوفية أن يفعلوا ذلك، متغافلين عما يُقال في الفقه ويؤكده التاريخ من تبني الفقهاء والعلماء من غير الصوفية لمبدأ (نحن مع من غلب)، (لا أقاتل في الفتنة، وأصلي وراء من غلب)، وهو ما تأثر به التيار السلفي حتى يومنا هذا، وقطاع كبير منه ينتصر للحاكم المتغلب بناءً على هذه الفكرة.
لننتقل لما يقوله مولانا جلال الدين الرومي بنفسه عن المغول، لا ما ترويه السير.
- يستحضر مولانا جلال الدين قصة نبوية في الفصل الأول من فيه ما فيه [كلّ شيءٍ من أجل الحق]، فيذكر في أسلوب قصصي بديع سبب نزول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[4] في تعقيبه على شرحه لقول مأثور (شرّ العلماء من زار الأمراء، وخير الأمراء من زار العلماء، نِعم الأميرُ على باب الفقيرِ، وبئس الفقيرُ على باب الأمير)[5]، وموجّهًا كلامه لمعين الدين سليمان بن مهذّب الشهير بـ(بروانه)[6] موبّخًا إياه قائلاً: ” إنك في أول الأمر برزت بطلاً للإسلام. إذ قلت: سأقدم نفسي فداءً، سأضحي بعقلي وتدبيري ورأيي من أجل بقاء الإسلام، وكثرة أهل الإسلام لكي يستمر الإسلام آمنًا وقويًا. ولكن عندما اعتمدت على رأيك ولم ترَ الحق، ولم تنظر إلى كل شيء على أنه من الحق، جعل الحق تعالى ذلك السبب والسعي نفسه سببًا لنقص الإسلام، فقد حالفت التتار، وقدمت لهم العون، لتفنيَ الشاميين والمصريين، وتخربَ دولة الإسلام؛ ولذلك فإن الله سبحانه جعل ذلك الذي كان سببًا لبقاء الإسلام سببًا لاضمحلاله. وفي هذه الحال، توجه إلى الله عزَّ وجلّ الذي هو محل الخوف، وتصدق لعل الله يخلصك من حال الخوف السيئة هذه، ولا تقطع الرجاء منه، برُغم أنه ألقاك من مثل تلك الطاعة في مثل هذه المعصية. رأيت أن تلك الطاعة آتية منكَ، فوقعت في هذه المعصية. والآن وأنت في هذه المعصية أيضًا لا تقطع الرجاء وتضرّع؛ فإنه تعالى قادرٌ، فقد أظهر من تلك الطاعة معصية، وهو قادرٌ على أن يُظهر من هذه المعصية طاعة، وهو قادرٌ على أن يعطيك الندامة على هذا الذي قدّمت، ويهيئ لك الأسباب لكي تسعى من جديد لكثرة المسلمين، وتكون قوّة للمسلمين، فلا تقطع الرجاء!. كان غرضي أن يفهم هذا، فيتصدق، ويتضرع. فقد انحدر من حال غاية في السمو إلى حال من الضعة [7].
ألا ترى في هذا النص توبيخ مولانا لمعين الدين بروانه واعتباره مخرّبًا لدولة الإسلام، لمحالفته للتتار واعتماده على تفكيره وتدبيره. ألا ترى مطالبة مولانا له بأن يتوب إلى الله اعتمادًا على قوله تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)[8]، عسى أن يجدّ في العمل على تقوية دولة الإسلام، ويصلح ما أخطأ فيه.
- في الفصل الخامس [عرائس الأسرار: ص 108-111] وهو الفصل الذي اجتزأَ منه الكاتب ما أدان به مولانا، “يسأل أحدهم مولانا: يأخذ المغول الأموال، وبين الفينة والأخرى يعطوننا الأموال أيضًا. وهذا وضعٌ عجيب. ما حكمك على ذلك؟” فيجيبه مولانا ويبيّن له بمثال توضيحي كعادته، ويختم كلامه قائلا: “وهكذا فإن مالنا حرامٌ عليهم، ومالهم حلالٌ لنا” [ليدقق من يرجو التحقيق في هذه الجملة]. في مثاله يشرح مولانا عمل الحق سبحانه وتعالى. وإذا كان الكاتب السلفي قد استبعد الرواية السابقة التي يظهر فيها الرومي موبّخًا الأمير لمحالفته للمغول؛ لأنها لا تخدم اعتقاده، وما أراد أن يوجّه القارئ إليه ليدين التصوف، فإن تعامله مع هذه المروية أيضًا جاء على نحو انتقائي، فانتخب منها ما أراد وترك ما يوضح رؤية الرومي للمغول.
لنقرأ النصّ معًا:
«قال أحدهم: عندما جاء المغول لأول مرّة إلى هذه الولايات كانوا عراة ومجرّدين، كان مركوبهم الثيران وأسلحتهم من الخشب. أما في هذا الزمان فهم محتشمون وشبِعون، ولديهم خيول عربية مُطهّمة وأسلحة جيّدة.
قال مولانا: في ذلك الوقت، عندما كانوا منكسري القلوب وضعفاء ولا قوة لديهم أعانهم الله وأجاب دعاءهم. أما في ذلك الزمان الذي غدوا فيه محتشمين وأقوياء فإن الحق تعالى يهلكهم بأضعف الخَلق؛ لكي يعرفوا أنهم بعناية الحق ومدد الحق استولوا على العالم وليس بقوتهم وقدرتهم. في موطنهم الأول كانوا في صحراء، بعيدين عن الناس، لاحول لهم ولا قوة، مساكين، عراة، فقراء. من دون قصد، جاء بعض منهم تجارًا إلى ولاية خوارزمشاه وبدأوا بالشراء والبيع، وكانوا يشترون الكرباس [ثوبٌ من القطن الأبيض] ليغطوا أجسادهم. وقد منعهم الخوارزمشاه، وأمر بأن يُقتل تجارهم، وأن يُؤخذ منهم الخراج أيضًا، ولم يأذن للتجار بأن يذهبوا إلى هناك. مضى التتار إلى مليكهم متضرعين، قائلين: “لقد هلكنا”. طلب منهم ملكهم أن يمهلوه عشرة أيام، ودخل في كهف عميق؛ وهناك صام عشرة أيام. وأظهر الخضوع والخشوع، فجاء نداء من الحق تعالى: «قبلت ضراعتك وتوسلك. اخرج: أينما ذهبت فستكون منصورًا”. وهكذا كان. عندما خرجوا انتصروا بأمر الحقّ واستولوا على العالم.
وهذه هي الفقرة التي استبعدها الكاتب:
قال أحدهم: التتارُ يقرّون بالحشر، ويقولون بأنه سيكون هناك حسابٌ. قال مولانا: يكـذبون، هم يريدون أن يجعلوا أنفسهم مشاركين للمسلمين [….] هذه المعاصي والمظالم والسيئات التي اقترفوها كالثلج والجليد تجمّعت طبقاتٍ فوق طبقات. وعندما تأتي شمس الإنابة والندم وأخبارُ الآخرية وخشية الله ستذيب ثلوج المعاصي تلك كلها مثلما تذيب الشمس التلج والجليد.
علم الكاتب التركي بالنصوص السابقة وعدم استشهاده بها في حديث الرومي والمغول، يظهر تعمده لإخفاء رأي الرومي في المغول وتوبيخه لمن يتعامل معهم من الأمراء. وعدم استشهاده بالفقرة الأخيرة التي يكذّب فيها الرومي التتار ويصف أفعالهم بـ(المعاصي والمظالم والسيئات) يجعل ما قاله في ص 104 من كتابه “أخبار جلال الدين” غير صحيح: (فها أنت ترى الجلال ينسب إلى الكافر جنكيز خان الوحي أو ما هو في معنى الوحي، والصيام والتضرع ولا يذكر شيئًا عن كفره ومظالمه).
ما مدى تأثير هذه الرواية السلفية وتلقيها من قبل الجمهور دون اختبار لصحتها؟.
نقرأ لروائي شاب يدعى محمد عبد القهار عن اهتمامه بالتاريخ، ويظهر ذلك من خلال عمله الأدبي (سراي نامه: الغازي والدرويش)، وروايته (غارب) التي شكر بعد صدورها مجموعة من الأساتذة على معاونته في العودة إلى مصادر تاريخية كثيرة. لكن، نلاحظ أنه استشهد في إحدى مقالاته (دين الملحمة) بما أورده الكاتب السلفي مقتبسًا إحدى مروياته في صورتها المنتخبة، محيلًا على النسخة العربية من كتاب فيه ما فيه؛ مما يعني إمكانية مطالعته للنصوص السابقة وتعرفه عليها بسهولة. ومن العجيب أن يحث هذا الشاب من خلال مقال كتبه بعنوان (هل نقرأ التاريخ؟) بعد صدور الرواية، على قراءة التاريخ دون الاعتماد على الوعظ أو الوقوع في حيز الإسقاط والتنبؤات، ويقع فيما أنكره على غيره!.
يبقى سبيل التعرف على الرومي عند معظم التيار السلفي منحصرًا فيما يردده الكاتب السعودي، وخير دليل على ذلك ما جاء في رواية الغازي والدرويش: (وهؤلاء الراقصون لا يزالون يُلهون الناس منذ زمن شيخهم الأكبر الرومي الذي رقص والمغول يخربون الأناضول ورقص الناس معه ليهربوا من ألم الفواجع، وجلس البراوناه صنيعة المغول الذي حكم الأناضول باسمهم في مجلس الرومي يحاوره في الزهد والفناء). يحتفي الشباب بهذه الفقرة، ويشتركون في ترديدها دون التحقق من صحتها.
انتقلت المعلومة من السعودية إلى مصر، ولا تزال تنتشر كالنار في الهشيم كباقي المقولات التي تحمل وراءها ضغائن للرومي، ويستوي حامل المعلومة مع الجمهور في التلقي دون فحص أو اختبار، وكما ساهمت الكتابة المتحيزة في نشر صورة خاطئة للرومي، ساهمت الكتابة الأدبية كذلك كما رأينا في المثال السابق.
كان هذا مثالًا على نموذج مع التعامل مع مروية تاريخية واحدة تم اقتطاعها من سياقها لاتهام الرومي من خلالها، والبقية تأتي.
[1] : سنلاحظ ذلك بوضوح في مشاركة هذا الجمهور لمعلومة والإشادة بها اعتمادًا على ثقتهم بشخص كاتبها كونه يمثّل تيارهم، فالصوفي (نسبة من حيث الصورة) يحتفي بمقولات وينقلها دون العودة إلى المصدر ودون التأكد من صدورها عن الشخص المنسوبة إليه تلك المقولة، وكذلك يفعل السلفي، و(المثقف الشعبي) حتى وإن أنبأت العبارة عن حداثتها وركاكة أسلوبها أن تنتسب إلى محبّ أو عالم تراثي. مراجعة سريعة لما ينتشر من صور تسجّل مقولات عربية تنسب إلى شعراء أو متصوفة أو فلاسفة تؤكد ما نقول، وقد استثمر البعض هذه العشوائية ووظفها بشكل (كوميدي) فنُسبت مقولات من باب المزاح والفكاهة إلى شخصيات يستحيل صدور الكلمة عنها، كأن يقول البابا في روما (فداك أبي وأمي يا رسول الله).
[2] : سيفيد في هذا السياق أن نراجع ما كتبه حسن سلهب في كتابه (علم الكلام والتأريخ، إشكالية العقيدة في الكتابة التاريخية الإسلامية) نشرة مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت 2011.
[3] : وُلد محمد عبد الله أحمد في مدينة قونيه عام 1966م / 1386هـ، وأتم تعليمه في المملكة العربية السعودية، ولا يزال يقيم فيها، وتلقى كتبه رواجًا في محيط المملكة، وبفضل انتشار الدور التي توزّع كتب التيّار السلفي، لقيت كتبه رواجًا في مصر وبيروت وغيرها من البلدان العربية، يختار محمد لكتبه عناوين تقترب من اللغة التراثية، لذا ظنّ البعض أنه مؤلف قديم، وبعض الجمهور الذي يحب الرومي اليوم التقط كتابه عبر الإنترنت لكنه سرعان ما زهد فيه نظرًا للغته الصادمة للقارئ، ومن المفارقة أن الشيخ محمد في حوار له مع بعض الشباب نصحهم باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة التي يتحلى بها الصوفية في حديثهم مع الآخرين، وقد استبدل هو في كتابته لفظة العاشق والمعشوق بـ(الناكح والمنكوح) بما تحمله من دلالة مسيئة، وهو من إشكالات التعاطي مع نصوص الآخرين، فعدم الوعي باللغة يؤدي إلى هذا الخلل في فهم مراد الآخر، والكلمات التي أدانها الشيخ السلفي ترد في أشعار (الشيخ عبد القادر الجيلاني، والهروي الأنصاري) لكنه لا يهتم إلا بتحقيق غايته فحسب.
[4] : سورة الأنفال: الآية 70.
[5] : أورد مثل هذا القول منسوبًا إلى حضرة النبي الإمام جلال الدين السيوطي في (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين).
[6] : برغم إعجاب بروانه بالرومي وحرصه على نيل صداقته، فإن هذا الإعجاب لم يحل دون توجيه مولانا سهام نقده إليه في كثير من المناسبات، ومنها السلوك غير المتسم بالاحترام، شأن معظم الحكام ممن أعمت كراسي الحكم بصائرهم. فمثلاً بينما كان مولانا يشترك يومًا في حلقة السماع، تبيّن إخلال بروانه بنظام الحلقة، فقال له مولانا: لقد سمعتُ عن طلبك العلم، وسماعك حديث رسول الله عند الشيخ صدر الدين، فقال بروانه: نعم. عندئذ أجابه: إذا كانت كلمة الله وأحاديث رسول الله لا تجدي معك، فما العمل؟!.
وفي الفصل العاشر من كتاب فيه ما فيه ص 74 يضجر معين الدين بروانه من عدم لقاء الرومي به ويروي بروانه أن والد الرومي لم يكن يحبّ لقاءه أيضًا، وكان يتعلل بالانشغال قائلاً: (لا أرغب في أن يأتي الأمير في حالة لا أستطيع أن أكون فيها لطيفًا معه وليس لديّ الفراغ لأن أعظه وأتجاذب أطراف الحديث معه).
[7] : فيه ما فيه، لمولانا جلال الدين الرومي، ترجمة الأستاذ العاكوب، ص 32.
[8] : سورة يوسف: الآية 87.