المعلّم يعقوب: البحث عن استقلال مصر أم تبعيتها؟
في دراسته «الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر سنة 1801»، يلفت المؤرخ المصري شفيق غربال نظرنا إلى مجموعة من الحقائق التي تستحق التأمل عن النشأة الأولى للوطنية المصرية بمفهومها المعاصر، وعن التجربة الأولى لتأسيس جيش مصري على النسق الغربي الحديث.
يذهب غربال إلى أن مغادرة المعلّم يعقوب مصر في عام 1801 مع جنود الحملة الفرنسية المنسحبين وذهابه إلى أوروبا كانت محاولة جادة للمطالبة باستقلال مصر عن الدولة العثمانية، ويربط بين «الفيلق القبطي» الذي أنشأه المعلم يعقوب والجيش الحديث الذي شكّله محمد علي، من حيث الاستعانة بالخبرة الفرنسية، ومن حيث اتباع النسق العسكري الغربي في تدريبه وتسليحه.
تلتقي هنا محاولة غربال الذي كان معجبًا كثيرًا بالمعلم يعقوب من حيث لم يحتسب مع مقاربة تميم البرغوثي الشاعر والباحث السياسي التي جاءت بعد ذلك بعقود في كتابه «الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار» في أن التعبير السياسي عن القومية المصرية كان في جوهره جزءًا لا يتجزأ من العملية الاستعمارية ومرتبطًا ارتباطًا وثيقًا به، وذلك من خلال عملية إعادة التسمية أو التعريف الاستعمارية لسكان وادي النيل بصفتهم أمة سياسية منفصلة بالتعريف والهوية عن محيطها العربي والإسلامي.
من هو المعلم يعقوب؟
شفيق غربال
في إطار هذه الخلفية الاجتماعية، نشأ يعقوب في ملّوي بصعيد مصر،والتحق في شبابه بالعمل مع كاتب قبطي يتولى مسئولية جباية الضرائب لأحد المماليك خلال عهد علي بك الكبير.
تعرّف يعقوب إلى الفرنسيين أيام الحملة الفرنسية عن طريق المعلم جرجس الجوهري أحد كبار المبشرين الأقباط في عهد بونابرت، وقد افترق طريقه بعد ذلك عن طريق يعقوب، حيث استمر المعلم جرجس في وظيفته الأولى كأحد كبار جباة الضرائب، بينما شكل يعقوب في المقابل الفيلق القبطي الذي كان ملحقًا بالجيش الفرنسي المحتل للبلاد.
تشكّل الفيلق القبطي الذي قاده يعقوب في معظمه من العمال والصناع الأقباط الذين كانوا يعملون في خدمة الجيش الفرنسي في الصعيد، وقدّر عدده بين ثمانمائة إلى ألفي جندي.
أحاطت العلاقة الخاصة بين المعلم يعقوب والجنرال الفرنسي ديزيه عديد علامات الاستفهام التي أبداها المؤرخون، حيث ثارت أسئلة وتكهنات حول طبيعة تلك العلاقة، هل كانت علاقة صداقة فكرية تأثر من خلالها يعقوب ببعض أفكار الثورة الفرنسية؟ أم علاقة جسدية كما أشار بعضهم بحسب غربال؟
جدير بالذكر أنه بعد بدء الفرنسيين في سحب حملتهم العسكرية من مصر، رفض يعقوب الأمان الذي أعطاه له العثمانيون وأصرّ على الرحيل مع بعض أتباعه مع الحملة إلى فرنسا، وتوفي على متن السفينة التي غادر فيها في عرض البحر قبل وصوله إلى هناك.
من هو الفارس لاسكاريس؟
يعود نسب ثيودور لاسكاريس لبيت إيطالي نبيل تعود جذوره إلى عهد القيصرية الرومانية، انضم الأخير هو وأخوه إلى سلك فرسان القديس يوحنا الذين كانوا يحكمون جزيرة مالطة إلى أن انتزعها منهم بونابرت في عام 1798.
ترك لاسكاريس مالطة وتبع بونابرت الذي كان في طريقة آنذاك إلى مصر، واستطاع أن يتقلّد بعض المناصب الإدارية. وفي مصر، تعلم العربية وتزوج قوقازية من جواري أحد الأمراء.
في مصر، كتب لاسكاريس وفكر في طرق حكمها ودرس فكرة إقامة قناطر حاجزة عند تفرع النيل في رأس الدلتا، واقترح إقامة عاصمة جديدة للبلاد هناك يحميها الماء من ثلاثة جوانب، وتجتذب إليها خيرات الوادي من منابع النيل، واقترح تسميتها «مينوبوليس» إجلالًا للجنرال مينو قائد الحملة الفرنسية في مصر بعد مقتل كليبر.
وهنا يطرح شفيق غربال تعليقًا على هذا الانجذاب والاهتمام بمنابع النيل، تساؤلاً وهو: ألا يمكن أن نجد مغزى خاصًا في أن إسماعيل فاتح السودان (نجل محمد علي باشا) كان تلميذًا للاسكاريس قبل الفتح؟
كان لاسكاريس يؤمن بأن مصر يجب أن تستقل كدولة عن التبعية الأجنبية بحكم تاريخها ومواردها، ورأى أن على الحكومة الفرنسية أن تعمل على تحقيق استقلال مصر، وأنها إذا ما قررت الجلاء فإن عليها أن تقوّي «الفيلق القبطي» الذي كان تحت إمرة المعلم يعقوب، بحيث يستطيع ذلك الفيلق أن يكون قوة وازنة في إيذاء العثمانيين والمماليك. واجتذب لاسكاريس إلى مشروعه هذا فرنسييْن آخريْن هما المستشرق مارسل والضابط ديبا حاكم القلعة، وتواصل لاسكاريس في هذا الإطار أيضًا مع يعقوب الذي كان يسعى لأن يجعل من فرقته العسكرية القبطية طليعة للاستقلال.
حاول لاسكاريس أن يقنع الجنرال مينو بكل هذا، إلا أن الأخير لم يقتنع لقلة ثقته بالفارس وبالأقباط المصريين عامة، والمعلم يعقوب بوجه خاص، واضطر لاسكاريس في النهاية بعد انسحاب الفرنسيين من مصر أن يغادر مع المعلم يعقوب على ذات السفينة، وظل يتجول بعد ذلك في بلاد الشرق سنين، ثم عاد بعد ذلك إلى مصر وبقي فيها إلى أن مات في عام 1817.
مشروع استقلال مصر في سنة 1801
يقدم شفيق غربال تصورًا خاصًا لهجرة المعلم يعقوب مع خروج الحملة الفرنسية في مصر، حيث يرى غربال أن الأخير ذهب لتحقيق «مشروع خطير» على حد وصفه هو الحصول على اعتراف الدول الأوروبية باستقلال مصر.
جدير بالذكر أن السفينة التي غادر فيها يعقوب والفارس لاسكاريس من مصر كانت سفينة حربية إنجليزية تسمى «بالاس»، وقد تعرف أدموندس ربان تلك السفينة إلى يعقوب ودعاه للتحدث معه في شئون مصر، وقد قال يعقوب لذلك الربان بحسب ما يروي غربال إنه لم يؤيد الاحتلال الفرنسي إلا لتقليل ما حاق بمواطنيه من أذى، وأنه صدّق ما ادعاه الفرنسيون من أن دولتهم هي أقوى الدول الأوروبية، ولم يكن يدرك آنذاك مدى القوة البحرية الإنجليزية.
بحسب غربال، ذكر يعقوب أيضًا لربان السفينة «بالاس» أنه يرجو أن يسعى لدى الحكومات الأوروبية لتحقيق استقلال مصر، وأن هجرته إلى أوروبا قد تنفع في هذا السبيل، على أنه يعلم أن إدراك هذه الغاية مستحيل دون موافقة الحكومة الإنجليزية.
تستدعي رؤية غربال عن مشروع المعلم يعقوب كما قد أشرنا إلى رؤية تميم البرغوثي عن قضية الاحتلال والمطالبة بالاستقلال، حيث تقع في المنتصف نخبة «وطنية »منتفعة تسعى للتوفيق بين الإرادتين المتناقضتين، أي المطالبة بالاستقلال الشعبي ومصالح المُحتل، حيث تكون بنهاية المطاف الوسيلة للتوفيق بين هذين المتناقضين هى القُدرة على تقديم أكبر تنازلات وإعطاء أكبر ضمانات للمستعمر حتى يسمح لهذه النخبة بأن تحل محله.
ولكن بعيدًا عن أي تحليل أو تقييم من جانبنا، فقد كان مصير مشروع 1801 تاريخيًا هو الإهمال، وكذلك كان مصير أصحابه الذين سقطوا من الذاكرة الوطنية المصرية، بل وتم تصنيف أصحابه من التيار الرئيسي من المؤرخين والباحثين في مصر والعالم العربي بوصفهم «خونة» راهنوا على المحتل وسقط مشروعهم بسقوطه.