المودودي: العوامل والمؤثرات التاريخية وراء نظام الرأسمالية (2)
الثورة الصناعية
وفي القرن الثامن عشر زاد اختراع الآلة زيادة عظيمة في سير ذلك الانقلاب الذي كان قد ابتدأ في دور النشأة الثانية. ولما استُعملت المعلومات والاختراعات العلمية الجديدة في ترقية الصناعة والتجارة والزراعة ووسائل التنقل، بدأت سلسلة المنتجات وإعداد المواد الخام، واستهلاك البضائع المصنوعة في كل قطر من أقطار العالم على نطاق واسع، لم يكن خَطَر على بالٍ من قبل.
وإن فرص الرقي والرفاهية والقوة والنفوذ والسلطة التي فتح أبوابها هذا الانقلاب العظيم، فإن أقرب طائفة قامت وتقدمت للاستفادة منها هي طبقة البرجوازية وحدها، التي كانت قد نهضت وارتفع شأنها في دور النشأة الثانية؛ وذلك لما كان بيدها من الصناعة والتجارة والثروة والسيطرة على العلم والأدب. فاستخدمت الثروة والمهارة الفنية والكفاءة الإدارية، وأقامت بها نظامًا للصناعة والتجارة جديدًا اشتهر في ما بعد بنظام الرأسمالية الجديد، وقد أقيمت تحت هذا النظام الجديد معامل ومصانع ودوائر تجارية كبيرة في المدن، وانفضت الحلقات القديمة لأهل الحرف من الطوائف المختلفة، وضاقت سبل العيش على وجوه أصحاب المصانع الصغيرة والصناع المنفردين والتجار من ذوي الثروة القليلة، واضطر أهل الحرف من سكان القرى أن يؤمّوا المدن ويتمثلوا عمّالا أُجراء بين أيدي أصحاب المصانع الكبيرة هؤلاء. وكذلك لم يجد التجار من أصحاب الأموال الضئيلة بُدًّا من أن يكونوا مستخدمين أو وكلاء لهؤلاء الصناع والتجار، فهكذا تخطفت طبقة البرجوازية واستأثرت بكل ما جاءت به الاختراعات العلمية الحديثة من القوة وأخذت في توسيع نطاق نفوذها وسيطرتها.
وإن أكبر ما حال دون امتداد هذه السيطرة ونفوذ تأثيرها، هو تلك الولايات القومية التي كانت قد توّلدت نتيجة لحركة النشأة الثانية. كان ملوك هذه الولايات المستقلون يزعمون ويدّعون أنهم يتمتعون بسلطة موهوبة لهم من الله، وكان أمراء النظام الإقطاعي الفارط وأغنياؤه قد أصبحوا أنصارًا لهؤلاء الملوك وأساطين قام عليها صرح سيطرتهم ونفوذهم، وأصبحت لهم الكنائس القومية سندًا دينيًّا وروحيًّا. وجملة القول أن السلطة كلها بيد هذا «الثالوث»، [الذي] كان يلقي في سبيل طبقة البرجوازية أنواعًا من العقبات؛ بل لم تكن عقباته تحول دون البرجوازية في ميدان الصناعة والتجارة فحسب، بل كان هناك في العمران والمدنية أيضًا كثير من مخلّفات نظام الإقطاعية لا تحبها هذه الطبقة الناشئة وتشمئز منها اشمئزازًا شديدًا.
مذهب الحرية والتجدد الحديث
ثم إن مذهب الحرية والتجدد الذي كان قد انتصر في الحرب الماضية، نهض مرة أخرى في هذا الدور متدجّجًا بالأسلحة الجديدة وأخذ ينفخ روح الجمهورية في السياسة وروح الحرية الفردية في المدنية والاجتماع والأدب والأخلاق، وروح التحرر وعدم التقيد بشيء [مبدأ: دعه يعمل دعه يمر] (Laissez faire) في الاقتصاد. ولقد كان قولهم الذي يقولونه في هذا الشأن أنه لا يحق للكنيسة ولا للدولة ولا للمجتمع أن يقوم في وجه سعي الفرد للارتقاء والانتفاع، وأنه ينبغي أن تكون الحرية التامة متيسّرة لكل فرد من الأفراد يتمكن من استعمال قواه ومواهبه وكفاءاته حسب ميوله، ويتقدم إلى الأمام حسب ما يستطيع ويقدر. بل لا يمكن أن تسدي إلى صالح المجتمع نفسه خدمة حقيقية إلا بأن يتمتع كل فرد من أفراده بحرية غير محدودة في كل شعبة من شعب الحياة، وفي كل طريق من طرق العمل، ومن كل قيد من القيود الرسمية والدينية والخلقية والقانونية والاجتماعية.
فهكذا استنفد زعماء هذه النظرية ورافِعو لوائها جهودَهم في رفع كلمة التسامح والتحرر والإباحية والفردية، وإذا قلنا بكلمة موجزة: «المعقولية Rationalism» حسب ما اصطلحوا عليه.
ولقد كانت طلباتهم في السياسة أن تكون سلطة الحكومة ضيقة إلى أقصى حد ممكن وأن يكون الفرد متمتعًا بأوسع ما يمكن من الحرية، فلا تكون الحكومة إلا وكالة تعنى بإقامة العدل بين الأفراد وتمنعهم من أن يتدخل بعضهم في حدود بعض وتحافظ على الحرية الفردية. أما الحياة الاجتماعية والاقتصادية فينبغي أن تدور رحاها وتسير شئونها كلها وفقًا لجهود الأفراد وأعمالهم وأفكارهم وآرائهم الفردية، فلا حاجة للحكومة إلى التدخل في شئون الأفراد هذه لا بحيث أنها عاملة ولا باعتبار أنها زعيمة. وفي الحين نفسه كانوا يريدون أن لا تبقى سلطة الحكم ملكًا لعائلة ملكية ولا أن يستغلها بعض بيوتات من ملاك الأراضي. إن البلاد ملك لعامة الأهالي، ولا تسير شئون الحكومة إلا بما يؤدون إليها من الضرائب؛ فينبغي أن لا تقوم الحكومات ولا تنفض ولا تتبدل إلا بآرائهم وأن يكون لهم تأثير بالغ وكلمة مسموعة وقول فصل في التشريع والإدارة. فهذه النظريات هي التي أصبحت أساسًا لما بدأ يقوم في الدنيا منذ أواخر القرن الثامن عشر المسيحي من الجمهوريات الجديدة.
ولقد كانت طلباتهم في السياسة أن تكون سلطة الحكومة ضيقة إلى أقصى حد، فلا تكون الحكومة إلا وكالة تعنى بإقامة العدل بين الأفراد وتمنعهم من أن يتدخل بعضهم في حدود بعض.
أما المبدأ الذي دعوا إليه واهتموا به اهتمامًا بالغًا، فهو أنه إن تركت قوانين الاقتصاد الفطرية تعمل بنفسها على سجيّتها بحيث لا يتدخل فيها ولا يخلّ بشأنها عوامل خارجية. فالمرجوّ أن يتأتى أكبر خدمة ممكنة للفلاح الجماعي بمساعي الأفراد الفردية من غير محرك ولا دافع، فيزداد الإنتاج ازديادًا، ويظل يتوزّع بين الأفراد بأحسن طريق ممكن، بشرط أن يكون الناس كلهم متمتعين بالحرية التامة في سعيهم وعملهم ولا تتدخل الحكومة في هذا العمل الفطري بطريق متصنّع. فمبدأ الاقتصاد الحر Laissez faire هذا هو الذي تقرر واعتبر نظرية أساسية لنظام الرأسمالية الجديد.
ومما لا ريب فيه أن مذهب الحرية والتسامح هذا، الناجم قرنه في دور الثورة الصناعية، كانت فيه عناصر للحقيقة والصدق، كما كانت في مذهب الحرية الناشئ في دور النشأة الثانية، وهي التي سببت له النجاح أخيرًا، ولكننا نشاهدها مقترنة بالأثرة والتطرف: أي نفس الضعفين اللذين ما زلنا نشاهدهما عاملين منذ دور البابوية والإقطاعية.
فأماالأثرة فكان من مظاهرها أن كانت مطالبة أكثرهم بالحق والإنصاف خالية من الإخلاص، وأنهم ما عرضوا ما عرضوا من المبادئ الصحيحة حبًّا للحق، وإنما عرضوها لأنها كانت مفيدة لأغراضهم ومساعدة عليها. والشاهد على ذلك أنهم ما كانوا ليرضَوْا أن يعطوا العمال والجمهور المعوزين نفس ما كانوا يطالبون به لأنفسهم من الحقوق.
وأماالتطرّف فكان ظاهرًا متجليًا في كل ما يصدر من قول أو عمل من أصحاب الرأي وأرباب اليراع المخلصين منهم، فقد تناولوا طائفة من الحقائق واجتازوا بها حدودها الأصلية اجتيازًا بعيدًا، وأهملوا حقائق أخرى ونحوها عما كان لها من المقام في الحياة الإنسانية، وأحلّوا محلها الحقائق المرضية عند أنفسهم، مع أن كل حقيقة إذا جاوزت حدها انقلبت باطلًا وزورًا وجاءت بنتائج معكوسة، كما لا يخفى. فهذا الإفراط والتفريط يوجدان في كل ناحية من نواحي نظام الحياة الذي ترتب تحت نظريات «التحرر» و «الفردية» و «الجمهورية» هذه، ولكنه إذ كان موضوع كلامنا الآن «الناحية الاقتصادية» خاصة فلنضرب الآن صفحا عن النواحي الأخرى ونبين، مستعرضين هذه الناحية الاقتصادية وحدها، ما كان ذلك النظام الاقتصادي غير المتزن الذي أقامه هؤلاء القوم بمزجهم عناصر الأثرة والتطرف بقوانين الاقتصاد الفطرية، ثم ما نتج عن هذا النظام الاقتصادي من نتائج وخيمة.
- مجلة المسلمون، السنة الثانية، العدد الأول، نوفمبر 1952، تعريب السيد: محمد عاصم الحداد.