مروة عيد عبد الملك: من مساكن زينهم إلى «نيس» الفرنسي
تدخل منزلها بمدينة نيس جنوب فرنسا، المكان مظلم تمامًا إلا من ضوءٍ خافت ينبعث من كمبيوتر محمول صغير، يصدح بصوت السيدة وردة، في عادة لم تستطِع أن تتخلى عنها منذ أن وطئت قدماها مدينة بيرني غرب فرنسا للمرة الأولى. محاولة طفولية لجأت إليها مروة، لكي تتغلب على خوفها من النوم وحيدة، فهي لم تعتَد على هذا الهدوء طوال حياتها، ولكنها تحسست طريقها في الظلام، فاليوم لا مجال للخوف، تنتزع من على يديها شارة بيضاء زينت بشعار نادي نيس، وعليها حرف (سي) كبير، في إشارة لكونها اليوم أصبحت كابتن نادي نيس لكرة اليد سيدات. تنظر إلى شارة الكابتن التي رافقتها للمرة الأولى منذ الصباح، وتبتسم في تحدٍ واضح، تحدٍ يليق بفتاة بدأت من مساكن زينهم على امتداد مجرى المياه القديمة جنوب حي السيدة زينب، حيث يبدأ الأمر كله، بداية ليست كالبدايات المعتادة.
طفلة سمراء تشبه قريناتها كثيرًا في حي زينهم، إلا أنها تعلقت بكرة القدم في سن صغيرة، فلم تتوقف عن حب اللعبة فقط، إنما تطرقت لممارستها في الشارع وبمراهنات مالية صغيرة، إذا كان المشهد مثيرًا بالنسبة إليك فلتقترب أكثر، فالإثارة لم تبدأ بعد، دعنا نقف بجوار هذا الرجل الممتلئ ذي السترة الرياضية التي يعرف بها، يتابع المشهد في شغف كبير، عيناه لامعتان، وفمه في ابتسام دائم لم يحركه إلا بعد نهاية المباراة الصغيرة، موجهًا حديثه إلى الفتاة:
تنظر إليه الطفلة في بلاهة، تلتفت حولها قد يساعدها أحد على الإجابة، ثم تسمع اسمها يُهتَف به عاليًا من بعيد، فمباراة أخرى على وشك البداية، تدير ظهرها للرجل، وتنساه تمامًا وكأنه محض خيال.
منزل بسيط في حي زينهم تجلس بداخله الأم بجوار واحدة من الجيران في مشهد معتاد يوميًا، ينتهي الحديث بينهما بأن طلبت الجارة من الأم أن تصطحب مروة معها لقضاء حاجة بالقرب من المنزل، تذهب معها مروة بعد أن أومأت لها أمها برأسها بالإيجاب، تقطعان شوارع زينهم في هدوء، وصولًا لمركز شباب زينهم، تنظر الطفلة عاليًا نحو وجه السيدة، فتباغتها بالرد قبل أن تسمع السؤال:
توقف إدراك مروة عند كلمة الأهلي، فمروة تعشق ثلاثة أشياء منذ أن ولدت؛ أمها، وزينهم، والأهلي. تفيق مروة من خيالها ذي اللون الأحمر الخالص على ذات السترة الرياضية التي قد قررت من قبل أنها من محض خيالها فحسب.
بدأت مروة الرحلة في مركز شباب زينهم، البداية عادةً هي أهم المراحل على الإطلاق، فبداية المرء تكسبه ما يلتصق به بقية رحلته، ومركز شباب زينهم أهدى مروة أغلى ما تملك في حياتها الرياضية إلى الآن؛ الصبر، والكفاح، والثقة بالنفس، والقدرة على تحقيق الإنجاز بأقل الإمكانيات. فلعب كرة اليد بمركز شباب زينهم أمر أشبه بالسباحة في أرض صحراء، لا مجال لديك إلا الحفر لكي تحصل على الماء الذي تسبح فيه، وملزم أن تجيد السباحة وتنافس من هم وُلدوا داخل الماء.
ظلت مروة عيد عبد المالك تلعب في المراحل السنية المختلفة لمركز شباب زينهم حتى عام 1997، عندما قرر النادي الأهلي أن تزامل أختها كابتن الأهلي في الفريق مقابل بعض الملابس الرياضية وكرات اليد لتبدأ الجزء الثاني من الرحلة.
فتاة صغيرة أتمت عامها الرابع عشر، تم تصعيدها للفريق الأول لأول مرة؛ لكي تلتحق بمعسكر الاستعداد في رومانيا، المعسكر في الأساس تحضيري لبطولة أفريقيا للأندية، إلا أن قرار مشاركتها توقف عند حجم جسمها الضئيل مقارنة بباقي الفريق، إلا أن الصغيرة ظهرت بمستوى مبشر للغاية أثناء المباريات الودية فتقرر مشاركتها في البطولة.
تلعب الفتاة الصغيرة بشكل مميز للدرجة التي قد تصيبك بالحيرة، هل هتاف المدرجات للاعبة صاحبة الرقم 40 (فالجماهير لا تعرف اسمها فكان الهتاف للرقم) تعاطفًا معها لصغر سنها وحجمها، أم اعترافًا من الجميع بأن نجمًا مشرقًا يُولد أمام أعينهم الآن؟
الأيام أثبتت دقة الاختيار الثاني، فالنجم زاد توهجًا في عامه السابع عشر، فأول مباراة للمنتخب المصري في بطولة أفريقيا أحرزت مروة سبعة عشر هدفًا تمامًا كأعوام عمرها ذلك الوقت، توجت هداف أفريقيا وأفضل جناح أيسر في البطولة.
كل ما مضى هو حلم للجميع، لكن مروة كانت تدرك أنها على مقدرة بأن تذهب بأحلامها بعيدًا، أبعد حتى من أكبر نادٍ في أفريقيا والوطن العربي.
بدأ الأمر بالاختبار في أحد أندية ألمانيا، نادي بلومبرغ تحديدًا وبمساعد والدة إحدى الصديقات مدام دعاء عبد الباري، وصلت مروة إلى ألمانيا وقضت أسبوعًا في الاختبارات، لكنها كانت تبكي كل يوم، لا تستطيع أن تتفهم فكرة أنها تعود إلى المنزل فلا ترى وجه أمها وأخواتها، كانت في الثامنة عشرة فلم تستطع أن تستمر في ألمانيا أكثر من أسبوع، إلا أن هذا الأسبوع كان كفيلًا للنادي الألماني أن يرسل فاكس لإدارة نادي الأهلي بخصوص التعاقد مع مروة، إلا أن مروة رفضت وقررت أن تستكمل رحلتها في مصر.
خمس سنوات أخرى نضجت فيها مروة تمامًا، فبعد أن نظمت مصر بطولة أفريقيا للمنتخبات استطاعت مروة أن تتألق وتحصد المركز الثاني بين هدافات البطولة، وقررت تمامًا أن هذا هو الوقت المناسب للاحتراف.
لا تخطئه عين، تلك الهالة التي تحيط به تمتد إلى حد يصعب على المرء أن يقترب منه دون أن يشعر أنه في حضرة أسطورة حية، فالمرء لا يقابل أسطورته كل يوم، ما بالك بأسطورة كل الأجيال! دخلت مروة إلى مكتب محمود الخطيب بعد أن وصل العرض الرسمي من النادي الفرنسي إلى النادي الأهلي، ثم دار هذا الحوار:
يبتسم الرجل ثم يفتح راحة يديه المضمومة منذ بداية اللقاء، ويضع جنيهين فضة في يد مروة كتذكار شخصي من الأسطورة.
لم تنقذ إمكانيات مروة الفنية ولا طموحها الواسع من أزمة البدايات المرتجفة، ففي المباراة الأولى لها في فرنسا لم تقدم مستوى متميزًا، فهي لا تستطيع النوم بمفردها، مما يجعلها تسهر للصباح كل يوم، وما زاد الطين بلة أن الحظ عاندها في البداية، فكسرت يدها في أول مباراة لها، إلا أن القدر الرحيم تجسد لها في صورة عائلة جزائرية تعيش في فرنسا، استطاعت معهم أن تتغلب على أزمة بداية العيش في أرض غريبة.
استطاعت أن تصعد بنادي أونيس لاروشي للدرجة الثانية خلال موسمين، حصلت في الموسم الأول على هداف الدوري بـ249 هدفًا، ثم كررت الأمر في الموسم الثاني بـ194 هدفًا، كما حصلت على أحسن صانع لعب في الموسمين على التوالي، أرقام كتلك لفتت نظر نادي نيس الفرنسي في الدرجة الأولى، فأتم التعاقد مع المصرية السمراء.
فتاة مصرية سمراء ترتدي فستانًا وردي اللون، وتنظر في ابتسامة ثقة، تتوسط هذه الصورة الموقع الرسمي لنادي نيس الفرنسي لكرة اليد، تلك الفتاة التي بدأت من مساكن زينهم ووصلت لمدينة نيس، قررت أن تمتلك مصيرها وتحدده. مصر تعج بالآلاف ممن هم في إمكانيات مروة، إلا أنها وحدها كانت تمتلك الطموح اللازم لتحقيق أحلامها.
قصة مروة ليست قصة لاعبة كرة يد، قصة مروة هي قصة كل شخص فينا تنازل عن جزء من حلمه بسبب الإمكانيات، ثم عن بقية الحلم بسبب الظروف، وأصبحنا جميعًا نسخًا مكررة تحاول العيش مع بعضها البعض، ونسينا جميعًا أن كل شخص منا كان يملك حلمًا طفوليًا من الصعب الآن أن يتذكره. حسنًا، مروة تذكرنا جميعًا بأحلامنا، وتقول لنا ببساطة إننا المسؤولون وحدنا عن تحقيق تلك الأحلام أو التخلي عنها.