مولانا جلال الدين الرُّومي والسيرة الأسطورية (3-4)
فروزانفر والأفلاكي
ثَمَّة تعامل مختلف مع مروِيَّات «الأفلاكي»، يُلاحظه من يطالع سيرة «جلال الدين الرومي» التي كتبها «فروزانفر»، فإلى جوار مصادره الكثيرة عن الرومي نجد حضوراً لمرويات الأفلاكي من بداية السيرة إلى منتهاها، فيَذكُر في مقدمة كتابه أنه أدرج أكثر مطالب هذا الكتاب في تضاعيف السِّيرة، حتى أنَّ القراء بعد مطالعة كتاب فروزانفر ليسوا بحاجة إلى قراءة المناقِب، ويقول: «وحيثما لزَم الانتقادُ لم أُحْجِمْ عنه»[1].
ومن نماذج تعامله مع مرويات «الأفلاكي» مناقشته للخصومة التي حدثت بين «الفخر الرازي» وبين «بهاء ولد سلطان العلماء»، فأغلب الكُتَّاب يؤكدون ذلك اعتمادًا على نقد بهاء ولد لطريقة الفخر الرازي المفسِّر، ومن المعروف أن الصُّوفية يعيبون طريقة الحُكماء والفلاسفة ببيان شديد الوضوح، ويعُدُّونهم منحرفين عن جادة الصَّواب، لإعلائهم من شأن العقل على الروحانيات، ومن كلام مولانا «جلال الدين الرومي» في هذا الشأن: «إن قدم الاستدلاليين من الخشب، والقدمُ الخشبية لا تمكين لها البتة». ومنه أيضًا: »ذو العقل يهرب من النَّملة الميِّتة حذرًا، وذو الحُبِّ يدوس على التِّنين ولا يَعْبأ». وفي المثنوي يرِد مشهدًا لمجادلة عائلية يكون فيها العقل هو الأب، وتكون فيها النفس الروح الدنيا، هي الأم. فالأم تريد أن تدلل طفلها الإنسان بإبقائه في البيت قريبًا من صدرها، لتجنبه كل أنواع المشاق في الحياة. أما العقل الأب فيعظُها بأن ترسل الصبي إلى المدرسة من أجل إعداده لحياة شريفة. ويمثِّل هذا المشهد الطريقة التي يتحدث بها معظم المتصوِّفين عن العلاقة بين العقل والنفس، الملكات الطبيعية الدنيا [2].
لم تكن هذه الإشارات بصارِفة لفروزانفر من أن يتحقق من صدق رواية الأفلاكي أن الفخر الرَّازي كان سببًا في هجرة والد مولانا من بلخ، فتعقّب روايات الأفلاكي عن الهجرة ورأى أن أغلبها متعارض إلى حدِّ أنه لا يمكن الجمع بين المرويَّات، وعقَّب على ذلك قائلاً: «والظاهر أن الأفلاكي من أجل إثبات كرامة أسرة مولانا، وجَعلِها في غاية القرب في المقام الإلهي، بل في نهاية الاقتدار والاستطاعة في عالم الكون والفساد والتصرف في الحوادث والأكوان، جمع هذه الروايات من دون مراعاة الترتيب التاريخي، وقد كتب الآخرون أيضًا في كتبهم مقلِّدين إياه. وبوجود روايات السابقين التي أيَّدتها القرائنُ التاريخية قدر المستطاع، أرى أن السبب الرئيس لهجرة بهاء ولد من بلخ إنما كان الخوف من سفك الدِّماء والقسوة لدى جيش التتار»[3].
ويدعم فروزانفر رأيه بالاستناد إلى مصدر أكثر وثوقية في الحديث عن الرومي وأسرته، وهو سلطان ولد في مثنوي ولد نامه، إذ يجعل هجرة جدِّه على أثر إيذاء أهل بلخ له ومصاحبةً في الوقت لحمْلَة المغول، ولا يذكر الفخر الرازي والخوارزمشاه.
لا يتوانى فروزانفر عن نقد مرويات الأفلاكي كلَّما وجدها غير مطابقة للأحداث التَّاريخية، ومخالفة لما يرِد في المراجع التي يؤرِّخ لها المعاصرون للحدث، فنراه يعقِّب مرةً أخرى في حادثة هجرة عائلة الرومي على الأفلاكي قائلاً: «وغيرُ معلومٍ من أي مصدرٍ جمع الأفلاكي هذه الروايات، وعلى أي أساس جاء بها مخالفة لرواة شيخه ومرشده، على الرغم من أن مثنوي ولد كان في حوزته، وكان هو نفسه ملازمًا لسلطان ولد وتلميذًا له»[4].
وتتكرر عبارات من مثل: «أخطأ الأفلاكي في أمر …»[5]، وكذلك « رواية الأفلاكي محلّ إشكال»[6]، «ولا بد أن الأفلاكي يتصرف في كلامه بطريقة أخرى لكي لا يتناقض أول الرواية مع آخرها»[7]، وعبارات أخرى توضِّح اختلاق الأفلاكي بعض المرويات من باب نشر الطريقة، من مثل: «يكون الأفلاكي قد أورد ذلك من عنده»[8]، «ذلك أن الأفلاكي في أغلب هذه الأمور يسوق كلامًا خارجًا عن دائرة التحقيق، وهدفه في كتابه الترويج لطريقة المولويين وعقيدتهم»[9].
يتعامل فروزانفر على هذا النحو من التثبُّت مع مروياَّت الأفلاكي بعد عرضِها على المصادر التَّاريخية، فإذا كان هناك ما يدعمها اعتمدها واستفاد منها لكتابة سيرة الرومي، وإن بدت مشكلة ناقشها، وإن كان هناك ما يُعَضِّدُها من كلام الرومي نفسه تتأكد صحتها، ومن ذلك ما يسرِده فروزانفر في الفصل الثامن عن «صورة مولانا وسيرته»، فكما تُطْلعنا رسائله المترجمة والمنشورة [10] نعرف أنَّ الرُّومي كان محطُّ أنظار ملوك الروم وأُمرائهم، وكانت هذه الطبقة تتوق إلى لقائه، وكان يجالس على الأكثر الفقراء والمحتاجين ويسعى دومًا لخدمتهم وتلبية احتياجاتهم، يفعل هذا الرومي في وقتٍ كان يوصِد بابه مرارًا كثيرة أمام الملوك. يتحدث فروزانفر عن أخلاق مولانا الرومي في المعاملات ويستأنِس بمروِيَّة للأفلاكي تدعم رفضِه للأمراء، ويعقِّب عليها قائلاً : وهذا الكلام تؤيِّده الإشارات الموجودة في «كتاب فيه ما فيه»[11]. وحينما نراجع كتاب فيه ما فيه النثري لمولانا نعثر على ما يؤيد كلام فروزانفر، فالفصل الثالث من الكتاب والذي يبدأ بالقول المأثور «شرُّ العلماء من زار الأمراء، وخيرُ الأمراء من زار العلماء، نِعْمَ الأميرُ على باب الفقيرِ، وبِئس الفقيرُ على باب الأمير» يشرح فيه مولانا لماذا لم يكن حريصًا على صُحبة الملوك وزيارتهم، وفي الفصل السابع نشاهد صورة من ضَجر «معين الدين بروانه» من عدم لقاء الرومي به ويروي «بروانه» أن والد الرومي لم يكن يحبُّ لقاءه أيضًا، وكان يتعلَّل بالانشغال قائلاً: «لا أرغب في أن يأتي الأمير في حالة لا أستطيع أن أكون فيها لطيفًا معه وليس لديَّ الفراغ لأن أعظه وأتجاذب أطراف الحديث معه»[12].
لم يمنع تبنِّي فروزانفر لخطاب الرومي ومحبَّته له أن يدقِّق في المرويات ويستند إلى القرائن والبراهين التي تساعده في كتابة سيرة أقرب لما كان عليه قدر استطاعته، ولم تجعله محبَّته يُكرِّر فعل الأفلاكي الذي بالغ كثيرًا في رسم صورة خيالية للرومي.
لعل المُتَلقِّي المُخَاصِم للرومي لا يَقنَع بمثال المحبِّ الكاتب عن الرومي، لذا سنختم هذه المقالات بذكر مثال للتعامل مع مادة الأفلاكي من وجهة نظر تاريخية وحضارية، أُجِيزت الباحثة التي كتبته على دراستها ومنحت درجة الدكتوراه في المملكة العربية السَّعودية التي يصدر منها الشيخ القونوي كتاباته المعلنة الخصومة للتصوف بعامة والرومي بخاصة، والباحثة على الرغم من تبنِّيها المقولات الاعتقادية «السلفية» إلا أن القارئ لأُطروحتها سيدرك إلى أي مدى تحيُّز القونوي ولم يتناول السِّيرة المولوية بشكل علمي.
الهوامش
[1] : راجع فروزانفر، مرجع سابق، ص 29.[2] : راجع أنا ماري شيمل، العقل والتجربة العرفانية عند أهل التصوف، ضمن كتاب المناهج والأعراف العقلانية في الإسلام، تحقيق فرهاد دفتري، نشرة الساقي بيروت، 2004، ص 200، 201.[3] : راجع فروزانفر، مرجع سابق، ص 45.[4] : السابق نفسه، ص 48.[5] : قارن السابق نفسه: ص 51، 53.[6] : راجع ص: 207، 212.[7] راجع ص: 209.[8] السابق نفسه، والصفحة نفسها.[9] : راجع ص 198.[10] : ترجم رسائل مولانا جلال الدين الرومي الأستاذ عيسى علي العاكوب؛ معتمدًا على نشرة توفيق هـ. سبحاني. ونشرتها دار الفكر، دمشق 2008.[11] : راجع فروزانفر، مرجع سابق، ص225.[12] : راجع فيه ما فيه، لمولانا جلال الدين الرومي، ترجمة الأستاذ العاكوب، ص 32.