سينما مارتن ماكدونا: حكايات عن الخلاص يرويها المكان
خلال أحداث فيلمه Seven Psychopaths يروي المخرج البريطاني الإيرلندي «مارتن ماكدونا» قصة كابوسية كافكاوية عن رجل يقتل صبية تنتمي لطائفة الكويكر الدينية، ويُحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكنه في سجنه يجد المسيح ويسخر حياته للتوبة ليصدر عنه عفو بعد 17 عامًا نتيجة حسن سلوكه، وما إن يخرج الرجل للعالم حتى يُطارده شبح أبي ضحيته المُتشح بالسواد مثل كهنة الكويكر، ينتظره في كل مكان، على الأرصفة التي تُطل عليها نافذته، وأحيانًا يسمع صدى أنفاسه جوار فراشه.
يحتل شبح الأب كل الفضاءات المكانية ليجعل العالم على سعته سجنًا أكثر ضيقًا وروعًا من السجن الذي عاش فيه الرجل سنوات عقابه، يُصاب الرجل بالجنون ويقرر الهروب للمكان الوحيد الذي لن يستقبل أبًا تقيًا مكلومًا من الكويكر، وهو الجحيم، مُستدلًا بإيمانه الكاثوليكي الذي يُخبره أن الطائفة الوحيدة التي تضمن مكانها في الجحيم هم المنتحرون، ينحر الرجل عنقه بشفرة حادة، وبينما الدم يتدفق من أوردته يرى مشهدًا أخيرًا عبر النافذة لشبح الكويكر وهو ينحر عُنقه في اللحظة ذاتها ليلحق به.
تُجسد الحكاية على قصرها هاجسًا حاضرًا بإلحاح في أفلام المخرج وهو المكان، في سينما «مارتن ماكدونا» كل الشخوص أسيرة ضميرها الذاتي، والرغبة في الخلاص، وانعكاس تلك الرغبة على المكان، مثلما في القصة كان السجن على النقيض من صورته براحًا مكانيًا لذات مُجرم تحاول أن تجد الغفران بينما العالم الخارجي على سعته سجن ضيق لضمير مؤرق يوقن أنه لا يستحق إطلاق سراحه.
نجد ذلك في عناوين أفلام ماكدونا المُسخرة لإبراز مكان الأحداث مثل In Bruges وThree Billboards Outside Ebbing, Missouri وThe Banshees of Inisherin وهي كلها أفلام تحوي حكاياتها أبطالًا يبحثون عن خلاص شبه كاثوليكي، بينما تعمل الأماكن التي تستضيف حكاياتهم كرموز لمراحل تحقيق هذا الخلاص، فيتحول المكان من صورته العادية لفضاء مُعبر عن الجحيم أو المُطهر أو الفردوس، وهي الأمكنة التي تنتقل عبرها روح المرء نحو خلاصها.
بحسب رأي ماكدونا، يُعد فيلمه Seven Psychopaths أقل أفلامه أصالة وأكثرها تُجارية أو حسب وصفه محاولة لتقليد هوليوود بصنع Cool Movie، وهو يدور حول سيناريست عاطل في «لوس أنجلوس» يُدعى «مارتي» يُحاول كتابة سيناريو يحمل العنوان ذاته وعلى مدار الأحداث يقع في طريقه قتلة سيكوباتيين من كل نوع، لا نحتاج كثيرًا من التحليل لنُدرك أن مارتي هو انعكاس بارودي لذات مارتن ماكدونا نفسها، وعلى الرغم من تواضع مستوى الفيلم عن بقية أفلام ماكدونا فإنه يمنحنا إطلالة على أفكار المخرج حول السينما التي يحبها والتي نقلها على لسان بطله البارودي مارتي.
يقول مارتن على لسان مارتي، إنه سئم إنتاجات هوليوود التي تدور حول قتلة سيكوباتيين مُتأنقين يُجيدون القتال بكافة الأسلحة، وبخلطة تجارية قوامها الدموية والمعارك يخرج للنور عشرات الأفلام على الشاكلة ذاتها، يريد مارتي أن يصنع أفلامًا عن قتلة وبشر مُدانين أخلاقيًا، يصعب أن ينالوا الخلاص، لكنهم يتورطون في مُحادثة، تكشف لنا عن جانبهم الإنساني، يقول مارتن إن أفلامه تتأرجح بين الكوميديا والقسوة؛ لأننا جميعًا قساة، ونحمل بداخلنا جانبًا ينتمي للجحيم، وجانبًا ينتمي للفردوس، وبينهما مساحة رمادية تشغلها الكوميديا أو إدراك المُفارقة بين النقيضين، وفي تلك المساحة تكمن سينماه وشخوصه، وبينما يحيا مارتي في عالم لوس أنجلوس واستوديوهات هوليوود المُصطنعة، يذهب «مارتن ماكدونا» بحكاياته إلى أماكن حقيقية تؤطر جوهرها، وبينما أبطاله يتورطون في فعل المحادثة طوال زمن الفيلم يُجسد المكان خلفهما في كل الكادرات الفضاء الكاثوليكي المعبر عن أية مرحلة هم فيها أكثر اقترابًا أو ابتعادًا عن الفردوس.
نجح «مارتن ماكدونا» في تحقيق أحلام ذاته البارودية مارتي، فنجد فيلمه In Bruges يدور حول كوميديا سوداء قوامها محادثة فلسفية عن الخلاص بين قاتلين مأجورين بينما فيلمه The Banshees of Inisherin يدور حول محادثة فلسفية بين صديقين في قرية تبعد أميالًا بسيطة عن الحرب الأهلية في إيرلندا، يحاول هذا المقال تتبع أفلام مارتن ماكدونا وكيف نجح المكان فيها في التعبير عن جوهر الحكاية، وإكمال محادثة لفظية بكادرات بصرية تُخبرنا عن مصير شخوصه العالقين بين الجحيم والفردوس.
In Bruges: مجاز مكاني عن المطهر
يدور فيلم In Bruges حول قاتلين مأجورين «راي» الشاب و«كين» العجوز، يأمرهما رب عملهما بالذهاب لمدينة «بروج» البلجيكية، وانتظار التعليمات، ندرك أن راي قبل رحلته لبروج قد ارتكب خطأً تراجيديًا خلال مُهمته الأولى في مسيرته عندما قتلت رصاصاته طفلًا صغيرًا يُصلي في كنيسة، بينما كان يغتال القس، فينهار راي أمام جثة الطفل الذي حوت قبضته الصغيرة ورقة بذنوبه كان يعترف فيها للرب بأنه مزاجي وحزين ولا يُجيد الحساب، وهي للمفارقة سمات شخصية راي ذاتها التي تُبرزها الأحداث؛ فهو بداخله طفل مزاجي حزين محدود العقل، لذلك يؤرقه ضميره بعنف بينما يُحاول كين العجوز مُساعدته بأبوية صادقة على مجاوزة الحدث قبل أن تأتي له التعليمات بقتل راي عقابًا له على خطئه، بينما يُخبره رب عمله أن رحلة بروج لم تكن إلا رحلة وداعية لراي قبل إعدامه.
يؤسس ماكدونا من البداية لمدينة بروج باعتبارها المُطهر أو المكان الذي تعلق فيه الأرواح بين الفردوس والجحيم، وهي المكانة التي تليق بشخصية راي الذي تُفصح تصرفاته الخرقاء عن براءة طفولية، بينما تُفصح عصبيته عن ضمير مؤرق لا يُجيد التعامل بسيكوباتية مع مقتل الطفل كضرر جانبي لمهنة خطرة.
منذ البداية تُحاصر راي أبنية بروج الكنسية، وقلاعها القديمة بينما يُظهر ماكدونا مكانتها الدينية عندما يدخل القاتلان كنيسة تحوي بداخلها بعضًا من دماء المسيح محفوظة بعناية، يُفتتن كين بهدوء المدينة وطبيعتها الدينية بينما يكرهها راي بشدة دون أن يُجيد تفسير ذلك، لأنها تبدو على سعتها مثل حجرة اعتراف ضيقة عليه أن يستسلم فيها ويُفصح عن ذنبه.
تصير «بروج» مُطهرًا كاثوليكيًا قديمًا لحكاية حداثية فيها القتل مهنة وليس ذنبًا، ولكن القاتل على الرغم من فوضى عالمه وحداثته فإنه لا يزال يُحاكم نفسه بقواعد الذنب والغفران القديمة.
يؤطر ماكدونا الفكرة أكثر عندما يزور القاتلان أحد متاحف المدينة ويقفان أمام لوحات مثل Death and Miser وفيها يأتي شبح الموت ليُحصل ديونه من الخطاة ولوحة Last Judgement والتي تُظهر المسيح أعلى اللوحة، يشرف على الخليقة ومن سيذهب للفردوس ومن سيذهب للجحيم؟ نجد راي يسأل كين عن المكان الثالث للخليقة، فيُخبره كين عن المُطهر الذي يذهب له من لم يكونوا سيئين بما يكفي ولم يكونوا جيدين بما يكفي وهي حالة راي نفسها.
لا يتحمل راي ذنبه ويُحاول قتل نفسه بينما يُنقذه كين ويُظهر له عبر أفعال الرحمة أن الخلاص مُمكن لو بحث عن طريقة لإنقاذ أحدهم، نُدرك أن كين يحاول عبر الفلسفة نفسها إنقاذ روحه، فيحاول معادلة كل الأرواح التي أزهقها كقاتل مأجور بإنقاذ راي نفسه.
حافظ ماكدونا طوال الفيلم على إبراز بروج كمدينة في حالة حلم، كثيرًا ما يغشاها الضباب، بينما تُحيطها المباني الكنسية من كل جانب، مدينة يكاد الزمن فيها يتوقف كليًا، بينما الفردوس تمضي الساعات فيه كلحظات من متعة، والجحيم تمضي لحظاته كساعات من العذاب يموت الزمن في المطهر كليًا وهو الانطباع الذي أكده راي عن بروج كمدينة قاتلة بمواتها.
ينتهي الفيلم براي جريحًا وهو يُقاتل الموت، بينما تُطل عليه وجوه مُقنعة تشبه حراس الجحيم أو الخطاة في لوحات الجحيم لبوش، ندرك أنه أقرب للجحيم، بينما يترك ماكدونا الأمر للمتلقي لإكمال النهاية، ربما سيموت راي وسيغادر أخيرًا مُطهر بروج لكن أي مكان يستحق استقباله؟ الفردوس أو الجحيم؟
Three Billboards: مجاز مكاني عن الجحيم
يدور فيلم Three Billboards حول مدينة صغيرة جوار إيبنج ميسوري، شهدت مأساة مراهقة تعرضت للاغتصاب والقتل بينما قُيدت قضيتها ضد مجهول، وعلى طريقة شبح الكويكر يؤمم ماكدونا عبر شخوصه الفضاء المكاني بشكل مُرعب لتصير المدينة وسكانها عالقين في سجن المأساة عندما تشتري أم الضحية ثلاث لافتات على مشارف المدينة تلوم فيها الشرطة بعبارات:
لا تدور الحكاية حول لغز جريمة هوليودي ينتظر الحل، أو رحلة انتقام كاريكاتورية تبحث فيها الأم عن القصاص، إنما حول عجز الأم عن تقبل عبث الوجود، الجميع في مدينتها يؤمن أن الجحيم الكاثوليكي ينتظر قاتل ابنتها لذلك لا مُشكلة في الإقرار بالعجز عن تحقيق عدالة دنيوية لها، لذلك تُحول الأم ميلدريد الجحيم من فكرة عزائية تحيا في الوجدان، لفكرة مكانية تحبس بداخلها كل سكان مدينتها الذين يُخبرونها أن تمضي قدمًا.
تطل اللافتات على المدينة ويراها السكان كل يوم ليدركوا أنهم عالقون في مأساة ميلدريد الشخصية، وترفض الأم إنزال اللافتات المذلة لمأمور المدينة حتى بعد علمها بمعاناة الأخير مع السرطان وحاجته للسلام في أيامه المتبقية.
يتحطم سلام المدينة وتصير اللافتات مجازًا عن معركة جميع سُكانها مع الغضب بداخلهم، تتعرض اللافتات للتخريب والحرق من مساعد المأمور ثم تحاول ميلدريد إنقاذها مرارًا، يقتل المأمور نفسه هربًا من ميتة بطيئة بالسرطان، بينما يخبر ميلدريد في خطاب إنه يُثمن ما تفعله ويحترمه ويدفع ثمن إيجار اللافتات لشهر آخر لتواصل معركتها.
نٌدرك عبر سيناريو مُحكم أن المكان مجاز سجن لعاطفة الغضب التي تأسر كل شخوص الحكاية، العالم مكان غير عادل للجميع، لمراهقة تم اغتصابها ولمأمور طيب عليه أن يقتل نفسه ليعفي عائلته وأطفاله عبء مشهدية موته البطيء، ومساعد مأمور كان يرى في رب عمله أباه الروحي بدلًا من أب سكير غائب. وبينما يُمكن لكل شخص على حدة الهروب من جحيمه الداخلي بالتلهي الخارجي أتت لافتات ميلدريد لتعكس الجحيم الداخلي في صورة سجن مكاني يفضح حقيقة بديهية تعتمد جودة حياتنا على تجاهلها وهي أن العالم غير عادل ولا ضمانة فيه للنجاة، لتتفجر عاطفة الغضب من الجميع.
لا يُنهي ماكدونا فيلمه نهاية عادلة أو سعيدة، تصل تحريات ميلدريد ومساعد المأمور الذي انضم لصفها لمشتبه به لكنهما يدركان أنه لم يقتل ابنتها، بل فتاة أخرى، تخرج أخيرًا ميلدريد ومساعد المأمور في رحلة خارج المدينة بحثًا عن المشتبه به للانتقام منه؛ لأنه وإن لم يقتل ابنتها فهو يمثل رمزًا لكل المغتصبين، بعدما أدت اللافتات مُهمتها وأخرجت الجحيم من نفوس الجميع ليصير حقيقة معاشة بدلًا من عزاء مؤجل، تبحث ميلدريد عن الجحيم في مكان آخر، لأنها تدرك أن انطفاء جذوة غضبها في إيبنج ميسوري تعني مواجهة حاجتها لقبول المأساة وهو ما لم تستعد له بعد.
The Banshees of Inisherin: مجاز مكاني عن الفردوس
يدور فيلم The Banshees of Inisherin في جزيرة إيرلندية تدعى إينشيرين، يقول ماكدونا عن إيرلندا إنها تُجسد ذكريات طفولته كمكان شعري، يتذكرها بالمروج الخضراء والسماء الزرقاء ولعب طفولي لا ينتهي، لذلك اجتهد مدير التصوير بن دافيس في ترجمة تلك المُخيلة ليبرز المدينة كقطعة من الفردوس يحيا أفرادها في معزل عن جحيم الأحداث الكبرى مثل الحرب الأهلية الإيرلندية التي تدور على الضفة الأخرى والتي لا يصلنا منها إلا صدى القذائف والمدافع.
خارج جمالية المكان كفردوس بصري نجد أهل إينشيرين في حالة ملل راكد تُشبه ملل آدم في الجنة قبل مجيء حواء، لذلك يتحول حدث بسيط مثل خصام العجوز كولم لصديقه بادريك لخبر مهم يستدعي انتباه كل سكان القرية.
يحاول كولم العجوز نيل قبس من الخلود بتأليف لحن موسيقي في سنواته الأخيرة لذلك يقطع علاقته بصديقه الساذج بادريك الذي يستمتع بصحبته ويجره لمحادثات لا قيمة لها حول روث الحمير، تتطور الأحداث بعنف عندما يتعهد كولم بقطع إصبع كل مرة من يده العازفة لو لم يتركه بادريك لشأنه، وفي طقس تضحية دينية ينفذ كولم وعيده.
في قصة الكويكر يُدرك البطل أن الحرية لا قيمة لها لو حمل المرء بداخله سجنه، يؤسس ماكدونا مفهومًا مشابهًا عندما يجعل الفردوس المكاني لا قيمة له لدى كل الشخوص؛ لأن كلًا منهم يحمل بداخله رغبة غير مُكتملة في التحقق ليصير مٌستحقًا للفردوس، لا يكتمل مصير آدم إلا بهبوطه من الفردوس الممل للعالم ليؤدي اختباره ويعود للفردوس من جديد لكن عن استحقاق من خاض جحيم العيش ونال خلاصه عندها سيكون الفردوس أقل مللًا.
يُحاول كولم العجوز مُجاوزة ملل الفردوس بأن ينال خلاصه بالفن بينما تؤكد شوبان أخت صديقه بادريك الفكرة نفسها، عندما تغادر فردوس إينيشيرين الآمن نحو الضفة الأخرى التي يشي زحامها وأصوات الحرب فيها بعدم الأمان، لكن يُمكنها فيها مطاردة أحلامها بالعمل وتحقيق ذاتها.
يواجه البطل بادريك الوحدة في صورتها الكاملة عندما تغادره أخته ويُشيح عنه صديقه، لذلك يحول الفردوس لجحيم بتحويل صداقته لعداء يجعل الجزيرة لأول مرة مسرحًا للشر.
الأماكن نوافذ لأرواح ساكنيها
في أفلامه الثلاثة يجعل ماكدونا المكان انعكاسًا بصريًا لمأزق الأبطال الذاتي، فتصير بروج هي المُطهر الذي يموت فيه الزمن ويقف فيه أبطال مدانون أخلاقيًا وجهًا لوجه مع رغبتهم في الخلاص، وإيمانهم بضرورة التكفير عن خطاياهم، وتصير مدينة صغيرة انعكاسًا للجحيم الذي يفر منه الناس بتحويله لمصير مؤجل نلتمس به عدالة مفقودة ونُلقي فيه كل الخطاة الذين نعجز عن إيقاف شرورهم، وأخيرًا تتحول جزيرة إيرلندية لمجاز عن الفردوس في صورته الجمالية التي تُخفي مللًا و قلقًا بشريًا يلازمنا ويُخبرنا إننا لا نستحق الفردوس إلا بالمعاناة، وامتلاك حكاية يُمكننا أن نرويها في النهاية ليصير الفردوس موطنًا حقيقيًا لا منفى وصلنا له بحظوظ خارجة عن إرادتنا.
لا تكتسب الأماكن في سينما ماكدونا جماليتها أو وحشتها من صورتها البصرية إنما من إسقاطات مشاعر الأبطال عليها؛ لأننا أينما فررنا سيفر معنا ظرفنا الإنساني وصراعنا الداخلي، مثلما حاول البطل الفرار من ضميره المؤرق للجحيم فوجد ضميره يذهب خلفه.