التسويق في مجال الصحة والدواء في ضوء الشريعة الإسلامية
إن تأمين الاحتياجات من العلاج والدواء من موجبات الحياة واستقرارها على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وتوجد ضوابط إسلامية من مصادر الشريعة الغراء في تسويق مجالات التشخيص الطبي، والعلاج، والأدوية.
ومفهوم التسويق يركز على تقديم وإنتاج ما يمكن تسويقه من منتجات دوائية أو خدمات صحية – تشخيصية وعلاجية – وفقًا لاحتياجات المرضى، وفي كل مرض. كما يعتبر الطبيب هو العميل الجوهري لشركات الأدوية – في حالة الأمراض المزمنة والحادة – وفي ذات الوقت هو المعالج، وصاحب قرار شراء الدواء.
إن الضوابط الشرعية تقيم أواصر للعلاقة بين أنشطة التسويق الصحي والدوائي من ناحية، وبين القيم والأخلاق من ناحية أخرى. وفي ظل تلك الضوابط لا بد أن تتفق المنفعة مع القيم الأخلاقية، خاصة خلق الرحمة وخلق الأمانة. ويكون ذلك على مستوى الطبيب والمستشفى والمسوق، ويكون أكثر إلزامًا في حالات الكوارث والأزمات الاقتصادية، مما يؤدي إلى تحقيق قيمة عالية لأفراد المجتمع، وللأمة ككل، حيث إن زيادة المنافع لكل من: الطبيب، والمسوق، والمريض تدخل ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
ونتناول فيما يلي عناصر التسويق الصحي والدوائي من حيث دور الضوابط الإسلامية في ترشيد الأنشطة التسويقية؛ لتكون في مصلحة أطراف العملية التسويقية: الطبيب، والمسوق، والموزع، والمريض.
أولاً: تحقيق مبدأ الرشادة وتحقيق الربح
إن عنصر الكدح والرشادة في أهمية سعي الفرد وتحقيق الربح مهم لكل من الطبيب والمسوق، ونجاح أي استراتيجية في مجال التسويق الصحي والدوائي يكون على أساس ميزة النفقات وخفض الأسعار وزيادة القيمة، أو الخلط بينها في تصميم استراتيجية تسويق الخدمة الصحية وإنتاج وتوفير الأدوية.
وموضوع التسعير من الموضوعات المهمة، سواء بالنسبة للخدمات العلاجية أو الأدوية التي تعالج أمراضًا مزمنة وحادة، فيتم تسعيرها بطريقة تضمن توفيرها للمرضى بأسعار وكميات معقولة وكافية، وتحديد السعر المناسب، الذي لا يشترط أن يكون هو السعر الأرخص، ولكنه السعر الذي يعظم القيمة.
ومفهوم القيمة هو علاقة بين المنافع والنفقات، وهو نسبي، ولا بد من الأخذ في الاعتبار النفقات والمنافع الاجتماعية، والتي يكون للسلطة دور رئيس في توفيرها لأفراد المجتمع، ويجب أن تتحمل المسئولية التي على عاتقها في توفير العلاج والدواء – وهي من الضروريات – كحد أدنى لتوفير متطلبات الحياة الكريمة، ودون النظر إلى المكسب والخسارة، على النحو الذي ذكره الحديث الكريم: «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته» (رواه البخاري).
وتزيد القيمة عندما يتحقق مستوى عالٍ من الجودة، وضمان توفر الخدمة العلاجية باستمرار، ووجود مخزون من المنتج الدوائي يكفي طلب المستهلكين. ويتضح ذلك من العنصر التالي، وهو العدالة والأمان.
ثانيًا: العدالة والأمان
إنه من مبدأ تحقيق الضرورات توفر خدمة صحية لكل الأفراد بدون اعتبار للمركز المالي لأي فرد، ومفهوم الأمان، أي أمان توفير الرعاية الطبية، ويوجد فرق بين الأمانة والأمان، والمقصود هنا الأمان، أي ضمان توفير الرعاية الطبية والمنتج الدوائي.
إن أهم الصعوبات التي تعترض تحقيق القيمة عدم الالتزام بالضوابط الشرعية من قبل جميع الأطراف؛ الطبيب، والمستشفى، والموزع.
والسعي إلى زيادة القيمة ومراعاة البعد الاجتماعي يقع على السلطة، بحيث تقوم المؤسسات الصحية بتقديم خدمات مقبولة، وتعالج غير القادرين، حيث إن المستهلك النهائي – أو المريض – هو الطرف الأضعف في منظومة العلاج والخدمة الصحية والدواء.
والمقصود بالنفقات والمنافع من وجهة نظر المجتمع ككل يسمى حساب «النفقات والمنافع الاجتماعية» (Social Cost/Benefit).
ومن أهم الأنظمة التي تعمل على ذلك نظام الوقف في الإسلام، حيث كان له السبق في العمل على تقديم الخدمات الصحية وتوفير الأدوية. وهو من الإعجاز في هذا النظام، فلم يصل إليه أي أنظمة أخرى عبر التاريخ، فقد جاء على سبيل المثال في حجج الأوقاف أن يتم تعيين الطبيب، والجراح، والكحال (متخصص في الرمد)، وكذلك توفير الأدوية المفردة والمركبة؛ على نفقة الوقف، أما الفئات المستهدفة فهم الضعفاء ومستحقو الرحمة.
ثالثًا: الرحمة ومكارم الأخلاق
إن جوهر الجانب الروحي والمعنوي «الرحمة»، ومفهوم مكارم الأخلاق في المجال الطبي أساس يجب أن يتم على الوجه الصحيح من حيث التربية والتعليم والتدريب.
والالتزام بالضوابط الشرعية يؤدي إلى تحقيق التوازن بين الإشباع المادي والإشباع الروحي، أي بين متطلبات العمل للدنيا والعمل للآخرة.
يقول الله عز وجل:
والسؤال المهم هو: لماذا تعتبر القيم الأخلاقية أهم ضابط لأنشطة التسويق الصحي والدوائي؟
إن العقيدة في الإسلام تعتبر هي أصل الأصول، وتتفرع منها كل الأمور الأخرى (قانونية وأخلاقية)، وما يهمنا هنا الجانب القيمي الأخلاقي؛ لأن مكارم الأخلاق توجه أساسًا إلى الفرد، وأحكامها تراعي التمايز بين الأفراد؛ فهي ناصحة أكثر منها آمرة؛ وهو ما يفرق القيم الأخلاقية عن القانونية، حيث إن الأخلاق تضع في الاعتبار نوايا الناس ودوافعهم الباطنية، ولا تكتفي بالظاهر فقط من السلوك – مثل القانون – ولقد حدد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الغاية الأولى من بعثته في قوله: «بُعثت لأتمم حُسن الأخلاق».
ومن أهم القواعد الأخلاقية التي يجب أن يتصف بها جميع الأطراف، وطبقًا لأنشطة التسويق الصحي الدوائي:
1. الأمانة العلمية:
عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» (رواه أحمد). والأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، فهي ترمز إلى معانٍ كثيرة، ومناطها جميعًا شعور المرء بمسئوليته في كل أمر يوكل إليه، وأنه مسئول أمام الله سبحانه وتعالى على النحو الذي ذكره الحديث الكريم: «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته» (رواه البخاري).
وتلعب الأمانة العلمية للطبيب دورًا مهمًّا في تحقيق المنفعة للمستهلك (المريض)، مثل: إحالة المريض لطبيب مختص وأكثر كفاءة. وأن يكون علاج المريض عن طريق إجراء الفحوص الدقيقة، وأن يتم العلاج والتشخيص بناءً على بيانات مؤكدة، وأن يتم وصف أفضل الأدوية لحالة المريض، من حيث المصلحة التي ستعود عليه. ولا شك أن الأمانة العلمية لا تتعارض مع طموحات الطبيب ورغبته في تحقيق عائد مادي (أو ربح) من ممارسة المهنة، بل هي من أهم وسائل تحقيق الربح وزيادة القيمة.
2. صفات الطبيب:
من واجبات الطبيب وصفاته أيضًا، التي يجب أن يتخلق بها، الآتي: الإخلاص، والصدق، والوفاء، والحلم، وسلامة الصدر من الأحقاد، والتواضع. كما يعتبر الصبر من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الطبيب؛ فالصبر أعلى مراتب الإيمان؛ ويكون الصبر على قلة المال خاصة في بداية حياته المهنية تحت وطأة مصاريف مهنية وحياتية مرهقة، بحيث لا يغش مريضه ولا يجور على الفقير.
يقول الله عز وجل:
ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم:
3. الطريقة العلمية السليمة للترويج:
وفي مجال الترويج هناك مردود إيجابي للترويج، إذا ما تمت ممارسته بالطرق العلمية السليمة على أسس أخلاقية. و«البيع الشخصي – Personal Selling» أهم وسيلة في ترويج الأدوية، خاصة أن غياب المعلومات الصحيحة عن الدواء تمثل مشكلة، حيث يعتمد بعض الأطباء على الإنترنت أساسًا في الحصول على المعلومات، رغم أنها قد تكون غير صحيحة، وهنا يتجلى دور المندوب الطبي. ويرى الكثير من الصيادلة والأطباء أن الأنشطة التسويقية الحالية لا تتماشى مع قواعد المهنة، ولا بد من ميثاق شرف لممارسة المهنة؛ خاصة في مجال الترويج.
وأهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها مندوب المبيعات الطبي: الإخلاص، والصدق، والأمانة، وأدب الحديث، والحلم، والقصد والعفاف، والنظافة والتجميل، والحياء، والصبر وقوة التحمل، والعلم والعقل، وإدارة الوقت.
4. اكتساب مندوبي المبيعات لمبادئ إدارة الأعمال:
في مجال تدريب المندوب الطبي على مهارات البيع والمعرفة الخاصة بالمنتج الدوائي، فإن الدراسات أثبتت أن مندوبي المبيعات المميزين غالبًا ما يكونون قد اكتسبوا خبرات، ودورات تدريبية؛ لا تتعلق بمهارات البيع فقط؛ وإنما تمتد لتشمل مبادئ إدارة الأعمال؛ خاصة التمويل والتسويق؛ بحيث يصبح لدى المندوب الطبي معرفة شاملة بالمتغيرات الخارجية التي تتعلق بالبيئة، والمتغيرات الداخلية التي تتعلق بالشركة التي يعمل بها. ويعتبر مجال الصيدلة عمومًا من أهم المجالات التي لها علاقة باكتساب المهارات التفاوضية، بشرط التركيز على الجوانب المعنوية والأخلاقية، وعدم المبالغة في منافع المستحضر الدوائي، وأهمية ذكر الآثار الجانبية له بكل صدق.
إن كل طرف من أطراف عملية التسويق في المجالات الصحية والدوائية: الطبيب والمسوق والصيدلاني؛ يجب أن يحقق الرضا على أسس من القيم والأخلاق والرحمة بالآخرين، حيث إن رضا الفرد الملتزم بشرع الله يكون عميقًا، لعلمه أنه ما دام ذا نية صالحة في عمله، سواء أكان طبيبًا أو مسوقًا أو مندوب مبيعات لشركة أدوية أو موزعًا، فإن عمله يصبح عبادة، وكما أنه يأخذ ثواب الدنيا، فإنه يثاب في الآخرة.
ولأهمية الضوابط الإسلامية في مجال التسويق الصحي والدوائي يجب أن تكون أنشطة التسويق على أسس علمية وأخلاقية. إن للإسلام قواعد تنبني على القيم المعنوية التي تتفرع من العقيدة الإسلامية، حيث لها دور كبير في ضبط تلك الأنشطة. وللقيم الأخلاقية دور في ضبط سلوك الفرد في أنشطة التسويق، حيث إن مفهوم المنفعة يجب أن يكون متعلقًا بضوابط شرعية إسلامية، ويجب التركيز على الجانب الاجتماعي.
إن الضوابط الإسلامية تقلل من التحيزات في حساب المنفعة والقيمة، وتكون في صالح المريض، وكل أطراف التسويق الصحي والدوائي.