حينما يأتي ذكر عادل إمام، يكون من الواجب تذييل ذكره كممثل، بالزعامة والصدارة المطلقة والارتقاء المستمد من التاريخ الطويل عن النقد، أو محاولة إعادة إنتاج محطات مهمة من تاريخه كممثل، من خلال وضعها في سياقات متعددة، أو تعريضها لأسئلة ناقدة، أو حتى محاولة النظر لأي منتج سينمائي/ درامي/ مسرحي للزعيم نظرة متأملة، تحتمل الإعجاب وعدمه.

التضخّم الكبير لزعامته وحضوره المركزي منذ أول الألفينيات، لا يقلل على أي مستوى من مسيرته المميزة كممثل لديه تاريخ شخصي، يتوازى مع تاريخ جيل سابق أو تابع له، وربما يستطيع عادل إمام أن يقف أمام زمرة كبيرة من جيله فترجح كفّة إبداعه السينمائي. لكن من ناحية أخرى، السوق السينمائي المصري لديه ثوابته، حتى يتقبل أن يظل قائماً بأكواده الكبرى، وبنظم إنتاجه طويلة اليد وحادة اللسان، نظم تنجّم وتلغي نجومية أحدهم بجملة آمرة. هناك أب كبير ضروري وجوده، الأب المنتج والأب المخرج والأب الكاتب، وكذلك أبوّة التمثيل.

منذ أول الألفينيات، حيث الفقر السينمائي في مسيرة الزعيم، بخاصة بعد فيلم عمارة «يعقوبيان»، عادل إمام الذي كان يعمل على أربعة أو خمسة أفلام في سنة واحدة، أصبح يقدم عدداً قليلاً من الأفلام، بعضها جيد وبعضها سيئ، خلال عقد كامل.

ثمة أسئلة تفرض نفسها عند النظر إلى مسيرة الزعيم، بخاصة مع زخم التقاطعات السياسية والثقافية مع مشواره كممثل، بدأ الظهور في السينما منتصف الستينيات، ومنذ منتصف السبعينيات وهو نجم أفيش وشبّاك، مرّت سينماه مع تطورات كبرى، محطات فارقة، وتاريخ يعيد إنتاج نفسه بأبدية الدائرة المفرغة.

وجود عادل إمام، كممثل وفاعل سينمائي مؤثر، خلال سياسات متناقضة، مثل عبد الناصر، والسادات من بعده، ومن ثم الاستقرار خلال حكم مبارك على شكل الإنتاج الذي مهّدت له مرحلة السادات. معاصرة سينما إمام واشتباكها مع إشكاليات الخطاب الديني، وطبائع الإسلام السياسي، ثم العقد الأول من الألفينيات، سينما هادئة ووديعة، والزعيم أصبح نجماً وحاضراً بأفلام جديدة أو من دونها، يدفعنا سياق المرور على السنوات الفائتة القريبة حتى نقف إلى هنا.

كل هذا التاريخ، مادة خام للتساؤل، نموذج يمكن من خلاله قراءة وضع سينمائي كامل، لكن الأب الكبير لكل نجوم السينما، الذي يتم توجيه الشكر له دائمًا، بمناسبة ومن دون مناسبة، يرتفع مع تاريخه الحافل، عاليًا، بعيدًا عن النقد.

ثمة أسئلة كبرى، وثمة أسئلة أخرى منزوية على الهامش، تتعلق بتطورات الزعيم نفسه، كنموذج للذكورة في السينما، سؤال بديهي يفرض نفسه من انفراد الزعيم بصفوة ممثلات الألفينيات، مع ضرورة تقبيل جميعهنّ، في معظم الأفلام، سواء استدعى السياق ذلك أم لا.

بداية من فيلم «نص ساعة جواز- 1969» ودور عادل إمام فيه، الذي يبحث عن القبلة لا الضرب، مرورًا بعادل إمام في سلام يا صاحبي، الذي لا توجد امرأة لا تحبه، وانتهاء بعادل إمام الألفينيات، المتجاوز لحدود أخلاقيات السينما النظيفة، كيف كانت أجزاء من سينما الزعيم انعكاس لذكورة الممثل المصري، أو ربما انعكاس لذكورة ثقافة سائدة لمجتمع.

الستينيات والسبعينيات: من ممثل إلى نجم

الأستاذ يوسف شعبان يبوس إنما أنت تنضرب وبس

بدأ عادل إمام مشواره الفني في منتصف الستينيات، من خلال ظهوره مع النجم الراحل فؤاد المهندس، في مسرحية وفيلم «أنا وهو وهي- 1964» فيلم من كوميديا الستينيات، والتي ظل عادل إمام تحت لوائها طوال العقد، بأدوار ثانوية تثقل حضوره فيلم وراء الآخر.

خلال هذه الفترة، رغم انتشار أفلام الكوميديا الاجتماعية، واتجاه ممثلي المسرح إلى السينما بشكل جماعي، لكن السينما المصرية وقتها– كمشروع- كانت تحت عين عبد الناصر، التجربة النضالية كانت تحتاج إلى تطعيم فنّي، محتوى مؤدلج يصدّر طباع المرحلة وتفصيلات الخطاب السياسي الناصري، الذي يعتمد على أسس قومية، تمسك بالهوية العربية، استدعاء معاصر للتراث، مثل أفلام يوسف شاهين «الناصر صلاح الدين، الأرض» وتحفة شادي عبد السلام «المومياء» آخر أفلام هذه المرحلة، وآخر فيلم أنتجته المؤسسة المصرية العامة للسينما، التي أنشأها عبد الناصر كمؤسسة قطاع عام للإنتاج السينمائي.

لم يكن عادل إمام فاعل مشارك في مشروع السينما الناصري، رغم أن الأول في تصريحاته خلال النجومية المقدّسة، كان يستفتح كلامه عن عبد الناصر باعتباره أب وزعيم . لم يشتبك صاحب الزعامة السينمائية مع الوضع السياسي، إلا بعد تحقيق نجومية كبرى، وخلال ظروف سياسية تضمن له رضا ومباركة ودعم حكومي واتساق مع خطابها.

مسرحية أنا وهو وهي
مسرحية أنا وهو وهي

الظرف التاريخي، وطبيعة النشأة في بيت من الطبقة المتوسطة، وأيضاً دخول الوسط السينمائي مبكراً في أول العشرينيات، كلها أسباب دفعت عادل إمام إلى المشاركة الفعالة في السينما «اللايت» التي لا تخاطر ولا تريد الصدام بالدعم أو النقد، سينما الستينيات الخفيفة شكلت نقلة نوعية من حيث أداة تقديم المحتوى، السينما بدلاً من المسرح، لأن السينما في الستينيات، تعني أجوراً أكبر، وفرص مشاهدات أعلى، وتطوراً في مستوى النجومية لديه فاعلية أكثر من المسرح.

استقبلت السينما المصرية في مرحلة الستينيات، بوادر مناهضة أفكار ذكورية في المجتمع، معظم هذه البوادر كانت أفلام في الخمسينيات إخراج فطين عبد الوهاب، فيلم (الأستاذة فاطمة – 1952) بطولة فاتن حمامة، يعالج مشكلة المرأة العاملة، والنظرة الدونية لها كطرف مجتمعي يستطيع أن يحدث فارقاً وإنجازاً فردياً في سوق العمل. فكرة أخرى، أكثر قوّة، وأكثر صدامية، وربما تعتبر إحدى علامات السينما المصرية في أفلام العبور الجنسي (فيلم الآنسة حنفي) مع اعتبار أنها كانت فكرة ظاهرها السخرية، وتحاول أن تعالج النظرة الذكورية للمرأة بطريقة كوميدية.

امتدت تيمة الأفلام نسوية المحتوى إلى الستينيات، ظهرت أفكار خلّاقة أكثر، طليعية وتقدمية أكثر، وبدأ ظهور تطور في الأداة الفيلمية، تقديم مركب لمشكلات مجتمعية، تطور في المادة الحكائية للأفلام، وكذلك تبلور القدرة السينمائية وتصاعد الشكل الإبداعي لجيل المخرجين وقتها، صلاح أبو سيف وهنري بركات بشكل خاص، لأن الاثنين كانا مرآة للواقع المصري المحلّي في هذه المرحلة.

مر عادل إمام إلى السبعينيات مرور الكرام، اللهم إلا من فيلم «مراتي مدير عام» لفطين عبد الوهاب، فيلم بنفس أدوات كوميديا الخمسينيات، يعالج فكرة حق المرأة في العمل والمشاركة في إحداث فارق مجتمعي.

بدت أفلام إمام في السبعينيات، محاولة تعزيز حضوره كنجم صف أول في السينما المصرية، تطورات السوق الإنتاجي في السبعينيات، أضافت حيثيات جديدة لفرص النجم الممثل في الحفاظ على الحضور، لم تعد السينما في السبعينيات ضمن حسابات الدولة، ومنذ بدايات حكم السادات، بدأ يمهّد الأخير لخصخصة القطاع السينمائي، وتجاوز المشروع الناصري ككل، والانفتاح على العالم ومحاولة الاشتباك مع الفكرة التجارية العالمية، التي تستقطب النجاح التجاري أولاً.

 عادل إمام من فيلم مراتي مدير عام
عادل إمام من فيلم مراتي مدير عام

استوردت السينما المصرية نموذج بطولة النسوة متفجّرات الأنوثة، سيدات بأجساد رشيقة، جميعهن مفروزات كما يقول الكتاب، الممثلتان ميرفت أمين وسهير رمزي كانتا إحدى علامات هذه النوعية من الأفلام، عند هذه النقطة، بدأ الخطاب النسوي في السينما المصرية يتراجع، لصالح تحقيق مصالح إنتاجية أكبر من محاولات تقديم أفكار تشتبك مع إشكاليات مجتمعية.

الأزمة لا تقع في الحضور الجنسي في أفلام السبعينيات، هذه المرحلة هي إحدى أكثر المحطات التاريخية في السينما، التي حاول الفيلم المصري فيها أن يفرض حضوره على تعسّفات الرقابة، لكن تأثيرات الفكرة الواردة من الخارج أحالت هامش الحرية في الفيلم إلى سلّعة ربحية، باعتبار أن الفيلم الذي يحتوي على أنثى وهامش واسع من المشاهد الجنسية، هو بالضرورة فيلم يضمن فرصاً أكبر لنجاح إنتاجي واتساع في بقع التوزيع.

من هنا بدأ ظهور الحاجز النوعي بين السينما، لكن لم تكن هناك حواجز نوعية بين الممثلين، يمكن لممثل أن يشارك في فيلمين في نفس السنة، فيلم جماهيري، إنتاج سريع وأفكار رجعية، وربما اعتماد ذكوري على تسلّيع الحضور الأنثوي، كأداة لتحقيق الربح، وفي نفس الوقت، يصوّر فيلم آخر كتابة نجيب محفوظ أو إخراج يوسف شاهين أو سعيد مرزوق أو غيرهما من صنّاع الأفلام الانتقائية.

المدد الإنتاجي الواسع، مثلما عزز نجومية جيل إمام ورفاقه، ساعد في ظهور أفلام بأفكار لم تكن لتظهر إلا خلال هذه المرحلة من التغاضي الرقابي المؤقت. أفلام مثل ثرثرة فوق النيل والاختيار والمذنبون، وأخيراً «إحنا بتوع الأتوبيس»، بوابة الزعيم للفيلم السياسي، التي سيغلقها طيلة الثمانينيات، ويستعيدها في وقت آمن أكثر، ومناسب أكثر، خلال التسعينيات.

الثمانينيات والتسعينيات: من نجم إلى زعيم

مرحلة الثمانينيات، هي المرحلة التي بدأ عادل إمام فيها أن يبلور مشواره الفنّي بنفسه. قبل ذلك، وخلال الستينيات والسبعينيات، كانت محاولة تثبيت قدم، كي يكون هناك صوت نجومي كاف، للاشتراط والقدرة على الانتقاء، وتحديد أي نص تكون المشاركة فيه أفضل، وأي فيلم جديد يكون إضافة لتاريخ شخصي.

توجه إمام في الثمانينيات مختلف عن مجموعة مسيرته التمثيلية السابقة. جاء الانفتاح الاقتصادي ومعه سينما تجارية سريعة الإنتاج، تقوم هذه السينما أولاً على تسليّع المنتج السينمائي، وبالتالي يتم تسلّيع كل أطراف تكوينه، الجميع أدوات استثمارية لتحقيق ربح. تحوّل الجانب النسائي في معظم هذه الأفلام، إلى أدوات جنسية، وتحوّل النجوم الذكور إلى أدوات للاستثمار، حيث يتم تصوير الفيلم في متوسط زمني من أسبوعين لشهر، وتقوم القوة الربحية للفيلم على توزيع الشرائط وليس شبّاك التذاكر.

من ناحية أخرى، وبسبب سعة ذلك الهامش، ظهرت موجة سينمائية جادة، مجموعة شباب مشغول بهموم مواطن الطبقة المتوسطة، وتبعات النظم السياسية المحلّية على الناس، عاطف الطيب وخان ورأفت الميهي وداوود عبد السيد وخيري بشارة، وأساتذة الإخراج السابقون ولكن بكم فيلمي أقل، باستثناء شاهين الذي لم يكف عن العمل حتى وفاته.

قدم في الانتقائي وأخرى في التجاري الدارج، تاريخ شخصي يتم تعزيزه، وتعزيز للنجم الشعبوي الذي تتصاعد مساحات بطولته، ما بين السينما والدراما والمسرح.

شهدت مرحلة الثمانينيات في أفلام إمام تقديم أفكار متضاربة، أفلام بشخصيات فارقة، مهمومة بوضعها الطبقي ولديها التزام جاد تجاه إثبات حضورها سينمائيًا، هي آتية من هامش يحاول أن يزاحم مركز الصورة كي تبدو، كي تعبّر عن أزماتها وتداعي القرار السياسي على أحقيتها في الحياة ولو بمصادر أولية، شخصيات فريدة في الأداء السينمائي مثل حسن سبانخ في فيلم «الأفوكاتو» مع رأفت الميهي، فارس في فيلم الحريف مع محمد خان، وأفلام أخرى تشتبك مع بعضها في تعددية مميزات عناصر الفيلم «حتى لا يطير الدخان- الغول- حب في الزنزانة- كراكون في الشارع».

حسن سبانخ وعبد الجبّار من فيلم الأفوكاتو
حسن سبانخ وعبد الجبّار من فيلم الأفوكاتو

على الناحية الأخرى، بدأ بزوغ نموذج الزعيم الذي يعكس جوانب الذكورة في المجتمع، في محاولة تقف في مساحة التباس، بين واقعية التقديم، وتصدير هذه النماذج بصورة بطولية، تستحق الحفاوة، وتتم مباركة حيثيات عيشها، كيف تحب، وكيف تتفاعل مع الحضور النسائي في محيطها، باعتبارها هي الأساس الفاعل، والطرف المتحكم، المنفرد بالسيادة، بينما يظل الطرف النسائي مفعول به، يشتبك ليساعد في تطعيم مسيرة البطولة.

تنطبق الفقرة السابقة بشكل كبير على نتاجين من نتاجات الزعيم، أولهم فيلم «سلام يا صاحبي» الصادر سنة 1987. وبصورة أكثر تفحّش وابتذال، في مسرحية «الواد سيد الشغّال» الصادرة في عرضها الأول 1986. مسرحية سيد الشغال خصوصاً، لا تشتبك مع ذكورية الطبقات المتوسطة وما دونها، بقدر ما تحاول أن تستخدم الحضور الجنسي، كأداة مبتذلة للسخرية، باعتبار أن المشاهد المحروم، سيكمل المشاهدة بشكل أو بآخر، طالما هناك احتكاك جنسي ساخر.

اللعب على مساحة السخرية من خلال نشاط جنسي، بعيداً عن مدى ذلك النشاط، وإن كان حتى مبدئياً، يبدو أنه محاولة سد فراغ الحاجة عند الطبقة المتوسطة، ما بين الرغبة والقدرة. الوعي الجمعي مفعم بسخرية جنسية، ذات ذكورة طافحة، فقط في خطابها اللفظي، يمكن تتبّع ذلك خلال جلسة بين الأصدقاء على المقهى، وإلقاء جملة تفتح حوار في ذلك السياق، وأغلب الحاضرين سيطفح خيالاته الجنسية بصورة لفظية، كتعويض مسكين، لاجئ وفقير، عن القدرة على الممارسة.

الواد سيد الشغال، الذي يتجاوز هذه المساحة ببساطة، يقفز من الرغبة إلى التحقيق بسرعة، ويصبح نموذجاً جديراً بالمشاهدة، لأنه ما زال على فقره وحاجته، مع مراعاة أن عادل إمام، في بنيته الجسمانية، وتقاسيم وجهه، هو نجم مناسب للطبقة المتوسطة، لأنه بالمعايير الجمالية للسينما وقتها، ليس نجماً وسيماً.

https://www.youtube.com/watch?v=1J1CCzi3RwM
مسرحية الواد سيد الشغال

يستفتح إمام مرحلة التسعينيات بفيلم يتشابه مع طبيعة محتوى مثل «سلام يا صاحبي»، ومثل شخصية سيد الشغّال. تجاهل المساحة البائسة، بين الرغبة والقدرة لدى جموع الطبقة المتوسطة، بدت فكرة لها شعبيتها، ولها قدرتها على تحقيق ميزات أكثر لنجم بعينه.

استكمالات لنفس ثيمة العمل السينمائي في الثمانينات، بدأ الزعيم في إضافة بعد جديد لمسيرته الفيلمية، «مشروع» سينمائي يشتبك مع الوضع السياسي الراهن، يناهض الثلاثي شريف عرفة ووحيد حامد وعادل إمام، الخطاب الديني المعاصر، وطبيعة النشاط المستتر لتيارات الإسلام السياسي. من ناحية أخرى، ظهرت فلتات كبرى، ليست في مسيرة إمام فقط، وإنما في طبيعة الفيلم المصري وحرفية الكتابة السينمائية، مثل فيلم الإرهاب والكباب.

انشغل إمام خلال التسعينيات بأفلامه السياسية، والتي عطّلت بصورة ما تدفق الطبائع الذكورية التي كانت تتشكل أكثر مع تزايد أفلامه، بخاصة الرومانسية/ الكوميدية منها.

سينما الكلمة الواحدة والقرار الواحد

ظهر تيار السينما النظيفة مع الجيل الجديد الصاعد، وأفلام هنيدي التي بشّرت بتنظيف السينما المصرية من الإغراء والعري والإسفاف، سينما فعّالة مثل مساحيق الغسيل، وأفلام يتم صناعتها على مقاس العائلة في المنزل، أما عن تاريخ العلاقة الفردية بين الفيلم والمتفرج في صالة السينما، وحيثيات القراءة النفسية لذلك التاريخ المشتبك، والمهم، كل ذلك لا تتجاوز قيمته أن يتم ضربه بعرض الحائط. السينما النظيفة، سينما مناسبة للتديّن الوسطي الجميل، و الطموح الإنساني النبيل، همام المسافر بخيبته إلى أمستردام والعائد بالزوجة الجميلة والعملة الصعبة والنجاح الفتّاك إلى بلده مرة أخرى، وخلف الصعيدي الذي يتجاوز التراتبية الطبقية بين سكّان المدن الكبرى والأقاليم، ويخلق نجاحه الخاص. سينما نماذجها مغسولة بفاعلية، نظيفة وجميلة ومتطورة، نقية ومنتصرة.

مع صعود السينما النظيفة، وانتباه جهات الإنتاج إلى النجوم الجدد، تراجع ما تبقى من جيل الواقعية في السينما المصرية، أصبح كل طرف منهم يحلّق منفرداً، بفيلم يومض كل عدة سنوات، وبدأ أكواد السينما النظيفة المتينة تحتّد أكثر، وأصبح لتيار السينما النظيفة أعمدة مؤسسة ومؤثرة، المدد الإنتاجي الخليجي من ناحية، شركة العدل جروب من ناحية أخرى، والموزع/ المنتج الراحل محمد حسن رمزي.

لكن هل طالت الأكواد الأخلاقية للسينما النظيفة كل شيء؟ بالطبع كانت أقل قدرة على أن تحجّم الزعيم، والأخير بدوره بدأ في البحث عن أفكار معاصرة، صعود الجيل الجديد ظاهره السعادة والمباركة باعتبارهم أبناء، وباطنه تهديد مباشر وإنهاء إجباري مسار زعامة يمكن أن يظل ممتد.

عادل إمام ونيكول سابا - فيلم التجربة الدنماركية
عادل إمام ونيكول سابا – فيلم التجربة الدنماركية

في مثل هذه الأوقات الفارقة، يمكننا إدراك الحيثيات الأكثر تأثيراً في مسيرة الفنّان، لم يستعد عادل إمام أفكاراً منتقاة مثل بعض أفلام الثمانينيات، أو حتى يشتبك مع سخرية معاصرة، بل اعتمد على إرث ذكوري مختبئ في سينماه السابقة، رغم أنه خلال هذه الفترة، كانت لديه قدرة إنتاجية، وكان المتبقي من فناني جيله كفاية لصنع أفلام تختم مسار جيل هو الأكثر أهمية في التاريخ القصير للسينما المصرية، لكن الرغبة في البقاء النجومي، في الحفاظ على الصدارة والظهور، أحال إمام إلى أفلام حتى عامل السخرية فيها، بدا مبتذلاً وسيئاً وسخيفاً.

فيلم «التجربة الدنماركية» بدأ هوجة استقطاب ممثلات لبنانيات من الخارج، يقوم على استغلال أن المجتمع اللبناني ينتمي إلى الطباع الغربية، أكثر من اشتباكه مع العربي المحلّي وتحكماته الأخلاقية. أولاً، استقطاب نجمات من بلد بعينها، لأنه بلد معروف باتساع أفق الحرية الجنسية، ومن ثم التعامل مع هؤلاء النجمات، بناء على مدى اتساق أجسادهن مع المعايير النموذجية للأنوثة في السينما.

البداية كانت عند اختيار عادل إمام نيكول سابا، التي كانت وقتها مغنّية وموديل، ولم يسبق لها أي فرصة أدائية من قبل. خلال الفيلم، يظهر الفقر الفنّي والكفاءة الأدائية المحدودة عند نيكول، فقر لا يأتي من محدودية موهبة فقط، وإنما من محاولة تقديمها بمعايير جنسية نموذجية.

تلت تجربة نيكول سابا تجارب أخرى، أكثرها حضوراً، وتشابهاً في سوء الأداء التمثيلي للممثلات الآتيات إلى السينما المصرية، تجربتي هيفاء وهبي في دكان شحاتة، ومايا دياب بمشاركة فرقة الفور كاتس في فيلم أسد وأربع قطط.

ألفينيات عادل إمام، بخاصة في أفلام «مرجان أحمد مرجان – التجربة الدنماركية – بوبوس» لا تقدم أفكاراً جديدة في مسيرة الزعيم، هي فقط محاولة تكثيف عدد الأفلام في عداد التاريخ الشخصي، تكمن أهميتها في قدرتها على عكس حيثيات الذكورة المستترة أحياناً، والجلية أحياناً أخرى، التي امتدت مع تزايد أفلام إمام واحداً وراء الآخر.

بالنظر إلى تفحّش المحتوى الرجولي، ومحاولة تضخيم صورة إمام الممثل في معظم أدواره في الألفينيات، تصبح مسؤولية التقاطعات الذكورية مع الخيال الشعبي في أفلام الأخير، دليل إدانة في مسيرته. لو كانت أفلام الألفينيات، موجودة مثلاً، في عقد سابق، يمكن وقتها أن نضع احتمالات أخرى، تدخّل إنتاجي مثلاً، أو محاولة إمام مجاراة الوضع الراهن كي يبقي نفسه ضمن خريطة النجوم دائمي المشاركة. لكنها الألفينيات، بخطابها السينمائي الأخلاقي، وسيادة الزعيم وحيّز تحكمه الواسع، وقتها كان عادل إمام يختار الممثلات اللاتي يعملن معه.

الآن، يمكن النظر إلى تطورات التكوّن الذكوري في مسيرة عادل إمام الممثل، ومحاولة تحديد محطاتها، ولو بالصدفة، من خلال جمله المشهورة.

البداية من «كله ضرب ضرب، أنا عايز أبوس»، ومن ثم يقترب الممثل الصاعد، شيئاً فشيئاً من جوّ المدينة، وتزاحم أدوار القادم من الأقاليم، المشتبك مع تراكيبها ونسائها، حتى يصبح ممثلاً لأفلام مدينية بامتياز، بعضها ينطلق من الهامش، وأغلبها يستكين في المركز، ويصبح صاحب صاحبه الذي لا توجد امرأة لا تحبه ولا ترفضه، حتى تتحقق الجملة في أفلام الألفينيات، ولا يتوقف دوره عند جودة الأداء التمثيلي فقط، بل يختار نجله في فيلم «أمير الظلام» ليخوض أول تجاربه الإخراجية في السينما، ويكون منتج الفيلم الأخ الأكبر عصام إمام.

تظل تيمة الصناعة «العائلية» لأفلام إمام حاضرة حتى الآن، اللهم إلا من تغييرات طفيفة، استبدال كاتب السيناريو أو المخرج، وأحياناً محاولة العودة إلى سوق الإنتاج المصري بالعمل مع جود نيوز بدلاً من إنتاج عصام إمام، وفي كل الأحوال، يبقى الزعيم على اختيار الممثلات اللاتي يمثلن معه، وبالنظر إلى أفلام هذه المرحلة، جميعهن مشتركات في مهادنة وإرضاء الذوق النموذجي العام للجسد، خاضعات للحيثيات الشعبوية المطلوبة، نماذج مثالية الهيئة، أغلبهن مشتركات في سوء الأداء التمثيلي.