الحلقات السابقة:الحلقة الأولى – ا لحلقة الثانية


إلهامي يقول له لم لا تفكر في الطلاق؟ أبوه يبرز من خزانة الثياب ويقول له يجب أن تطرد أم عزيزة.. إلهام فتاة المراهقة تأمره بأن يجمع غبار المقابر .. إنه حبيس في قبر محكم الغلق يحاول التحرر .. يتناثر الغبار ليملأ فمه .. يصرخ فيختنق. يدق بيده على الجدار فتتكون ثغرة يطير منها الحمام الميت … فجأة هناك بحر من لبن يجب أن يخوض فيه .. في الجهة الأخرى وجه الشمس الصارخة تستغيث به ..

يحاول العبور لكنه لا يقدر .. يوشك على الغرق.. يرى الشمس من جديد ثم يدرك أنها مصباح الغرفة.

إنه نائم على ظهره في الفراش يحاول أن يتحرك بينما ضوء المصباح يعميه.. كانت نوال تطل عليه من أعلى وهي تجفف عرقه .. للمرة الأولى أدرك أن العرق يغمره لدرجة الغرق وأنه يشعر ببرد رهيب. كما أدرك أن سرواله مبلل .. لقد فعلها.. بدت له قبيحة جدًا مخيفة جدًا وهي عكس الكشاف الوهاج .. قال لها:

«أنا .. أنا مريض جدًا».

حاول أن يقول هذا فخرج الكلام مختلطًا .. أدرك أن نصف فمه لا يتحرك .. لسانه ثقيل .. أصابه هلع كامل..

حاول أن ينهض فلم تطاوعه قدماه ولا يداه .. لا يستطيع ترجمة الانقباضات العضلية إلى فعل نهوض. أنا مشلول! أدرك هذا بوضوح فلم يحتج إلى وقت طويل للفهم. نصف جسده الأيمن هامد تمامًا.

قالت له وهو يئن محاولاً إخراج صوت مفهوم:

«لا تقلق .. سوف تكون بخير»

ثم هي تنزع عنه سرواله كطفل .. تجفف ما بين فخذيه ثم تضع سروالاً جديدًا، ثم هي تجلسه بالقوة وتدس وسادة خلف ظهره، وتنزع الثياب عن نصفه السفلي، لتبدلها بثياب أخرى جافة .. ليس هذا الوقت المناسب عليك اللعنة! ليس وقت جفاف.. اطلبي الإسعاف !

لكنها لا تبدو مهتمة سوى بنظافته .. ثم أنها تدحرج جسده بشكل محترف لليمين لتنزع الملاءة من تحته ثم تدحرجه لليسار لتنزع باقي الملاءة، ثم تدحرجه بالعكس لتدس ملاءة نظيفة تحته.. شعر ببعض الراحة لدى ملامسة القماش النظيف، لكنه ظل ينتظر أن تطلب الإسعاف.. ليس الحين حين ملاءات جافة بل هو وقت أشعة مقطعية ورنين مغناطيسي…

قالت له ضاحكة:

ـ«حاول أن تنام قليلاً .. سوف تكون أفضل!»

قال بلسانه المعوج:

«أنا مصاب بجلطة في المخ .. لابد من طبيب أمراض عصبية»

قالت في حزم:

«لا أفهم حرفًا مما تقول .. وفر جهدك .. أنت بحاجة لبعض النوم»

وقبل أن يجد الوقت الكافي كانت قد غابت عن مجال الرؤية .. لقد تركته حيث هو. وأدرك في رعب أنه يبكي بحرارة .. عدم الاستقرار العاطفي يميز جلطات المخ عامة، وقد راح يبكي كطفل في الظلام .. الرعب يغمره والصدمة..

أطفأت النور في الغرفة، ووجد نفسه وحيدًا في الظلام.

******

بعد ساعات من النوم المضطرب المفعم بالكوابيس بدأ يعود لوعيه. لقد صار الأمر ثابتًا وواضحًا .. إنه يمر بالمراحل الأولى من شلل نصفي .. لقد استقر الأمر سواء كان يشكو من جلطة أو نزف فقد صار حقيقة واقعة ..

انفتح الباب وظهرت نوال .. كانت تحمل صينية عليها سلطانية عدة أشياء .. وضعتها على الكومود ثم رفعته بذات القوة، ثم وضعت الوسادة خلف ظهره ليصير في وضع جالس. قال محتجًا:

«طبيب! أريد طبيبًا !»

قالت كأنها توبخ طفلاً:

«لا تضيع وقتك .. لا أفهم حرفًا مما تقول .. حاول أن تهدأ يا حسن ..»

ثم وضعت الملعقة في السلطانية وقربتها من شفتيه .. حساء لسان عصفور لكنه ساخن جدًا .. حاول أن يعترض لكنها دست الملعقة وأفرغتها .. جففت شفتيه في عصبية ودست ملعقة أخرى.. لا يريد .. تحريك عضلات الفم صعب جدًا لهذا راح يبتلع. هناك صدر دجاجة مزقته إربًا ثم راحت تدس منه في فمه.. ثم أنها جففت شفتيه من جديد، ودست كوبًا من العصير .. هذه المرأة مجنونة ! إنها تتعامل باعتبار الحياة قد عادت للروتين السابق. سوف يستمر كل شيء كما كان .. لن تطلب عونًا أو الإسعاف بل ستتولى تمريضه وتبديل ثيابه إلى أن يموت .. هذا مستحيل!

مضت الساعات .. لا يعرف إن كان هذا نهارًا أم ليلاً.. فقط يرى بصيصًا هزيلاً من النور عبر خصاص النافذة المغلقة. يرى رقصة الظلال في الغرفة وخزانة الثياب الضخمة العتيقة التي اشتراها من دمياط منذ 35 سنة.. الغرفة كلها كانت بمائة جنيه. مع الوقت صارت قطع الأثاث هذه ترمز للهزيمة .. يكره كل ركن في هذه الغرفة، وهو لا يطيق فكرة أن يموت هنا. كان قد اختار لنفسه ميتة جميلة .. نوبة قلبية وهو جالس في المقهى وسط الأصدقاء والصخب .. لكن لا يبدو أن هذا ممكن.

لا يستطيع الوصول للهاتف أو طلب العون. ليس له أن يأمل إلا في زيارة من ابنه.

حسن .. أنت وقعت في الفخ .. ألعن فخ يمكن تصوره.

عند المساء – هكذا قدر – ظهرت على الباب وهي تحمل في يدها مبخرة تتصاعد منها سحابة كثيفة من الدخان .. راح يسعل بينما هي تدور في الغرفة وفي فمها لفافة تبغ مشتعلة، ثم وضعت المبخرة جوار الفراش .. رآها تمزق قطعة من الورق على شكل إنسان، ثم تغرس فيها دبوسًا عدة مرات .. رآها مرارًا تفعل هذا من أجل (العين) تقية الحسد، ثم أنها وضعت الورق في المبخرة ليتوهج ويشتعل .. ظلت تراقب الرماد ثم قالت له:

«هذا وجه فاطمة .. أختك .. هي صاحبة العين!»

هو لم ير فاطمة منذ أعوام، ولا تملك أي سبب لتحسده. إنها ثرية وزوجها طيب وأولادها يحبونها .. لديها كل ما يجعله يحسد فاطمة لا العكس ..

نام لبضع ساعات .. الهم والخوف يثقلان على روحه. يا رب .. خذني الآن وفورًا قبل المزيد من العذاب. هذه المرأة قادرة على أن تخسف بي الأرض ..

لما فتح عينيه أدرك أن في الغرفة ضوءًا خافتًا .. الضوء قادم من شمعة مضاءة هنا في صحن من الماء. جوار الشمعة استطاع أن يرى سيدة جالسة .. إنها نوال بلا شك .. تغطي وجهها بالكامل بقطعة من القماش .. وتحت القطعة كانت تتكلم .. تصدر أصواتًا مخيفة كأنها في جلسة روحانية تلعب دور الوسيط..

أرجوك يا إلهي .. خذها أو خذني الآن.

يتبع