مولانا جلال الدين الرُّوميِّ والسِّيرة الأسطورية (1-4)
استاء أحد شيوخ «المولَوِية» من كثرة الجدال والنِّقاش الدَّائر في عصره حول الطُّقوس والممارسات الصُّوفية، ورأى أنَّ الكتابة المضادَّة لم تَفهم إشكالياتِ الممارسة الرُّوحِية، كَوْن أصحابها يفتقرون إلى المعرفة والخبرة، ورأى أنَّه من الأفضل ألاَّ يُناقَش الموضوع مع الذين يهاجمونه، وقد يأس من الحديث معهم، على الرَّغم من ذلك كتب بنفسه رسالةً في حقِّ «الدَّوران الصُّوفي» وتحدَّث فيها عن شرعيَّة السَّماع الصُّوفي مستندًا إلى القرآن وممارسة أتْباع النَّبي للذِّكر بطرائق مختلفة في الإسلام المبكِّر، منتهيًا إلى أنَّ شريعة اللَّه لا تُحرِّم مِثل هذه الطُّقوس [2].
تظل المولَوِية موضوعًا للجدلِ والنقاشِ، ويحظى مولانا «جلالُ الديِّن الرُّومِيِّ» باهتمام بالغ شرقاً وغرباً، ومؤخراً نجد حُضورًا كبيرًا لأقواله ومعارفه الصُّوفيَّة، الجمهورِ الأكبرِ يلتقط كلَّ ما يُُكتب عن الرُّومِيِّ أو له بِحبٍّ وشغفٍ بالغٍ، وقد انزعج البعضُ من أتباعِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّة لهذا الحُضور، ممَّا حَدَا ببعضهم أن يَنزِع عن الرُّوميِّ تصوُّفِه ويَصِمُ التَّصوُّف الفارسيِّ بابتعادهِ عن الشريعةِ. الموقفُ نفسَهُ أكثر حِدَّةً وصرامةً من جانب التَّيار السَّلفي، فقد أعاد أحدُهم إثارة نفْس ِالمشكلات التي استاء منها «نُوري أفندي»، وتحدَّث عن «فُسُوق الُمولَوِية» وعن نشرهم للفُجور واستهانتهم بتعاليم الإسلام، معتمداً في ذلك على قراءة كتب التَّاريخ، جاعلِاً المقولات العَقَدِيَّة حاكِمة على ما يَرِد هنا أو هناك من أخبار، وقد ناقشْتُ في سياقٍ آخر نموذجاً لتعامله مع «الرُّومي والمغُول».
في هذه الورقة أتناول مصدراً غَلَبت عليه الأسطورية كما هو الشَّأنُ في الكتابةِ المَنَاقِبِيَّة وقَصَص القدِّيسيين، أرَّخ للرُّومي والمُولَوِية بقلم الُمرِيد الذي يكتُب عن شيْخه، والمُؤمِن عن نَبيِّه، والعاشق عن مَعْشوقِه، فغابت الحقيقةُ وسْط هذا الكمِّ من التبجيلِ والأسْطَرِة، ممَّا وضع الباحث أمام مُهمَّة صعبة وهو يتعامل مع هذا الكمِّ الهائلِ من الموادِ.
البعضُ وُفِّق في التعامل مع المَرْوِيَّات التَّاريخية، والبعض الآخر اتخذها مَطِيَّة لإدانة الرُّومِي، وسنرى في هذا المقال أمثلة لذلك.
الأفلاكي وسِيرة الرُّومِي
اشتُهر «الأفلاكي» بكتابه «مناقِب العارفين» وهو الكتاب السَّيَرِي الأكثر طولاً وتفصيلاً في كلِ ما يتعلق بسيرة الرُّومي وآبائهِ الرَّوْحيين وتلاميذه ومُرِيدِيه، ورغم أنه يقدِّم معلومات مُفصَّلة عن أشياء كثيرة في كتابه، إلاَّ أنَّ «الأفلاكي» تَظَلُّ جوانب كثيرة من حياته غير معروفة عند المحققِّين والمؤرِّخين، فحَسَب «ثاقب دده» نعرف أنَّ اسم الأفلاكي «أحمد آهي ناطور»، تتلْمَذ ل«بدر الدِّين تِبريزي»، وله سياحات ورحلات قطعها في سبيل تحصيل العلم، ويُقال إنَّ أبيه كان يَرْوي مناقِب «بهاء الدِّين ولد سلطان العلماء» ووالد حضرة مولانا «جلال الدين».
بدأ الأفلاكي في كتابة «مناقِب العارفين» في قُونِيَّة في عام 718هـ / 1318م واستمر في تنقيح الكتاب وتوسيعه فترة طويلة؛ لذا توجد من الكتاب أكثرَ من نُسخة، يعثُر قارئها على تعديلاتٍ كثيرةٍ، وكما أُهمِلت المعلومات عن حياته وكأنه كان نِسْيًا مَنسيَّا، فلم يبَرُز اسمه على نُسَخ مناقِب العارفين [3]!
جَمَع «الأفلاكي» مرْويَّات سيِرته عن طريق الُمشَافَهَة من أشخاص أحبُّوا مولانا واتَّبعوا طريقته التي أبْرَز ملامحها ابنِه سلطان ولد، بعض هؤلاء الأشخاص كانوا على قيدِ الحياة والتَقوا بمولانا وولده، وكعادة المحبِّين تم إضفاء هالات ونِسبَة أشياء كثيرة إلى محبوبهم من باب التَّبجيل والتَّعظيم يستحيل قَبُولها عقلاً أو صدَّروها عن الرُّومي، كما يستحيل حدوثها في الواقع كما سيأتي في هذا المقال.
التقى «الأفلاكي» بـ «أولو عارف جلبي»[4] وبُناء على تشجيعه بدأ في كتابة السِّيرة، وليس غريباً على «الأفلاكي» أن يعتقد في كرامة «جلبي»، ويَنسِب إليه كرامات كثيرة، «فجلبي» الحفيد الأبرز لمولانا، والحامل للأنوار السَّبعة «وجهه مبارك ميمون، ومشاهدته مباركة للأرواح»[5]، لذا فملازمة «الأفلاكي» حقَّقت له مُبتغاه من التَّعرُّف على عالم مولانا عبره، لأنَّ الأفلاكي لم يعرف الرومي معرفةً شخصيةً إذ وُلد بعد وفاته، ومن خلال مُطالعَة «لويس فرانكلين» لمناقِب العارفين يؤكد لنا ما أكَّده غيره من الدَّارسين على النَّحو التَّالي: «صورة الرُّومِي التي رسمها الأفلاكي غَيرُ مُقيَّدة بأي ذكريات مُباشِرة للرُّومي، المخلوق البشري، ولعل هذا يُفسِّر جُزئياً تَقَبُّلِه القصص الأكثر خيالية وغرائبية، التي تدور حول موضوع الشَّخص الذي هام فيه. ويروي الأفلاكي أحداثاً خارقةً للعادة من دون أن تطرُف له عيْنٌ، إلى جانب تفاصيل أكثر دُنيَوية عن حياة الرُّومي العائلية تبدو قابلةً للتصديقِ إلى الحدِّ الكافي. وعندما يكتُب الأفلاكي بعد ذلك بكثير يقدِّم معلومات أكثر كثيرًا في شأن حياة أولو جلبي والُمولَوِية المتأخِّرين، وإذا كان العلماءُ غير ميَّالين إلى النَّظر إلى مَناقِب الأفلاكي على نحوٍ أكثر تحقيقاً وتمحيصاً، فما ذلك إلاَّ لأنَّ التَّفاصيل السِّيَرِيَّة التي يُقدِّمها لا يُمكن العثور عليها في أي مصدرٍ آخر» [6].
تُنسِبُ السِّيَرُ الصُّوفيةُ أعمالاً وكرامات لا يمكن قَبُولها من قِبل كثيرين وبخاصَّة خُصوم التَّصوف، وتتم إدانة المتصوِّفين بُناءً على هذه المَرْوِيَّات، اللاَّفت للنظر أنَّ التلقِّي السلفي لمولانا وسيرة حياته لا يَذكُر شيئاً من هذه الخوارِق، بل يُحاول طِيلة الوقت أن يُظهر مصداقيَّة المصدر الأسطوري؛ ليُؤكد لجمهوره ما وصل إليه من استنتاجات تجعل حكمه محلَّ رضا وقَبول تام، وإذا ذُكِر أمراً خارقاً فإنَّه يتغافل عن عدم إمكانية تحقُّقه واقعاً وأسطوريَّته وينشغِل بما يَمَس المُعتَقَد فيه!
وقد تناولنا في مقالين سابقين الإشارة إلى هذه المشكلة
الأول:هل الرومي زنديق؟
الثاني:مولانا جلال الدين الرومي والمغول؟
وتأتي المقالات التالية تَتِمَّة لهذا الموضوع الذي بدأناه على موقع «إضاءات» فعسى أن تكون فيه فائدة للقارئ الكريم.
الهوامش
[1] : رسائل خواجه عبد الله الأنصاري، ص 132، نقلاً عن (بحثًا عن الشمس، من قونية إلى دمشق)، ترجمة الأستاذ عيسى علي العاكوب، نشرة نينوى، دمشق 2015، ص 92.[2] : لمتابعة موقف المولوية تجاه ما يثار من إشكالات حول طريقتهم وطقوسهم، راجع : ألبرتو فابيو أمبروزيو، الدرويش الدوّار: عقيدة الصوفية وطقوسها في القرن السابع عشر، ترجمة الأخت لويزات معوض، نشرة دار المشرق بيروت 2015، ص ص 178-215.[3] : راجع فرانكلين د. لويس، الرومي ماضيًا وحاضرًا، شرقًا وغربًا-حياة جلال الدين الرومي وتعاليمه وشعره، ترجمة عيسى علي العاكوب، نشرة وزارة الثقافة، دمشق، 2010م ص ص 492-512.[4] : وُلد أولو عارف جلبي في يوم الثلاثاء الموافق للثامن من شهر ذي القعدة عام 670 هجرية (7 يونيو 1272م) وهو ابن سلطان ولد وفاطمة ابنة قويومجي شيخ صلاح الدين، أحب مولانا جلال الدين حفيده جدًا وكان يدلله كما كان حضرة النبي يدلل الحسن والحسين، متمثلاً بميراث المحمديين، فقد قال عليه السلام (فليكن طفلاً من عنده طفل). نشأ جلبي برعاية مولانا وسلطان ولد وكان محبوبًا من البيت المولوي، وبدأ عارف جلبي يمثّل الطريقة المولوية عندما وافت المنية أباه، وقد أمضى حقبة من عمره في السياحة والترحال، من أقواله: (إن المتصوفة العارفين هم شمس الشموس، وإن الشمس لتنير بنورهم). وقال أيضًا قبل وفاته: ( إن الذهاب إلى جوار المحبوب يبدل من حال إلى حال، ويتوجب التخلّص من الوجود والفرار منه، وليس من الصواب الذهاب بغطرسة ووقاحة إلى المحبوب الجميل الذي يشبه القمر، بل يلزم الذهاب إليه بوجه شاحب شديد الاصفرار وعينين مغرورقتين بالدموع). راجع: عبد الباقي كليبنارلي، المولوية بعد جلال الدين الرومي، ترجمة عبد الله أحمد إبراهيم، نشرة المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2003، ص ص 115-145.[5] : كان سلطان ولد يحبُّ ابنه جلبي كثيرًا وهو من وصفه بهذا الوصف، راجع: عبد الباقي كليبنارلي، مرجع سابق ص 115.[6] : انظر: فرانكلين لويس، الرومي، مرجع سابق ص 495.