مارتن سكورسيزي وستيفن كينج: حكايات أنقذت صانعيها
يرى عالم النفس «سكيب داين يونج» أن العقل البشري عندما يُحلل مُدخلاته وتجاربه ويعبر عنها يستخدم نفس البنية السردية للقصص، لو سألت شخصًا هل أنت شجاع؟ سيُخبرك نعم أولًا لكن لكي يُبرهن إجابته سيلجأ فورًا لسرد قصة، نحن رواة حكايات وقصّاصون بالفطرة، تفتنا القصص عندما نرويها أو تُروى لنا، لا لشيء إلا لأن عقلنا مُبرمج على الحكايات كطريقة وحيدة لتصور موضع الفرد من العالم وموضعه من الآخرين.
من هنا وجد يونج أن الأفلام والأدب أدوات ثرية جدًا يُمكن توظيفها في العلاج النفسي بجوار الاستبيانات والأسئلة المُباشرة، لأن القصص هي لغة العقل في توصيف نفسه لذا تنساب الحكايات بنعومة عبر دفاعاتنا النفسية وتصل لوجداننا. ومثلما تملك القصة مهارة الوصول لوجداننا كمُتلقين بسهولة وتعرية دواخلنا بشكل أيسر من البيانات الجامدة، تمنحنا القصة كرواة مهارة إعادة تشكيل وجداننا وهويتنا الشخصية بما نختاره.
كثير من المُبدعين انطوت الحكايات التي قدموها لنا على ما هو أكثر من المُتعة الأدبية والبراعة الفنية، كثير من المُبدعين أنقذتهم الحكايات التي رووها لنا عبر باب خلفي لم نعرفه أبدًا، خلف شخوص خيالية قاموا بمُساءلة الذات ومواجهتها وإنقاذها، هؤلاء لم يخرج إبداعهم من رحم مُعاناتهم وحسب، بل كان ملاك الإنقاذ لهم من شياطينهم الداخلية.
المسيح المهزوم الذي ردّ سكورسيزي مُبصرًا
خلال الإعداد لفيلم «الثور الهائج» Raging Bull سقط الثلاثيني مارتن سكورسيزي جوار السيناريست المٌساعد مارديك مارتن. ما بدا كإغماءة مُفاجئة تحول لنزيف مُخيف. نزف سكورسيزي من أنفه وفمه وعينيه ووصل للمشفى على شفا الموت. كانت تلك الأمسية هي القاع الذي بلغه سكورسيزي بعد مُقدمات كثيرة تبعت فيلمه الأسطوري «Taxi Drover» عام 1976، حيث باء مشروعه التالي «نيويورك نيويورك» 1977 بالفشل الساحق على المُستوى النقدي، ومر بتجربة انفصال جعلته يُدمِن الهيروين ومواد أخرى. استحوذت عليه شياطينه، وانحدرت به بسرعة جنونية نحو قاع مُحتم.
بينما يرقد سكورسيزي في المشفى مع تحذير طبي قاتم أن مرحلته حرجة وأن الحركة خلال الأيام المقبلة تعني نزفًا مخيًا يؤدي للوفاة، زاره شريك مسيرته وصديقه، روبرت دي نيرو، وسأله الأسئلة الواردة أعلاه.
كان سكورسيزي يُدرك جيدًا أنه يتحرك لنهايته، لكنه لا يملك إيقاف ذاته عن تدمير نفسها، ولا يملك أن يشرح مُعاناته لمن حوله. بدا كمنْ يستسلم أمام غواية هاوية تقبض على روحه وتبتلعها.
عندها أخبره دي نيرو أن يروي تلك المُعاناة بالطريقة الوحيدة التي يعرفها، السينما والقصة، حتى لو كانت تلك هي الحكاية الأخيرة له كسينمائي أو إنسان، عندها بدأ سكورسيزي يرى بعين جديدة قصة «الثور الهائج» التي قدمها له دي نيرو، رآها سكورسيزي دومًا كسيناريو سطحي عن عوالم الرياضة والمُلاكمة، بينما رأى صديق عمره أن «جاك لاموتا» هو مجاز عبقري ومثالي عن الهاوية التي تبتلع صديقه.
جاك لاموتا بطل يمتلك كل ما يحتاجه للوصول للقمة في عالم المُلاكمة، لكنه شخصية مشدودة لشياطينها، شخصية مضبوطة على نمط التدمير الذاتي. يُحقق لاموتا صعودًا ساحقًا سريعًا شبيهًا بصعود سكورسيزي الجبار، لكنه سرعان ما يستسلم لشيطان الغضب والشك بداخله، مُبعدًا عنه زوجته وأخيه وكل من يعتني بأمره.
كان جاك يفوز لأنه يُجيد تحويل كل غضبه وخوفه وشكه إلى وحشية ثور هائج يُمزق من أمامه في حلبة المُلاكمة، لذا بتقاعده لم تعد توجد حلبة يُمكن أن تُصرِّف عدوانيته بشكل أكثر تساميًا، لذا كان سقوطه الإنساني محتومًا بعد اعتزاله.
في النهاية يجلس لاموتا في زنزانة وهو يُلاكم الجدار ويهمس لنفسه أنه الحيوان الغبي الذي دمر كُل شيء، في المشهد الأخير يجلس لاموتا يهذي ويلوم أحباءه الذين تركوه على خذلانه، وبينما يفعل ذلك أمام المرآة، نُدرك أنه لا يلوم في حقيقة الأمر سوى ذاته المُنعكسة أمامه، حتى يدخل عليه أحدهم ليخبره أن المسرح مُعد له ليقوم بعرض ترفيهي رخيص، كان هذا الكومبارس هو سكورسيزي نفسه في لحظة وصال جانبية بين البطل الخيالي والذات الصانعة له.
وضع سكورسيزي كل خبرته وحصيلة ذائقته السينمائية في هذا الفيلم، الذي كان بمثابة طقوس تطهير له من شياطينه، فبينما نقل لنا لاموتا وحيدًا مخذولًا يتسوّل المال بمجوهرات حزامه البطولي، كان سكورسيزي يُشفى شيئًا فشيئًا من شياطينه الداخلية. خلق سكورسيزي في الفيلم كابوس سيخيفه للأبد أن ينتهي له.
فيما بعد اعتدلت مسيرة سكورسيزي صعودًا، وقدّم مع دي نيرو ثلاثية العصابات الخالدة التي كان خاتمتها «الرجل الإيرلندي» The Irishman عام 2019.
يدين سكورسيزي للأبد لصديق وفي ولحكاية مرّر عبرها ظله الخاص، الذات التدميرية التي لو كان استسلم لها، لم يكن ليخرج من ذلك المشفى في تلك الأمسية أبدًا. لذا ختم سكورسيزي الفيلم بمقطع من إنجيل يوحنا يشكر فيه ذات لاموتا التي تحطمت لترسم له طريق نجاته، في المقطع يقول الفريسي للرجل الذي جعله المسيح مُبصرًا:
لا بد أن تموت «آني ويلكس» ليحيا صانعها
يعد «ستيفن كينج» أبا الرعب الحديث في الرواية الأمريكية، لو طلبت منك أن تُخبرني عشرة أفلام أمريكية مُفضلة لك، لا بد أن تتقاطع قائمتك مع فيلم مأخوذ عن أدب ستيفن كينج. يكفي أن أخبرك أن أفلامًا مثل Shinning وShawshenk Redemption وGreen Mile هي غيض من فيض قدّمته ذائقة ستيفن كينج الأدبية للسينما.
منذ شبابه كان ستيفن كينج مُدمنًا للشراب، لكن تربيته الخشنة كانت تجعله يعزف دومًا عن الاعتراف أو طلب المُساعدة، يقتدي في ذلك بسلفه الأمريكي «هيمنجواي» الذي يقول:
في عام 1975 قدّم ستيفن كينج رواية «البريق» The Shining عن كاتب يحاول التعافي من إدمان الكحول ينتقل بأسرته لفندق بعيد، وهناك تتوالى الأحداث حتى يستسلم الكاتب لشياطينه ولجنونه الكامل ويحاول قتل أسرته قبل أن ينتهي صريعًا.
يعترف كينج أنه احتاج إلى عشر سنوات كاملة ليُدرك أن الرواية بأكملها لم تدور حول البريق الذي يمتلكه القليلون، بريق الاستبصار والوصال مع الأرواح، بل دارت حول لا وعي كينج نفسه، لا وعي يستغيث من رجل صارم لا يعترف أنه يقود عائلته للهاوية.
خلال العشر سنوات التالية أضاف كينج إدمان المُخدرات للشراب حتى وصل لقاع الهاوية عندما تفحص فكرة روايته التالية «بؤس» Misery عام 1985، والتي تدور حول مُمرضة مختلة عقليًا مزاجية تحبس كاتبها المُفضل ليكتب لها رواية، كانت «آني ويلكس» هي الكوكايين وهي الشراب، وكان كينج هو كاتبها الأليف الخاضع لها، وكان عنوان الرواية «بؤس» هو توصيف شعوري لما آلت له حياة كينج.
خلال تلك الفترة تدخّلت زوجته وأخبرته أنه يحتاج للمساعدة، لكن كينج كان مُدمنًا لكل شيء، لو طهّرت البيت من زجاجات الكوكايين الصغيرة، سيُدمن الفاليوم والزاناكس، لو تخلّصت منهم سيدمن غسول الفم وزجاجات الليسترين الضخمة. في النهاية أخبرته أنها تُريد أن تُعفي أولاده من مشهد انتحاره صريع الدم والمخاط على أرضية منزله، إمّا التعافي أو الانتحار خارج منزلها.
ظلّ كينج يُماطل وهو على حافة الهاوية، لكنه قرر النجاة بالطريقة التي يعرفها الجزء الأعمق فيه، بأن يُنقذ بطله في الرواية، كانت الرواية ستنتهي بمصرع البطل على يد ربة الجنون «آني ويلكس»، لكن أعاد كينج كتابة الرواية، وأنقذ بطله، أخيرًا، وقتل آني بدلًا منه. عندما انتصرت الشخصية الخيالية تمنّى كينج أن يحوز النهاية السعيدة تلك مثلما قرّرها بجرة قلم لبطله.
كان يتحكم في كينج هاجس داخلي أن المخدرات والشراب جزء من طقوس إبداعه، لو تعافى منهما سيتعافى من الأدب أيضًا، فكرة وصفها فيما بعد أنها هاجس مسموم زرعه فيه أدباء القرن العشرين مثل «فيتزجرالد» و«هيمنجواي» و«شيروود أندرسون»، وهي أن الأدب أرض قاحلة من اللغة الإنجليزية، على الرجال فيها أن يسلخوا أنفسهم في جو من الجموح العاطفي واليأس ليُخرِجوا إبداعًا.
تعافى كينج ولم يحدث ما يخشاه، بل أبدع كثيرًا من رواياته بعد رواية «بؤس»، التي كلما قرأنا نهايتها السعيدة، لا نلتفت أبدًا بكم يدين ستيفن كينج لبطله «بول شيلدون»؟ الذي حسده كينج على النجاة كفاية ليُحوِّل الأدب لحقيقة ويُنقِذ نفسه.
الإبداع طريقة للتعبير… وللنجاة أيضًا
يُخبرنا الطبيب النفسي والكاتب «محمد طه» أن الإبداع كثيرًا ما يكون طريقة المُبدع في تصدير نزاعاته النفسية غير المحلولة، لذا كثير من المبدعين يعتبرون المُعاناة والقلق صنو الإبداع وثمنًا مقبولًا لرحلتهم، يُسمى ذلك «الإبداع الخارجي»، لكن الإبداع الأكثر صعوبة والأسمى هو أن يكون الإبداع داخليًا وخارجيًا. أي أن يمتلك الإبداع سمة أكثر ثراءً من سمته التعبيرية، أن يمتلك سمة تطهيرية وعلاجية، فيُشفي العصاب الذي يُعبر عنه.
كثير من الهالة التطهيرية في تلك الأعمال ينتقل للمُتلقين الذين يُساءلون أنفسهم عبر تلك الشخوص التي يقرأونها في الأدب ويشاهدونها في الأفلام، ويلتقطون لمحة من مُستقبل يتمنونه، كنجاة الكاتب «بول شيلدون» في عالم كينج، أو مستقبل يرتعدون من بلوغه كمستقبل «جاك لاموتا» في عالم سكورسيزي.