مولانا جلال الدين الرومي والسيرة الأسطورية (2-4)
تُنسبُ السِّيَرُ الصُّوفيةُ أعمالاً وكرامات لا يمكن قَبولَها من قِبَل كثيرين وبخاصةٍ خصوم التَّصوف، وتتمُّ إدانة المتصوِّفين بُناءً على هذه المَرْوِيَّات، اللاَّفت للنظر أنَّ التلقِّي السَّلفي لمولانا وسيِرة حياته لا يَذكر شيئاً من هذه الخَوَارِق، بل يحاول طيلة الوقت أن يُظهر مِصداقيَّة المصدر الأسطوري؛ ليؤكد لجمهوره ما وصل إليه من استنتاجات تجعل حكمه محلَّ رضاً وقبولٍ تامٍ، وإذا ذُكِر أمراً خارقاً فإنه يتغافَل عن عدم إمكانية تحقُّقِه واقعاً وأسطوريَّته وينشغل بما يَمَس الُمعتقَد فيه!
ومن ذلك ما فعله «أبو الفضل القونوي»[1] في كتابه «أخبار جلال الدين الرومي»، إذ اعتمد الأفلاكي مصدراً رئيساً[2] لكتابة سيرة مولانا برؤية مُخاصَمَة، وسأُورد هنا نماذج لتعامله مع المروِيَّات تَبعاً للاعتقاد ومحاكمةً لها دون النَّظرِ إلى تحقُّقِ وقوعها:
1-يَنقِل أبو الفضل في ص 130 عن «الأفلاكي» مروية تتحدث عن «شمس تبريزي» وهو في بغداد، وللتنويه لا نعرف الكثير عن شمس فبرغم آلاف الصَّفحات التي كُتبت عن الرُّومي لم يُكتب عن شمس في كُتُب التَّاريخ أو الطَّبقات سوى النَّزْر اليسير الذي يجعل سبيل التعرِّف على شخصيته أمرًا خاضعًا للظنِّ والتَّخمين، اللهم إلاَّ إذا قرأنا كتابه «المقالات» الذي اكتُشِف حديثًا، وحاولنا أن نلتقط منه أخباره كما يرويها بنفسه.
يقول الأفلاكي [3]: «بينما كان «الشمس» يمرُّ في بغداد بباب أحد القصور، إذا بصوت عَزْف يَطرُقُ مسامعه، فأراغ أن يستمع إليه شيئًا، فدخل القصر، فأشار سيد القصر الغافل عن سرِّ هذه النَّشوة إلى عبدِه أنْ اضرب هذا الدَّرويش ليذهب. فاستلَّ العبدُ سيفه وهجم عليه، لكن الفالج سرعان ما نزل بيده، فأمر عبده الآخر فجَمُدَت يده في الهواء، وخرج «الشمسُ» من القصرِ وأخذ الطَّريق فلم يلحق به أحدٌ. وفي اليوم التالي رحل سيد القصر إلى الدَّارِ الآخرة»!
لم يلتفت «أبو الفضل» إلى إصابة شخص بالفالج وتوقُّف يده عن الحركة بشكلٍ آليِّ، والآخر كذلك! إن هذا لو حدث بالفعل لجعل من كانوا يوَدُّون إيذاء «شمس تبريزي» يؤمنون به كما نقرأ في السِّيَر والتَّاريخ عن أمثال ذلك!
لكن «القونوي» علَّق على الرِّواية مثْبتًا إياها قائلاً: «هذا مُتطفلٌ يدخل البيوت بغير إذن أصحابها، وهو اعتداءٌ، فما قوبل به الشمس لا يُلام صاحب القصر عليه لأنه يدفع بذلك عن عِرْضِه. وتأمَّل قوله «فلم يلحق به أحدٌ» فإني أخَال أنَّه هرب بسرعة كبيرة، هروب الجُناة المعتدين المتطفِّلين»[4].
2-قَبِل «القونوي» مروية الأفلاكي التي تتحدث عن لقاء «شمس« «بالرومي» وسفَّه من حوار دار بينهما كان الحوار مجال الحديث فيه عن عظمة حضرة النَّبي والإنكار على «بايزيد البسطامي»[5]، لكن «القونوي» تعمَّد ألاَّ يَذْكُر شيئًا من ذلك، وركَّز اهتمامه على المقطع الأخير في رواية الأفلاكي: « وأُغلِق عليهِما باب حجرةٍ فيها، وحُرِّم على أهل الدَّار أن يدخلها منهم أحداً، إلاَّ «صلاح الدين زركوب»، وبقيا في الحجرة ثلاثة أشهرٍ وقيل ستَّة [6]، لم يخرُجا منها قط». يُعلِّق القونوي: «وهذا يعني أنهما قعدا عن صلوات الجماعة في المسجد وعن الجمعة»[7]! وزاد في هامش الصفحة أن شمساً كان يؤخِّر الصَّلاة عن وقتها بغير قصدٍ! لا مجال عند الكاتب للتأويل أو المجاز فإن صحت الرواية ألاَّ يمكن أن يكون معناها التزام الرُّومي بصحبة شمس وأنه لم يكن ليترك فرصة للجلوس معه إلا والتزم بذلك.
3-يَذكر الأفلاكي أن شمساً طلب من الرومي شخصاً يخدمه، فقدَّم مولانا زوجته «كيرا خاتون» لتخدمه، فرفض شمس وطلب غلاماً، فقدَّم مولانا ابنه «سلطان ولد» ليخدم شمسًا، فطلب شمس من مولانا الخمر، فملأ مولانا إبريقًا من حيِّ اليهود وقدَّمه إليه، فأخبره شمس أنه كان يختبره وعقَّب قائلاً: إنما فعلتُ ذلك لأعلم درجة حلمه وصبره، مضيفاً: إنَّ عالم مولانا يضيق عنه نطاق الرِّواية لسِعَتِه.
مَنَحَ «القونوي» الرواية دلالة جنسية مُدِينًا الرُّومي، فما يطلبه شمس يتعلق عنده بأن يتخذ غلاماً أو امرأة ليس للخدمة فحسب وإنَّما للمتعة! فعقَّب على الرواية بشكل تهكُّمي: «ونحن بهذا عَلِمنا غِيرته على حُرَمِه وفقهه في دينه»[8].
لم يلتفت القونوي إلى رواية مماثلة تدل على أن «شمس» كان يختبر فعليًا «الرُّومي»، رغم إيراده لها -في بداية كتابه- لكنَّه انشغل عنها بإدانة الشَّخص المذكور أيضًا. يُورِد «الأفلاكي» الرِّواية على النَّحو التَّالي:
قال الشَّيخُ «أوحدُ الدِّين» «برغبةٍ كاملةٍ: أريد بعد اليوم أن أكونَ في خدمتك! قال: إنك لا تطيق صُحبتي. فجدَّ الشيخُ وقال: اقبَلْني في صُحبَتك، أرجوك. قال: بشرط أن تشرب النَّبيذَ معي على الملأِ في وسْط سوق بغداد. قال: لا أقدر على ذلك. قال: تقدر أن تأتي لي بنبيذٍ خاصٍّ. قال: لا أقدر. قال عندما أشربُ تقدِرُ أن تصحبني. قال: لا أقدرُ. فصرخ مولانا شمسُ الدين: انصرف عن الرجال». يُعلّق العلامة «فروزانفر» على الرواية قائلاً: وكان غرضَه من هذا الكلام اختبار «أوْحد الدين» في مقام التَّجريد والتَّفريد الذي تتمثل حقيقته في مرحلة المعاملات في صرف النَّظر عن الخلق والتوجُّه إلى الخالق بكمال الهِمَّة وتمامها [9].
يمكننا أن نرى في الرواية أثرًا لحضور الخِضْر «العبد الصالح» مع النبي «موسى» عليه السلام، ففي الرِّحلة التعليميَّة التي سجَّل القرآن وقائعها كانت الحوادث التي تُعرض على النبِّي «موسى عليه السَّلام» بمثابة اختبار له، فما يبدو غير منطقيِّ أو مخالفٍ للتعاليم وأحدثه العبد الصالح كان بمثابة درس لموسى عرف فيه الفارق بين فعل المخلوق وحكمة الخالق، ومن المعروف أنَّ شخصية «الخِضْر» كانت حاضرة في التُّراث الصُّوفي والتفسيري والحديثي، فربما كانت هذه الشَّخصية حاضرة في خيال كاتب الرُّواية التَّاريخية «الأفلاكي» -إن لم يتحقق لقاء «شمس» بـ«الكرماني»[10]– وربما كان شمس مستحضرًا لنموذج الخِضْر، فهو نفسه كشيخ له علاقة بمُرِيد أقرب إلى صورة الخِضْر التي يرسمها التُّراث الصُّوفي [11].
4-ذكر «القونوي» في كتابه مرويِّات عدَّة عن «سلطان ولد» ابن مولانا، نُقِل جميعها عن «الأفلاكي»، مُدِينًا سلوكه من وجهة نظر المَقُولات السَّلفية [12]، لكنه أحجم عن ذكر مَرْويَّات لا يمكن تصديقها عقلاً، ربَّما لأنَّ هذه المرويات تجعل من المصدر الذي يعتمده للتأريخ لحياة «الرومي» والمولوية مصدرًا غير موثوق في مصداقيته، سنذكر رواية واحدة من جملة هذه المرويات التي لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال.
يَحكي «الأفلاكي» عن الفترة التي سبقت فِطام «سُلطان ولد» عن حليب أمه قائلاً: «كان «سلطان ولد» دائمًا ينام في حضن حضرة مولانا، وعندما كان يريد في التهجُّد أن ينهض ويقوم لصلاة قيام الليل كان «سلطان ولد» يصرخ ويبكي، وعندئذ كان حضرة مولانا من أجل تسكينه يترك الصَّلاة ويضعه في حضنه. وعندما كان يطلبُ حليب أمِّه كان مولانا يضع ثديه المبارك في ِفي «وَلَد». وبأمر الله بسبب فرط حُنوّ الوالد كان يتدفق حليبٌ صافٍ «لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين» إلى أن يشبع من لبن ذلك الذي هو أسد المعنى وينام، مثلما انبثق الماءُ الزُّلال من بين أنامل رسول الله»[13].
يضرب «القونوي» صفحًا عن مثل هذه المرْويات [14] ولا يوردها في كتابه ويركِّز أكثر على ما يلتمس فيه مخالفةً للعقيدة أو ما يَقدَح في السَّلوك ويُّظهر الرُّومي في صورة غير أخلاقية. كذلك أغفل عن ذكر مرويات «للأفلاكي» تقدُّم الرومي عالمًا محبًّا للفقه والشَّريعة، نذكر منها ما أورده «الأفلاكي» على لسان مولانا قائلاً: «كان الإمام أبو حنيفة النعمان والمطلبي «الشافعي» وأئمة آخرون «رضي الله عنهم» من صُنَّاع عالم الأرض الجذباء، من اتَّبع طريقهم بكلِّ صدقٍ واتخذ هؤلاء العقول العظيمة كقُدوة، ظلَّ في مأمنٍ من شرِّ الخُبثاء وتُجَّار الدين ونجا. لكن «الجنيد» و«ذا النون» و«بايزيد» و«شقيق البلخي» و«إبراهيم بن أدهم» والمنصور «الحلاج» وأمثالهم، فهم طيورٌ مائية، سبَّاحون عابرون لبحر الفِكر، من اتَّبعَهم نجا من مكر الهوى الخادع، وتقدَّم في طريقه نحو جوهرة بحر القُدرة [15].
الهوامش
[1] : وُلد محمد عبد الله أحمد في مدينة قونيه عام 1966م / 1386هـ، وأتم تعليمه في المملكة العربية السعودية، ولا يزال يقيم فيها، وتلقى كتبه رواجًا في محيط المملكة، وبفضل انتشار الدور التي توزّع كتب التيّار السلفي، لقيت كتبه رواجًا في مصر وبيروت وغيرها من البلدان العربية، يختار محمد لكتبه عناوين تقترب من اللغة التراثية، لذا ظنّ البعض أنه مؤلف قديم، وبعض الجمهور الذي يحب الرومي اليوم التقط كتابه عبر الإنترنات لكنه سرعان ما زهد فيه نظرًا للغته الصادمة للقارئ، ومن المفارقة أن الشيخ محمد في حوار له مع بعض الشباب نصحهم باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة التي يتحلى بها الصوفية في حديثهم مع الآخرين، وقد استبدل هو في كتابته لفظة العاشق والمعشوق بـ(الناكح والمنكوح) بما تحمله من دلالة مسيئة، وهو من إشكالات التعاطي مع نصوص الآخرين فعدم الوعي باللغة يؤدي إلى هذا الخلل في فهم مراد الآخر، والكلمات التي أدانها الشيخ السلفي ترد في أشعار (الشيخ عبد القادر الجيلاني، والهروي الأنصاري) لكنه لا يهتم إلا بتحقيق غايته فحسب.
[2] : يقول الكاتب: (وأمّا مصادري التي أنقل منها أخباره، فمصدرٌ رئيس هو كتاب مناقب العارفين للأفلاكي، ثم كتاب: سبهسالار، وكتب أخرى باللغة التركية والعربية)، راجع أخبار جلال الدين الرومي، نشرة السعودية 2000، ص 71.
[3] : النقل عن مناقب العارفين للأفلاكي، النسخة التركية، والترجمة بقلم القونوي.
[4] : السابق نفسه، ص 72.
[5] : يسأل شمس الدين التبريزي مولانا: (من الأعظم: أبو يزيد أم محمّد؟ فقال مولانا: ما هذا السؤال، محمدٌ خاتَمُ الأنبياء، فأية علاقةٍ له بأبي يزيد؟ قال شمس الدين : ولكن لماذا يقول مُحمّدٌ: «وما عرفناك حقّ معرفتك»، وقال أبو يزيد: «سبحاني ما أعظم شاني»؟ فوقع مولانا من هيبة هذا السؤال وغاب عن الوعي، وعندما استعاد وعيه أخذ بيد مولانا شمس الدين…). راجع فروزانفر، ص 103. وترد الرواية في كتاب شمس «مقالات» ، وقد ذكرتها ليلي أنفار في كتابها (الرومي: دين الحبّ) وعلّقت عليها تعليقًا مفيدًا، راجع قراءة وترجمة عائشة موماد، المنشورة في الأوان، المقال الثالث، السبت 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 . ويعلّق عطاءُ الله تديّن على هذا اللقاء قائلا: (صُنعت حكايات في شأن طريقة لقاء هذين الرجلين، والمقبول هو أن شمسًا في السابع والعشرين من شهر جمادي الآخرة سنة 642هـ وصل إلى قونية، أما تاريخ لقاء الشخصين وكيفية هذه الواقعة فأمرٌ غير واضح). راجع (بحثًا عن الشمس، من قونية إلى دمشق)، ترجمة الأستاذ عيسى علي العاكوب، نشرة نينوى، دمشق 2015، ص 31.
[6] : رواية الأفلاكي كما يذكرها العلامة فروزانفر في سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي تقول بأنه (أدخله إلى حجرة، ولمدة أربعين يومًا لم يسمح لمخلوق بالدخول)، راجع الترجمة العربية للأستاذ عيسى علي العاكوب، نشرة دار الفكر، دمشق 2006، ص 103. ولعل الكاتب نقل هذه المدة الزمنية عن عبد الرحمن الجامي في نفحات الأنس، فهو الذي حدد مدة الخلوة بثلاثة أشهر. قارن فروزانفر، السابق نفسه ص 104.
[7] : السابق نفسه، ص 138.
[8] : أخبار جلال الدين، ص 144، 145.
[9] : راجع (من بلخ إلى قونية) ، مرجع سابق، ص 100، 101.
[10] : راجعت دراسة وترجمة إفراج أحمد أمين محمود الكفراوي لـمناقب أوحد الدين الكرماني ، نشرة مكتبة الثقافة الدينية،القاهرة 2011. فلم أعثر على رواية تثبت هذا اللقاء، وتعود الرواية إلى أفلاكي وجامي حسب تحقيق العلامة فروزانفر.
[11] : للتعرف على أثر الخضر في التراث الصوفي الإسلامي، راجع: أبو الفضل بدران، الخضر في التراث العالمي، نشرة المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2012، ص ص 88-106.
[12] : راجع القونوي، أخبار جلال الدين، مرجع سابق، ص ص 208-213.
[13] : راجع فرانكلين، الرومي شرقًا وغربًا، مرجع سابق ص 458.
[14] : يبالغ الأفلاكي في نسبة كرامات لمولانا من باب التعظيم ، فيتحدث عن فترة تعلّمه العلوم الشرعية وهي أنه عندما كان مولانا أستاذا لعلوم التصوف بالمدرسة المقدمية بدمشق، وبينما كان في نزهة، ارتفع بجسمه في الهواء وسط دهشة تلاميذه الذين تحولوا إلى مريدين له منذ ذلك اليوم.
[15] : راجع: Clément Huart, «De la valeur historique des mémoires des derviches tourneurs» dans «Journal asiatique», sér. 11, vol. 19, p. 308-317، Les saints des derviches tourneurs. Récits traduits du persan et annotés (tr. of Aflāki [q.v.], Manāqeb al-ʿārefin), 2 vols., Paris, 1918-22. وأشكر الأستاذة عائشة موماد التي ترجمت لي بعض المواضع عن هذه النسخة والاقتباس المدرج أعلاه ص 201.