مارمدوك بكثال: سيرة مسلم بريطاني
يصدر قريبا عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة ترجمة كتاب السيد «بيتر كلارك» تحت عنوان «مارمدوك بكثال مسلم بريطاني»، ترجمة الدكتور «أحمد بن يحيى الغامدي»، وهو الكتاب الأول من نوعه بالعربية الذي يترجم لحياة الأديب والمترجم «مارمدوك بكثال» مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية.
أديب وكاتب منسي
لنبدأ الرحلة مع هذا الكاتب والأديب المنسي. نسيان يمكن فهم أسبابه من أبناء وطنه، فهو الذي خالفهم في الديانة وأعلن إسلامه، مع مخالفة سياسة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في فترة صراعها الاستعماري إبان الحرب العالمية الأولى، مع مجاهرته بهذه المعارضة.
لكن النسيان على الضفة الأخرى من المتوسط بين المسلمين لا يمكن فهم سببه إلا بحالة الإهمال والتردي الثقافي التي تجعل من العناية بالنبلاء أصحاب الأيادي البيضاء على تراث المسلمين وثقافتهم مهمة لا يهتم بها عموم المسلمين.
فالتنكر للذات والشعور بالنقص قد جعلا جهود هؤلاء الرواد منسية، ولا عذر لأمة تتجاهل هدايا المصلحين وتحتفي وتحتفل بالتافهين، بالإضافة إلى أن بكثال لم يكن له شيخ ولا تلاميذ، ولعل هذا ما يفسر إلى حدٍ ما السبب في إهمال ذكره.
إنجليزي حتى النخاع
ولد «مرمدوك وليام بكثال» في مدينة كيمبريدج تِرَس قرب لندن في 4 أبريل/نيسان عام 1875، كان والده قسا، كانت حياته وآثاره موضوع كتاب عن سيرته كتبته السيدة «آن فريمانتل Ann Fremantle» عام 1938 بعنوان «العدوّ الوفيّ Loyal Enemy».
كان بكثال روائيا قال عنه إي. إم. فورستر (E.M. Forster) عام 1921 إنه «الروائي المعاصر الوحيد الذي يفهم الشرق الأدنى»، وبالإضافة إلى كتاباته القصصية، كرّس بكثال وقته بعد اعتناقه الإسلام عام 1917 للكتابة والحديث عن هذا الدين.
في عام 1919 أصبح إماما بالوكالة للجالية المسلمة في لندن لعدة أشهر واعظا وكاتبا لكتيّبات (عن الإسلام). قضى آخر 15 عاما من عمره في الهند، وكانت المحاضرات التي ألقاها في مدراس عن «الجانب الثقافي للإسلام» قد أعيدت طباعتها في نيودلهي عام 1981. نُشرت ترجمته لمعاني القرآن الكريم لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1930.
عالم الشرق السحري
يتذكر بكثال عن شبابه أنه كان يعتبر نفسه «فاشلا تماما ومحبطا جدا». بعد فشله الدراسي، قبل بكثال بالخيار الأكثر مغامرة بأن يذهب إلى فلسطين، بدأ تهيئة قلبه لرومانسية الشرق «شمس المشرق، وأشجار النخيل، والجِمال، ورمال الصحراء»، بالطبع كانت والدته تتمنى أن يتعلم اللغات الشرقية ليلتحق بوزارة الخارجية.
عاش في فلسطين وبدأ التعرف على عالم الشرق عن قرب، في القدس أحب العرب وارتدى الملابس المحلية، وكان يرى في أهل القدس سعداء حقا هكذا عبر عن حالتهم، تجول بعد ذلك في بيروت والأردن بصحبة أحد الأدلاء، ثم دمشق «مدينة القلوب الدافئة وآداب السلوك الراقية»، كما وصفها في أحد قصصه القصيرة، وفي دمشق بدأ يفكر في اعتناق الإسلام.
هكذا خرج من بريطانيا شاعرا بالإحباط والفشل وعاد بعد سنتين من التجوال في القدس وحلب ودمشق وبيروت والقاهرة واستانبول، شاعرا ليس بهويته المميزة بعد، بل بالسرور والبهجة، متعلماً اللغة العربية، وقريباً من عالم الشرق، أهداه معلمه قسطنيطن كتاب «ألف ليلة وليلة»، وأغرم بالبحث عن ظلال هذه الحكايات في الواقع، سيصبح هذا المخزون من الذكريات مادة لأربع روايات وللكثير من القصص القصيرة.
صديق «اللورد كرومر» ومحب مندفع للأتراك
زار القاهرة بعد ذلك والتقى باللورد «كرومر»، كان معجبا بعمل كرومر، مدركا الميول الاستبدادية ويصفه وصفا عجيبا بأنه رحيم وقويم. لم يكن يحب الحكم الدستوري، ولم يكن تعاطف بعد مع الشعوب التى تقع تحت نير الاحتلال، كان يميل في آرائه السياسية إلى التعاون مع الدولة العثمانية، وصرح بذلك لكرومر ولم يعارضه كرومر في هذه الفكرة.
جاء بعد ذلك كتشنر والذي يمكن وصفه بالغشيم «يضرب بالمدفعية فراشات» هكذا وصفه، كان ذا هوى استعماري أيد تصرفات الإنجليز في حادثة «دانشوي»، سافر بعد ذلك لتركيا وشارك في متابعة الأوضاع السياسية في تركيا عن قرب، كان ذلك عام 1908، أبدى إعجابه بالمسلمين في تركيا، ولم تكن انطباعاته طيبة عن المسيحيين في تركيا، أصبح مسيسا ومحبا للأتراك ومدافعا عن سياسة الدولة العثمانية، لم يكن تحول للإسلام بعد لكنه لم يكن يرى في الدولة العثمانية رجلا مريضًا، بل صديقًا يمكن كسبه.
معركة أدبية مع الشاب «أرنولد توينبي»
كتب الشاب «أرنولد توينبي» (كان توينبي حينها لايزال شابا صغيرا قبل أن يصير لاحقا مؤرخا ذائع الصيت) كتيّبا في ذلك الخريف عن الفظائع التي ارتكبت ضد الأرمن. كتب بكثال عن ذلك الكتيّب في مجلة The New Age في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1915. ومرة أخرى لم ينف بكثال حقيقة الفظائع (المرتكبة ضد الأرمن) لكنه وجّه الانتباه من الخصوص إلى العموم وإلى مضامين خط النقاش لدى توينبي. كتب توينبي عن إهانة بعض الفتيات الأرمن: «هؤلاء الفتيات هن نساء مسيحيات، متحضرات ولطيفات كنساء غرب أوربا وقد تم بيعهن إلى المهانة».
وفي المقابل وجّه بكثال سؤالا:
في الدوائر الرسمية أثناء الحرب، اعتُبِر أن بكثال يشكّل خطراً أمنياً. مواهبه كلُغوي بارع في اللغات، واعتباره مرجعاً عن سوريا، وفلسطين، ومصر، كانت ستتيح توظيفه، إلا أن سمعته كـ«محب مندفع للأتراك» حرمته من الحصول على وظيفة في المكتب العربي في القاهرة، ونال الوظيفة عوضا عنه «تي. إي. لورنس T.E. Lawrence» المشهور بلورنس العرب.
بكثال والإسلام وتحول درامي يليق بأديب
أعلن بكثال إسلامه عام 1917، في خلفية بكثال كان الأساس هو التمسّك بكنيسة إنجلترا، ولم يكن أساسا فقط بل التزاما. كان والده وجدّه لأبيه كاهنين. اثنتان من أخواته لأبيه كانتا راهبتين في جنوب إفريقيا. زيارة بكثال الأولى للمشرق تمت من خلال اتصالات بالكنيسة. لكنه كان غير معجب بالجالية الأوربية المسيحية في فلسطين، ذلك أنه وجدهم متكبّرين وطائفيين.
بحلول الحرب العالمية الأولى، رأى بكثال أن المبشّرين يشكلون تهديدا مضلِّلا، وهم بغطرستهم الروحية وحماقتهم السياسية يبعدون المسيحيين من رعايا الإمبراطورية العثمانية عنها، وبهذا يفتّون في عضد الإمبراطورية نفسها. «الأمر برمّته يبدو لي، كما بدا لي دائما، أنه أمر فاحش على نحو لا يحتمل.»
خلال العامين اللذين قضاهما في فلسطين وسوريا رُغّب في اعتناق الإسلام. لكن شيخ العلماء بالجامع الأموي بدمشق صَرَفه عن اعتناق الإسلام. نصحه الشيخ قائلا: «انتظر إلى أن يكبر سنُّك، وتعود إلى بلدك. أنت هنا وحيدٌ بيننا، كما أبناؤنا بين المسيحيين. الله يعلم كيف يكون شعوري عندما يتعامل معلّم مسيحي مع ابني بغير طريقتي هذه التي أعاملك بها.»
في الصيف والخريف ألقى بكثال سلسلة محاضرات عن «الإسلام والتقدم» أمام الجمعية الأدبية الإسلامية في نوتينغ هيل غرب لندن. خلال المحاضرة الأخيرة من هذه السلسلة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، أعلن بكثال إسلامه أمام الملأ. كانت قاعة المحاضرات مكتظة بالحضور. نافح بالحجة والبيان عن الإسلام على أساس أنه الدين الوحيد المتجدّد. وأضاف أن الأديان الأخرى غير مؤهلة في ادعائها أن عقائدها تشجّع على التجديد. كان يقتبس من القرآن الكريم بالعربية كثيرا. تلاوته، بحسب كلام أحد الحاضرين:
اتخذ بكثال اسم «محمد»، وأصبح أحد أعمدة الجالية المسلمة في بريطانيا.
رحلة إلى الهند
في عام 1920 كان بكثال في حاجة للمال، ووظيفة وأمان. كانت صحيفة «بومباي كرونيكل» بحاجة إلى رئيس تحرير، أبحر إلى الهند في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1920. أصبحت الهند مأوىً له لمدة خمسة عشر عاما. قضى 4 أعوام في بومباي، أما السنوات اللاحقة من عام 1925 إلى 1935 فقد استقرّ به المقام في «حيدر أباد».
بينما كان بكثال مشغولا بصحيفته، كان لديه متسع من الوقت للانهماك في الأنشطة السياسية والدينية. خلال عام 1921 كان «غاندي» يبني جسورا بين الجاليتين الهندوسية والمسلمة. كان بكثال قريباً من غاندي خلال هذا العام، أخذ يتعلم اللغة الأردية أتقنها وتحدث بها بطلاقة بعد ذلك، في الهند تشجع على الأقدام على ترجمة القرآن الكريم.
رأي الأزهر في ترجمته وزيارته لمصر
بحلول عام 1927، كان بكثال منشغلا جدا بترجمته، أراد بكثال أن يضمن مصادقة أعلى هيئة علمية في العالم الإسلامي وهي هيئة علماء الأزهر في القاهرة. في عام 1928 قابل بكثال في لندن «اللورد لويد Lord Lloyd»، المندوب السامي لبريطانيا في مصر آنذاك (وحاكم بومباي سابقا)، ورتّب لبكثال ذهابه إلى مصر واستشارة علماء الأزهر.
بقي بكثال في مصر لمدة ثلاثة أشهر بدءاً من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1929. أُعطي بكثال خطاب تعريف ليقدمه إلى الشيخ «مصطفى المراغي» شيخ الأزهر. كان لدى بكثال صديقان مهمّان في مصر. أحدهما هو «فؤاد سليم الحجازي»، الذي كان سفيرا لتركيا في سويسرا خلال فترة الحرب وكان أحد معارف بكثال القدامى. والثاني هو «محمد أحمد الغمراوي»، وهو كيميائي يعمل بجامعة القاهرة، وله معرفة واسعة بالأدب العربي القديم.
أثناء رحلته في مصر قابل بكثال العديد من كبار الكُتّاب المصريين في ذلك الوقت. استضاف الكاتب «أحمد لطفي السيّد» اجتماعا ضم أربعةً من علماء الأزهر أُسندت إليهم مراجعة ترجمة بكثال. قدّم الشيخ «رشيد رضا» مساندته لترجمة بكثال. «طه حسين» أخبر بكثال أن الملك فؤاد، ملك مصر، «متأثر على نحو ما بفكرة أن ترجمة معاني القرآن الكريم خطيئة»، وأنه قد يفصل من الأزهر أيَّ عالم يساند بكثال.
وجد بكثال طه حسين مُتعِبا وعائقا، وأكثر من ذلك أنه طلب من بكثال الذهاب للملك فؤاد لاستصدار فتوى تسمح بالترجمة. أشار بكثال بهدوء أن لديه فتوى من الهند، وبالنسبة لرعاية الملك للترجمة أفاد أن لديه الدعم الكامل من نظام المُلك بحيدر أباد.
كتب الشيخ محمد شاكر، مقالة ندّد فيها ببكثال وترجمته والمتعاونين معه. ومما جاء في مقالة الشيخ أنه كان من الأجدر ترجمة تفسير «الطبري». كانت ردّة فعل بكثال أن آراء كثير من المصريين تنمّ عن ضيق أفق.
إجادة بكثال للغة العربية واجهت بعض الطعون. في عام 1980 أصدر «محمد أسد»، خليفة بكثال في رئاسة تحرير مجلة الثقافة الإسلامية، ترجمةً جديدة لمعاني القرآن الكريم. لم يكن محمد أسد راضيا عن ترجمة بكثال وشعر أن «معرفته باللغة العربية كانت محدودة».
في المراجعات والكتابات العربية حديث ونقد لأهم أعمال بكثال وهو قيامه بترجمة القران الكريم، في كتاب «بيتر كلارك» تحليل لأهم قصص بكثال وأهم الروايات التى قام بكتابتها والتي لم يترجم أي منها إلى اللغة العربية.
معظم هذه الأقاصيص أمثلة مصغرة لمقدرة بكثال على عرض العالم من وجهة نظر الإنسان الشرقي. كل هذه القصص حدثت لجيلِ ما قبل 1914، ومعظمها تتناول موضوع التغيرات الاجتماعية التي حدثت في سوريا وفلسطين ومصر وتركيا خلال هذه السنوات، أو موضوع دور الأجانب وعلاقاتهم بشعوب هذه البلدان.
من الصعوبة تلخيص القصص القصيرة وحبكات الروايات، قدم الكاتب بيتر كلارك عرضا شيقا في فصلين لقصص وكتابات بيكثال الادبية، تستحق الاطلاع والقراءة، فهي شهادة روائية عن عالم الحرب العالمية الأولى في المشرق العربي.
جندي الإيمان المجهول
لم يكن بكثال يهاب الموت. في عام 1919 ألقى موعظةً عن سورة «يس» وتلاها بحضرة شخص على فراش الموت. قال عن الموت: «أنا أيضا سأقف بين يدي ذلك الديّان اليوم، غدا، أو بعد بضع سنين. بقي القليل لي على أية حال، مقارنةً مع كل اللحظات النفيسة التي عشتُها، وتلك الأخرى التي أضعتُها».
في أحد الأيام من شهر مايو/أيار أصابته وعكة بعد طعام الغداء. في صباح اليوم التالي أخذ قسطاً من الراحة بعد الإفطار، ثم نهض ولكنه سقط على الأرض. وافته المنيّة الساعة الحادية عشرة يوم 19 مايو/أيار من عام 1936 متأثرا بانسداد في الشريان التاجي.
سيرة بكثال هي سيرة رحالة مغامر قادم من بلاد بعيدة، لشمس ألف ليلة وليلة، متمرد على ديانة قومه، ومسلم وخادم بصدق للإسلام، آراؤه السياسية محيرة، لكنه كان يحاول أن يكون له رأي شخصي ومستقل، سيرة بكثال هي سيرة نبيل من نبلاء المسلمين، تتشابه قصته مع قصة خلفه محمد أسد في كثير من التفاصيل، حتى في توليه رئاسة تحرير ذات المجلة في الهند، أو في افتتانه بالشرق غير الرومانسي.
رحم الله محمد بكثال