ماثيو بيري: أن يقتل باتمان بروس واين
ولد «باتمان» من قلب مأساة، عندما فقد والديه دُفعة واحدة في زقاق مظلم، لم يُجد «بروس واين» تجاوز ذلك الجرح بالهروب منه، بل باعتناقه وتحويله لهوية كاملة، قناع يخفي وجهه ويُبرز مأساته، ولد باتمان في اللحظة التي ماتت فيها طفولة بروس، كثيرًا ما يختلط الأمر حتى لا نعرف هل بروس واين هو الحقيقي وباتمان هو قناعه أم العكس؟
في كتابه «Friends, Lovers, and the Big Terrible Thing» يُعد الممثل «ماثيو بيري» باتمان بطلًا لطفولته، بطلًا يعشقه حتى إنه اشترى منزلًا بعشرين مليون دولار لأنه يشبه منزل باتمان في «فارس الظلام».
ربما لا يعرفه كثير منا باسم «ماثيو بيري»، بل «تشاندلر بينج»، إحدى أيقونات مُسلسل Friends، الذي يُعده البعض الروح الفُكاهية للمسلسل، لو كان العمل مزحة مُطولة ومُتقنة فتشاندلر بينج هو Punchline، السطر الأخير الذي يمنح المزحة منطقها ومُفارقتها الذكية (لهذا أصر على أن تكون آخر جملة في آخر حلقة له) ليُنهي مزحة استمرت عشرة مواسم، ومنحت الخلود له ولرفاقه ولقصة حتى الآن ما زالت تجتذب أجيالًا جديدة وتُخبرهم عن معنى الصداقة والرفاق الذين لن يخذلوك لو أفلست أو فقدت وظيفتك.
في Friends، نُدرك أن تشاندلر هو نُسخة كوميدية من باتمان، ولد من رحم مأساة استهدفت أبويه، لم تكن سطوًا دمويًا بل انفصالًا، أم تتبعت شغفها في كتابة القصص الإيروتيكية وأب تحول جنسيًا ليصير امرأة تاركين خلفهما طفلًا بلا هوية.
في الزقاق المُظلم قرر «بروس واين» أن يكون مُحاربًا للجريمة، وفي تلك اللحظة قرر «تشاندلر بينج» أن يكون مُحاربًا للحقيقة، التي تقول إن أبويه مثلما تخليا عن أدوارهما الرتيبة كأب وأم نحو ذوات أكثر أصالة، فقد تخليا عنه أيضًا باعتباره ديكورًا قديمًا لمسرحية لم يكونوا فيها أنفسهم، لهذا كرس هويته ليكون مُهرجًا، ليُحيل تلك الحقيقة إلى مزحة يختبئ خلفها، المزحة لا تُخيف، والجميع يُحب المُهرج.
يُقرب قناع باتمان الشاب بروس من مُداواة جرحه القديم، كلما جعل مدينته أكثر أمنًا، كلما أيقن أنه سيُجنب مستقبلًا أحدًا من أن يرى والديه يُقتلا في زقاق مُظلم، قناع باتمان يُعالج مأساته العبثية بتضمينها في نسق ذي معنى، بينما قناع «تشاندلر بينج» الساخر حيلة دفاعية تُبعده كل مرة عن مواجهة الحقيقة، إنه جاء لهذا العالم كقطعة إضافية لأحجية مُكتملة، أثر جانبي لكادر كاذب تركه أفراده لأنه أثقلهم، وكلما تذكروا الابن، يتذكرون معه شخوصًا لم يعودوا عليها.
لهذا يكفر تشاندلر بالعالم ويؤمن بأصدقائه، يصيرون الجمهور لدعاباته والعائلة التي تُخفف من وحدته، لا نعرف كثيرًا عن عمل تشاندلر أو شغفه (إحدى دعابات المسلسل عندما لم يعرف أصدقاؤه بعد سنوات من حياته معهم ما هو عمله بالضبط؟)، تبدو المعلومة من لزوميات الحياة، لدفع الفواتير لا أكثر، أما حقيقة تشاندلر أنه صديق جيد ومُهرج جيد، أفعاله مبذولة دومًا لأصدقائه.
يكمن في قلب تلك الهوية الكوميدية قلق مُخيف من اللحظة التي يكف فيها المُهرج عن الإضحاك، اللحظة التي تفقد فيها المزحة رونقها، يوقن بينج وقتها أن أصدقاءه سيتركونه مثل عائلته، لو انحسر قناع المهرج عن حقيقته كطفل مُرتعد لم يغادر أبدًا المائدة التي أخبره عليها أبواه بانفصالهما، لهذا اشتهر بكونه المهرج الذي لا يستطيع التوقف عن إلقاء النكات، حتى في أحلك اللحظات.
لا يُحلل المقال الشخصية التلفزيونية وحسب لكن البطل وراءها، لا تختلف حياة ماثيو بيري كثيرًا عن تشاندلر بينج، بل ربما بطريقة ما كان بينج هو باتمان، وماثيو هو واين، في قصة أكثر مأساوية قتل فيها القناع صاحبه!
مأساة تصنع شخصية كوميدية
خلال التجهيز لشخصية تشاندلر، لم تكن أكثر من People Observer، معلق خارجي على حيوات أصدقائه، يُنهي الحلقة بإفيه يُمرر عبره الحقيقة، حينما جلس «ماثيو بيري» مع «مارتا كوفمان» صانعة المُسلسل، التقط المهرج من الورق ومنحه روحه.
يقول «ماثيو بيري» إنه حلم في طفولته بعد انفصال والديه وهجرة والده لأمريكا وزواج أمه من رجل آخر أن يكون شهيرًا لكي يُحبه الناس ولا يتركونه، ذات يوم دعا ربه أن يسلبه أي شيء في سبيل هذا الحلم، يقول ماثيو إن الرب كان حاضرًا في تلك اللحظة، سوف يُحقق نبوءته لكنه سوف يسلبه كل شيء، مثلما باع البطل روحه في قصة فاوست للشيطان في مقابل الحكمة.
خلال جلسات «بيري» أخبر مُنتجي المسلسل أن «تشاندلر» سوف يولد كرجل خائف من رحم انفصال والديه، أشد ما يرعبه لن يكون سوى الصمت، الصمت الذي يشبه اللحظة التي تلت إخبار والديه له بانفصالهما وتركه، لهذا سوف يُمطر تشاندلر الجميع بالمزحات مثل مهرج مُمتع وفي قلبه خوف من أن تفرغ جعبته من الضحكات فيستغني عنه أصدقاؤه، كان هذا هو الدور الذي لعبه «بيري» في منزل والدته وزوجها لكي يطمئن لانتمائه لهما.
يُكمل بيري رسم شخصية «تشاندلر» من مُعاناته الخاصة، يُخبر المنتجين أنه رجل يخاف من الارتباط، يخاف أن يضع قلبه في يد أحدهم فيُحطمه، لأنه جاء كقطعة زائدة على حاجة العالم، لا يوجد نصف آخر له، لهذا سوف يجعل «تشاندلر» البطل الذي يخاف من الالتزام لامرأة وحتى لو التزم سوف يختلق ألف عيب في حبيبته ليتركها أولًا قبل أن تراه على حقيقته وتفعل هي.
سوف يمارس «تشاندلر» تلك الألاعيب العاطفية على مدار مواسم، وفي الحقيقة سوف يمارس «بيري» الألاعيب ذاتها، يروي في كتابه انفصاله عن أكثر من سبع نساء أحببنه بلا شروط، انتشلوه من أكثر لحظاته سوءًا، إحداهن كانت «جوليا روبرتس»، الممثلة التي كانت في أوج مجدها وطلبت أن تصور حلقة من Friends لإعجابها به، سوف يُحطم قلوبهن جميعًا أولًا خوفًا من أن يروا حقيقته ويتركوه.
منح «ماثيو بيري» من مأساته الشخصية قوس بداية لشخصية «تشاندلر» بينما كان على مُنتجي المُسلسل أن يتوجوا تلك المأساة بنهاية سعيدة، على مدار Friends رأينا كيف صار بينج أحد أكثر الأقواس ثراءً في تحولها من الميكانيزمات الدفاعية والخوف من الهجران لمُحب يرتبط في علاقة طويلة الأمد، كيف تحول من هامستر يركض في دوارة ليمنح النصح والحُب لأصدقائه، عائلته البديلة؟ إلى صديق يُفصح عن مخاوفه وضعفه ويطلب المساعدة أخيرًا موقنًا أن أصدقاءه عائلة لن تتركه، حتى لو عرفوا كل عيوبه. تتوحد تجليات تشاندلر بينج وتُطبب جروحه ويصير كلًا واحدًا ضمن كادر نهاية سعيدة، مانحًا الأمل لملايين ممن أحبوا Friends أن رجلًا مُحطمًا يمكن أن يُصلحه حب امرأة تقبله كما هو وأصدقاء يمكن ألا يعرفوا مهنته أو يستثقلوا دعاباته لكنهم لن يتركوه أبدًا لأنه واحد منهم.
رسم بيري من مأساته الشخصية مع والديه، ملامح شخصية بينج، فهل ألهمته تلك الشخصية التلفزيونية لينال مثلها حياة سعيدة؟ في قصص باتمان، ينقذ دومًا الأخير بروس، يمنحه المعنى ليحيا، هل أنقذت شخصية بينج أو القناع الكوميدي لماثيو بيري حياته؟
أصدقاء وأحباء والشيء اللعين
يتذكر بيري حادثة عندما كان رضيعًا لا يكف عن البكاء، لم يعرف أبواه كيف يجعلانه يصمت؟ عندها منحهما طبيب أخرق الباربيتورات، أحد المهدئات القوية للجهاز العصبي، سكت الطفل أخيرًا وغرق في نوم هانئ.
يقول إن هذا كان تعارفه الأول مع المُخدرات، الصراخ هو لغة الطفل ليعبر عن ذاته، مخاوفه، احتياجاته، تعلم بيري منذ طفولته إخراس تلك الاحتياجات بالمخدرات الكيميائية، يقول إن النوم الهانئ الذي ناله في طفولته لم يكن طبيعيًا، كان فاوستيًا، في صفقة سببها طبيب أخرق سوف تجعله طفلًا هادئًا لكنه لعنته أنه لن ينام طوال حياته أكثر من 4 ساعات متواصلة.
يصف بيري في كتابه لحظات تعرفه على الكحول في سن الرابعة عشرة ومسكنات الألم خلال تصوير فيلمه الأول، بأنها لحظات صوفية، تشبه لحظة الباربيتورات، لأول مرة يختبر العالم خلوًا من الاحتياج، من الخوف، من عدم الارتياح، لأول مرة فكر في أبويه دون أن يشعر بغُصة، لأول مرة رأى الله في السماء، لأول مرة لم يخف من أن يغادره الجميع، تبدلت دماؤه الحارة القلقة بشلالات عسل، بهمس خفي يخبره أن كل شيء سيكون بخير، جعلته المخدرات أكثر جرأة لطلب مواعدة امرأة، أكثر ثقة في إلقاء نكاته التلفزيونية، أكثر سعة ليكون صديقًا جيدًا يرعى أصدقاؤه ويُحبهم.
خلال كتابه لا يصف بيري المخدرات باعتبارها شيطانًا وحسب، بل جنة تسري في عروقه لتجعله كل ما هو عليه، كل ما قدمه الأصدقاء في المسلسل لتشاندلر بينج، قدمته المُخدرات في الحقيقة لماثيو بيري، وبينما كان الجمهور يتعلق بشخصية تتطور باستمرار من دون نكوص، كان بيري في الكواليس يرتجف عندما يلقي نكتة لا تلقى ترحيبًا، فيتعاطى مزيدًا من المخدرات ليصير أداؤه أفضل.
بنهاية الموسم الثالث بات يتعاطى 55 حبة فايكودين يوميًا لتعينه على التمثيل، وفي ذروة المسلسل، عندما يُشفى تشاندلر أخيرًا من مخاوفه ويطلب الزواج من مونيكا، في حلقة أكملت قوس الشخصيتين، كان بيري قد جاء لتصويرها من مصحة الإدمان ليمنح تشاندلر نهايته السعيدة بينما هو يُعاني.
يقول بيري في كتابه إنه لم يكن انتحاريًا، كان يدرك أن المخدرات تقتله، لكنها امتلكت السمة الوحيدة التي لا يملكها البشر، إنها صديق لن يغادره، لن يتركه مثل أبويه، لن يتركه مثل أصدقائه في المسلسل الذي وصف حياته بينهم مثل رجل يحمل خزيًا يخاف أن ينكشف فينبذونه، ورغم أنهم لم يفعلوا فإنه ارتعب طوال الوقت من نكسة إدمان تحدث خلال التصوير وتُحطم تقدمهم بسببه.
يقول بيري إن أباه تعافى من إدمان الكحول بقرار ليلة، استيقظ اليوم التالي ولم يتذوق الخمر أبدًا، يسخر من سهولة الأمر بينما هو احتاج 7ملايين دولار واحتجاز في مصحة مرتين بالأسبوع على مدار 30 عامًا. يقول بيري إن السبب هو أن حياة والده تخلو من قناع تشاندلر بينج، تخلو من ضغوط شخصية تلفزيونية تعلق بها ملايين وكان عليه أن يروض شياطينه بالمخدرات ليؤديها.
ذات ليلة أقام طفل صفقة فاوستية مع الرب، نال فيها الشهرة ودفع ثمنها عقلًا صُمم بعناية لقتله، عقلًا انغلقت فيه كل مستقبلات اللذة واحتاج معها بيري للمخدرات والكحول ليشعر بشيء، يقول إن المخدرات لا تجعله سعيدًا لكن من دونها لا يُمكنه اختبار سعادة الأشياء، كان نجم أكبر مسلسل تلفزيوني في العالم، كان معشوق جوليا روبرتس، امتلك 80 مليون دولار، لكن وحدها المخدرات هي ما تجعله يُخرس هواجسه حتى يستمتع بكل ذلك، هي البساط السحري الذي يخرج به من لحظة باتمان، الزقاق المظلم اللعين الذي هجره فيه والديه لأنه قطعة زائدة على حاجة العالم.
مثل تشاندلر بينج، لم يملك بيري في حياته هوايات كثيرة، فقط إنفاق نقوده على منازل عملاقة تحوي إطلالة بانورامية على المدينة، إطلالة تذكره بشباك الطائرة التي كان يركبها وحيدًا في سن الخامسة ليزور والده في أمريكا، لم يملك أبويه وقتًا لمرافقة طفل يرتعد وحيدًا في طائرة فوق السحاب، صار الطفل الوحيد رجلًا في الخمسين يروض مخاوفه القديمة بالنظر من إطلالة على المدينة البعيدة والحلم بأن أحدًا يحبه، ينتظره بالأسفل.
كابوس تشاندلر، نبوءة بيري
في إحدى حلقات Friends يموت الجار «هيكلز»، وتتحول الحلقة للحظة هلع لتشاندلر عندما يرى في شقة العجوز صورة من مستقبله، سوف يصير مثله، عجوزًا، عكر المزاج، لن يتزوج، لن يمتلك الشجاعة أبدًا ليفصح عن هشاشته ويمنح قلبه لامرأة، سوف يتزوج أصدقاؤه جميعًا ويتركونه، يحتضنه أصدقاءه ويخبرونه أنه لن يكون مثله، يلقي تشاندلر تحية أخيرة على منزل هيكلز ومن بعدها تتطور شخصيته بعيدًا عن هذا المصير المُرعب.
في الخمسين يكتب بيري القصة الأخرى، كان ثمن نجاح واكتمال شخصية بينج هو أن يتحول بيري إلى هيكلز، لا ينهي بيري كتابه نهاية تعيسة. لقد قتله مسلسل Friends مرات لكنه أنقذه مرات أيضًا، لا ينسى المرة التي توقف فيها قلبه على الطاولة بسبب المخدرات لكنه نجا بجهود طبيب يعشق Friends صرخ في رجاله أن تشاندلر لن يموت على طاولته وأعاده للحياة بجهود إعاشة مضنية.
يكتب بيري قصة حياته عن الحب والمسلسل الأجمل في حياته وحياتنا، وعن ألف مرة مات فيها ثم عاد مرة أخرى، عن سلام عقده مع ربه بعد صفقة فاوستية دمرت علاقتهما، يقول إن الإدمان جعله يحيا يومًا بيوم، يحيا بالخوف من العودة للمخدرات وبالامتنان لكل يوم يقضيه متعافيًا، يقول إن الرب أبقاه حيًا حتى الآن لسبب لا يعرفه، وعليه كل يوم أن يستكشفه، وربما أحد تلك الأسباب أن يقدم المساعدة لملايين مثله ممن ورثوا عقلًا إدمانيًا مصممًا لقتلهم. منح تشاندلر بينج الأمل لكثيرين في أن يجدوا شريكًا مثل مونيكا يقبلهم رغم ما هم عليه، ويحاول بيري أن يمنح الأمل لكثيرين مثله في أن يجدوا في قصته طيفًا من أمل ونجاة.
في طفولته ارتدى بروس واين قناع باتمان لكي يمنح مأساته معنى، وفي كتابه يخلع ماثيو بيري قناع تشاندلر بينج بمزيج فريد من الارتياح والإمتنان، نحو هوية أكثر أصالة، نحو خروج أكثر صحية من طفولته الخائفة، من زقاقه المظلم، لقد منحه تشاندلر بينج كل شيء، وسلبه كل شيء، لقد منح مأساته الطفولية لشخصية تلفزيونية، أكملت سعادتها وقوسها بسجنه للأبد في مأساة الإدمان، علمنا تشاندلر بينج كيف يدفع المرء مخاوفه بأن يفصح عن هشاشته لأصدقاء لن يتركوه ويعلمنا ماثيو بيري أخيرًا كيف أن هذا الحل التلفزيوني أكثر جمالية وحقيقة بكثير مما جربه في حياته، أن تشاندلر كان مُحقًا في ذلك، يقول أخيرًا: