سيرة مولانا جلال الدين الرومي: ادعُ إلى ربك بالحب والشعر
عرض لكتاب «مولانا جلال الدين الرومي» لأبو الحسن علي الندوي
في خضم دنيا تموج بالصراعات والتقلبات، وفي زمن هدَّته سيوف المغول وفتن علماء الكلام، ساد التشاؤم بين الناس وحطَّت عندهم قيمة حيواتهم وأنفسهم، وُلد جلال الدين الرومي ليصنع بأطروحاته الشرعية والشعرية المتتالية نقطة تحويل مسار لكل هذا، على مدى رحلة دعوة طويلة لم يسلم فيها من تقلبات السياسة والفِكر، لكنها أفضت في النهاية إلى إيقاد نبراس وسط غمامة من العتمة كادت أن تظلل جنبات العالم الإسلامي بأسره.
كان الرومي «عبقرية متجددة وصلت بدراستها إلى أحشاء الفلسفة، ثم خرجت منها سالمة». فلم يكتفِ بأن يدعو الناس إلى الحلال والحرام، وإنما سعى لما هو أكبر عبر تعريفهم الطريق إلى حقيقة أنفسهم، وكأنه يعيدهم إلى فطرتهم الأولى من جديد.
يحكي أبو الحسن الندوي في كتابه «مولانا جلال الدين الرومي» أنه وُلد في 6 ربيع الأول من العام 604هـ (1207م) بمدينة «بلخ» في أفغانستان، وترعرع في بيت ورع، فكان والده ذائع الصيت بالفقه حتى عُدَّ من كبار مشايخ عصره، ولُقب بـ «سُلطان العلماء». وكان الرومي الكبير ينتقد عكوف علماء العصر على العلوم العقلية وانصرافهم عن القرآن والحديث، وقد حظي بمكانة كبيرة بين الناس، وهو ما أقلق ملك البلد فأمره بالخروج منها، أذعن الرجل وارتحل بأهله حتى استقر في «قونية» العثمانية عام 626هـ (1273م)، وقضى بها عامين حتى مات.
موتوا قبل أن تموتوا
اضطربت في زمن الرومي عقيدة البشر، بسبب الانشغال المبالغ فيه بعلم الكلام وحقائق العقائد كالألوهية وصفاتها، والنبوة وأحكامها، والغيب والوحي إلى غير ذلك.
ترافق ذلك مع دعوة نفر من المتصوفين الناس إلى الفناء بشعار شهير «موتوا قبل أن تموتوا»، وأفرطوا في إنكار الذات، حتى أصبح الاعتداد بالنفس جريمة خلقية، وأسرفوا في الحث على الانسلاخ من النفس البشرية، فاعتقد المرء أن سبيل رقيه الوحيد هو الثورة على إنسانيته لا الحفاظ عليها، والردَّة عنها لا الارتداد إليها.
كما نشأ بتأثير هذه الأفكار وفساد الحكومات وسوء المعايش أدب متشائم ينظر إلى الواقع بمنظار أسود يدعو الناس إلى الفرار من حياتهم، ونتيجة لذلك فقد عامة البشر الثقة في نفوسهم والأمل في مستقبلهم، فحسدوا الحيوانات على حريتها والجمادات على هدوئها.
إلى أن بزغ الرومي فأثار كرامة الإنسان المطمورة، وتغنَّى بفضل الإنسانية بإيمان وبلاغة، واستفاض في تبيان كيف أنه خلقنا جميعًا «في أحسن تقويم»، معتبرًا إياها ميزة لا يشاركنا فيها أحد غيرنا من المخلوقات، وأنبت شرارة صحوة امتدت إلى الأدب الإسلامي كله، وانطلقت في عالم التصوف موجة جديدة يمكن تسميتها بـ «الاعتزاز بالإنسانية».
مدير الـ «خداوندكار»
عقب وفاة الأب ورث جلال الدين مكانته الدينية، فبنى له الأمير مدرسة عُرفت بـ «خداوندكار»، فتولى التدريس بها، وأنفق في هذا النشاط ردحًا من عُمره، واشتُهر بالتبتل في العبادة، حيث يحكي الكتاب أنه كان يقضي الليل كله في ركعة واحدة فلا يشعر بمكان ولا زمان، حتى إنه ذات مرة بكى خلال الصلاة فابتل وجهه بالدموع الغزيرة، ولما كان الزمن شتاء والبرد الشديد، تجمَّدت الدموع على اللحية.
وكان زاهدًا قنوعًا يقسِّم كل ما يأتيه من هدايا الملوك على الفقراء، وكان عظيم السخاء شديد البذل، فإذا جاءه سائل وليس عنده شيء خلع له قميصه وأهداه له.
في العام 630هـ قرَّر أن يقوم بجولة في بلاد الشام، فارتحل إلى حلب ثم دمشق، حيث جالَس عددًا من شيوخها الأجلاء مثل محيي الدين ابن عربي، وسعد الدين الحموي، وأوحد الدين الكرماني، وصدر الدين القونوني وغيرهم، وبعدها عاد إلى «قونية» مجددًا، ليجدها قد ازدادت بهاءً بعدما أصبحت مدينة للعلم وملجأ لفضلاء العصر على إثر هروب أساطين العلماء إليها خوفًا من جحافل التتار التي أعملت التقطيع في بدن الأمة الإسلامية، واستمر الرومي منقطعًا على الدراسة والعلم حتى قابل رجلًا فارسيًّا غيَّر له حياته.
شمس «التبريزي» تشرق في نفس جلال
في العام 642هـ بلغ «قونية» رجل من «تبريز» الإيرانية، اسمه محمد بن علي بن ملك داد، حينها كان لا يعرف الناس عن نسبه شيئًا، دبَّر حيلة ذكية للتعرف على جلال الدين وضمان ثقته، عبر ضرب مواطن الجهل لديه وهو عالم العلماء، ففي يوم كان الرومي يسير بموكب بين الناس وكانوا يستوقفونه ليسألوه في أمور دينهم، فتقدم له وسأله: ما المقصود من الرياضيات والعلوم؟ فأجابه جلال: الاطلاع على آداب الشرع. ردَّ عليه شمس الدين مخطِّئًا إياه: لا، بل الوصول إلى المعلوم. فتحير الرومي وعلم أنه أمام شخص يمتلك بين جنباته أمرًا غير عادي.
أخذه وعاد به إلى غرفة مغلقة، وأطرق برأسه أمامه منصتًا في جلسة عاد بها نابغة العلوم الدينية تلميذًا أمام رجل تحوي رأسه علمًا لا معرفة له به، دامت الجلسة وتكررت واستغنى بها جلال عن كل شيء، إلا هذا الاعتكاف المزدوج الذي يكشف له عالم الحقائق والأذواق تدريجيًّا، ودام ذلك عامًا و4 أشهر تقريبًا.
أبحث عن نفسي فيك
يروي الندوي في كتابه أن ثمرات لقاءات التبريزي بدأت تظهر في عقلية الرومي، فتخلى عن آراء الأشاعرة التي أخلص لمدرستها الفكرية لسنوات، بعد أن جعلته جلسات الغرفة المغلقة ينتقل «من القيل والقال إلى حقيقة الحال»، ويصل إلى «لب اللباب وغاية ما في الباب»، وكشفت له مواقع عديدة خاطئة في علم الكلام، فتناوله مع الفلسفة بالنقد.
غير أن هذا الانقطاع لم يكن كله فوائد؛ لأن جلال الدين انصرف تمامًا عن تلاميذه ومريديه، فأوغر هذا في صدورهم وأعلنوا حربًا على شمس، الذي آثر السلامة وخرج من قونية مستخفيًا في أول شوال عام 643هـ، وهي الخطوة التي لم تُعد جلال الدين إلى سابق عهده كما تمنى مريدوه، وإنما حزن بشدة بسببها، وواصل انقطاعه عن الدنيا حتى باغتته «رسالة محبَّة» من الشيخ شمس، فطابت نفسه وعاد لمجالسه.
رجع شمس إلى «قونية»، فابتهج بقدومه جلال الدين، وطابت مجالسهما واستطالت مجددًا، كما تجدد أيضًا الاعتراض على هذه الصحبة، وهذه المرة تزعَّم الاحتجاج «شلبي ابن جلال الدين»، فغرُبت شمس التبريزي ورحل مجددًا، وهذه المرة جُن جنون الرومي، وأخذ يدور في أركان مدرسته كالهائم، ويسرد قصائد الحنين في شيخه، ثم قرر الخروج إلى الشام بحثًا عنه بلا جدوى.
ولمَّا لم يجده صبَّر نفسه باعتبار أنه ذاته امتداد للتبريزي في أفكاره الروحية النيرة، قائلًا:
آمن الرومي بأن علوم الحكمة التي أُخذت عن اليونان لا تزيد الإنسان إلا غرورًا وبُعدًا عن الله وتغرقه فيما سمَّاه «الجهل المركب»، معتبرًا أن زهد هذه الفلسفات طريق بلوغ السعادة، ويعتبر أن النبراس الحق للبشري في حياته هو «العقل الإيماني» وليس «العقل الجسماني»، يبزغ الأول في المرء إن تطهرت آفاقه وظهر النور في قلبه وروحه، فهو الذي يحث الإنسان على الحكم بالعدل وردع الظلم وقهر النفس عن الشهوات وردع عقل الجسم الذي يُزيِّن الآثام ويثبِّط الهمم.
كما سعى لإثبات وجود الله ليس بالمناهج الكلامية المعتادة، وإنما بضرب الأمثلة الحكيمة التي تستثير الفطرة السلمية بالإنسان، والتي لا تعقل وجود مصنوع بدون صانع ولا متحرك من غير مُحرك، يقول: «إذا رأيت هواء يهب، وأوراقًا تهف، وأغصانًا تهتز، فاعلم يقينًا أن هناك من يحرك الهواء، وإذا عجزت أن ترى المؤثر فإنك لا تعز عن أن ترى الآثار». علاوة على تبنيه للحب في كتاباته، فأفرد عشرات الصفحات والمقولات التي تُعلي من قيمته أملًا في أن يهتدي بها الناس وينشرونه بينهم، فيقول: «الحب يحوِّل المُر حلوًا، والتراب تبرًا»، معتبرًا أن تلك العاطفة السامية تصل بالإنسان إلى ما لن يصل له بالطاعات والعبادات فقط.
في العام 672هـ، شهدت «قونية» زلزالًا كبيرًا دامت توابعه أسبوعًا كاملًا، وحين قصد الناس شيخهم الأكبر للدعاء لهم، أجابهم بغموض «الأرض جائعة وتطلب لقمة دسمة»، ولم تمر أيام حتى تحقق وقع كلماته وكان هو «اللقمة الدسمة» التي اشتاقت لها أرض بلاده وصعدت روحه إلى بارئها، وشهدت بلدته ازدحامًا كبيرًا أبطأ مسيرة الجنازة، وجعلها تستغرق يومًا كاملًا، بعد أن شارك فيها أتباع كل الديانات يبكونه، وقرأ عليه اليهود والنصارى التوراة والإنجيل.