حكايات مارك كازنز: كيف تقع في حب السينما مجددًا؟
عن بداية السينما والحكاية الشهيرة لفيلم الأخوين لوميير (وصول قطار إلى المحطة) حيث فزع الجمهور من رؤية قطار يتحرك على الشاشة باتجاههم، تكتب سوزان سونتاج «بدأت السينما بالعجائبي، وكان العجب في القدرة على نسخ الحقيقة الواقعية بشكل فوري»، ثم تكمل: «إن السينما بالكامل في هذه المحاولة لإبقاء الإحساس بالعجب وإعادة ابتكاره».
أعتقد مع سونتاج أن أي فيلم لا يمنح مشاهده شيئًا من هذه الدهشة الأولى هو فيلم يفتقر كثيرًا لجوهر السينما الحقيقي.
يذهب المخرج الأيرلندي مارك كازنز في فيلمه The First Movie إلى قرية جوبتابا في كردستان العراق، وهي قرية جميلة تعيش عزلتها الخاصة، ويبلغ تعداد سكانها حوالي 700 نسمة. بواسطة بروجيكتور قديم وملاءة بيضاء، وفي إحدى ساحات القرية، يخلق كازنز سينما في الهواء الطلق. يقوم بعرض بعض الأفلام على أطفال القرية الذين لم يختبروا من قبل سحر السينما. من ضمن هذه الأفلام كان الفيلم الفرنسي البالون الأحمر. الفيلم من إنتاج عام 1956 وإخراج ألبرت لا موريس. تلمسهم السينما للمرة الأولى، فيحاولون بأصابعهم لمس بالونًا يطير على الشاشة في أحد مشاهد الفيلم، إذ بدا لهم وكأنه بالون حقيقي، كأنما شاشة السينما صارت سماءً حقيقية. يعيد كازنز هنا خلق لحظة السحر الأولى لدى هؤلاء الأطفال، ويجدد فينا نحن مشاهديه الإحساس بالدهشة.
أظن أن هذا هو المدخل الأنسب لتقديم كازنز، واحد من أجمل من حكوا عن السينما. في كل مرة تستمع إليه يتحدث عنها أو يصنع فيلمًا عن حكايتها أو مبدعيها كأنك تقع في حب السينما من جديد.
منذ التقيته في الدورة الرابعة والعشرين من مهرجان الإسماعيلية الدولي، والتي انعقدت في مارس الماضي، وهو معي، على الأقل طيف منه يصحبني. إنه أحد ملهمي منذ زمن طويل، وها هو أمامي الآن، لكنني متوتر جدًّا لأقترب منه. صادفته كثيرًا في الفندق الذي أقمنا فيه خلال فترة المهرجان، كنت أبتسم له من بعيد أو أقترب لأخبره سريعًا أنني من جمهوره المخلص ومعجب بإنجازه. في الليلة الأخيرة قبل سفره اقتربت منه مجددًا، أخبرته أن هناك الكثير من الكلام الذي أرغب في قوله، لكن توتري الشديد يمنعني، وأنني سأرسل له رسالة بديلًا عن الكلام الذي لم أقله. ابتسم وأعطاني بريده الإلكتروني. هذه ترجمة رسالتي إليه:
عزيزي مارك. آمل أن تصلك رسالتي وأنت بخير. اسمي أحمد، وقد التقيت بك في الإسماعيلية الأسبوع الماضي. أنا هذا الخجول القلق الذي اقترب منك عدة مرات فقط ليخبرك أنه من أشد المعجبين بك. أريد أن أشكرك على حضورك وأفلامك وحبك للسينما. عندما أكون متوترًا جدًّا للدرجة التى تمنعني من فعل أي شيء أعيد مشاهدة فيلمك The Story of Film: An Odyssey وهذا يجعلني أهدأ، يجعلني أفكر لماذا أحببت السينما أول مرة ويوقعني في حبها من جديد.
أعمل طبيبًا نفسيًّا وناقدًا سينمائيًّا، لكنني قبل أي شيء يحركني قانون المحبة، محبتي للسينما. أحاول الآن كتابة مقال عنك وعن الماستر كلاس الذي قدمته في الإسماعيلية. ربما سأبدأ بهذه الحكاية كمدخل لشخصيتك. حين شاهدت فيلم الخط الأحمر الرفيع للأمريكي تيرانس ماليك. جعلك الفيلم تفكر في الفيلسوف ديفيد هيوم. في اليوم التالي ذهبت إلى قبر هيوم في أدنبرة حيث تعيش، التقطت شيئًا من العشب النامي حوله، وضعته في مظروف مع ملاحظة عن مصدره، وأرسلته بالبريد إلى وكيل أعمال ماليك. بعد شهر، اتصل بك ماليك نفسه وتحدث معك عن العشب حول قبر هيوم وعن الفلسفة والسينما. بالنسبة إليَّ هذا هو أنت. أنت تعرف كيف تصل إلى الآخرين وكيف تلمسهم على نحو شخصي، حتى أكثرهم سرية وعزلة. لقد لمستني ولمست أصدقائي هنا في الإسماعيلية يا صديقي العزيز.
شاهدت هذا الصباح فيلمك The Story of Looking على جهاز الكمبيوتر الخاص بي. بينما أكتب لك هذه الرسالة، فكرت في الشجرة التي تحدثت عنها في فيلمك والموجودة أمام نافذتك، والتي تجعلك تشعر أنك حي. لديَّ نفس الشعور تجاه شجرة من الورود أمام منزلي، سألتقط صورة لها وأرسلها إليك كبادرة امتنان ومحبة.
قدم كازنز لحضور المهرجان لقاءً صحفيًّا وماستر كلاس أدارهما مروان عمارة. الجزء الثاني من الماستر كلاس الذي قدمه كازنز لم يكن تقليديًّا بأي حال، كانت هناك صور تتبدل على شاشة عرض ومع تتابع الصور يحكي عن نفسه وعن السينما وعن أفلامه.
أريد أن أخلق نفس الأثر هنا. سأحذف الأسئلة وأعيد تشكيل إجاباته، سأضيف بعض الصور ثم سأترككم مع سرد كازنز وحكيه الجذاب والمثير دائمًا كأنه يتحدث إليكم مباشرة.
اسمي مارك كازنز. صانع أفلام أيرلندي. محب للسينما والسفر ومكتشف. أنا شغوف بالسينما. صنعت 22 فيلمًا طويلًا، 40 فيلمًا قصيرًا، وكتبت خمسة كتب.
أحببت اكتشاف جزء آخر من مصر غير القاهرة. وظيفتي كصانع أفلام ليست أن أعبر عن نفسي، بل أن أكتشف أماكن جديدة وأناسًا جددًا. هذا يثريني. أجد أن أفضل طريقة لاكتشاف مدينة هي المشي خلالها، لقد سرت حتى الآن 31 كم في شوارع الإسماعيلية.
لديَّ خمسة أفلام عن المدن، بطلها الرئيسي شخص يتجول سيرًا عبر هذه المدن. ثمة من يقول إنه لكي تعرف ثقافة مكان ما، فعليك أن تزور متاحفه أو معارض الفن فيه، أعتقد أن هذا جانب واحد من الأمر. المخرج الروسي الكبير سيرجي أيزنشتاين -لديَّ وشم على جسدي باسمه- قال ذات مرة (خذ باصًا واذهب للضواحي، وهناك ستقابل الحياة والناس. هناك ستلمس ثقافة المكان).
أربعة ملهمين من مصر
أي شخص مهتم بالثقافة يجب أن يهتم بمصر. هناك أربعة مبدعين من مصر يمثلون إلهامًا شخصيًّا لي. أم كلثوم والاستماع إلى أغانيها الطويلة له أثر مماثل للتنويم المغناطيسي Hypnotic، يدخلك لحالة أقرب للحلم. أغانيها تشبه نوعًا من المتاهة حسبما أظن. كان أول فيلم شاهدته لشادي عبد السلام هو المومياء، وهو أيضًا مثل أغاني أم كلثوم Hypnotic أقرب للحلم وذو طابع شعري. أعتقد أن مخرجًا أمريكيًّا كبيرًا مثل ديفيد لينش سيحب أفلام شادي عبد السلام، ليس المومياء فقط، بل فيلمه «آفاق» أيضًا. أصنع الآن فيلمًا عن تاريخ السينما الوثائقية في العالم يمتد لعشرين ساعة، سيحتل «آفاق» جزءًا مهمًّا منه. حين ألتقي بالمخرج الأمريكي «جوناثان ديمي» مخرج «صمت الحملان» هل تعرفون عما نتحدث؟ نتحدث عن مومياء شادي عبد السلام.
يلهمني حسن فتحي وكتابه المؤثر «عمارة الفقراء». أردت دائمًا أن أزور القرية التي بناها فتحي في الأقصر. إنه معمار عظيم ومناصر للبيئة قبل أن يصير ذلك موضة. أعتقد أنه على كل معماري العالم أن يتعلموا من حسن فتحي.
أخيرًا يوسف شاهين. أمتلك وشومًا كثيرة على جسدي. أعتقد أن الوشم القادم سيكون من نصيب شاهين. شجاعته ملهمة، شجاعة صنع أفلام ذاتية تتحدى تقاليد ثقافة أصولية بطرح أفكار مختلفة لها علاقة بالدين أو تمثلات الرجل والمرأة. كان شاهين هو أول مخرج التقيت به أثناء الإعداد لسلسلتي الأشهر The Story of Film: An Odyssey، أفلامه عابرة للنوع Hybrid، تشبه أفلام هوليود لكنها أيضًا تحاول أن تغير العالم.
حين طلبت مني مجلة Sight and Sound اختيار أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما كان «الأرض» ليوسف شاهين واحدًا من هذه الأفلام.
أشعر بالغضب الشديد من تقسيم العالم لعالم أول وثانٍ وثالث. هذا امتداد للفكر الكولونيالي أو كما قال شاهين: «نحن العالم الأول، لقد كنا هنا قبل الجميع». يجب أن تكون متواضعًا، منفتحًا وفضوليًّا تجاه الآخر، تجاه البشر الآخرين والبلدان الأخرى. لقد زرت العراق، والهند وإيران ووجدت صورًا غير الصور النمطية لهذه البلاد في الوعي الغربي. العالم بحاجة لمعرفة مصر من خلال سينماها. السينما أقرب لرسالة في زجاجة. ينبغي عليكم ترميم أفلامكم خلال المائة العام الماضية وتقديمها للعالم في أفضل صورة، ومنها سيعرفكم العالم.
أفلامي هي رسائل حب للسينما
طالما كانت السينما مغناطيسًا يجذب الخجولين والوحيدين، الذين يقفون خارج الملعب، لا يشاركون في اللعب بل يراقبون الجميع. السينما فن للمراقبة والتطلع. نشأت في «بلفاست» أيرلندا زمن الحرب الأهلية، كنت خجولًا وعصبيًّا ووحيدًا، وكانت السينما الفن الأنسب لي، أخذتني من يدي إلى مكان آمن وسط الفوضى والخوف. من بين هؤلاء الخجولين، يولد غالبًا صناع سينما المستقبل.
ثلثا أفلامي عن السينما وصناعها. أصنع أفلامًا عن السينما، لأن السينما جميلة، جميلة مثل غروب الشمس مثل البيتزا مثل أهرامات الجيزة. أفلامي عن السينما هي تعبير عن مسرتي بها وبكوني حيًّا.
السينما ليست فقط وسيلة ترفيه أو تسلية. في سراييفو بداية التسعينيات، أثناء الحصار وتحت القصف، صنعنا سينما تحت الأرض وبوسائل بدائية. كانت السينما تمتلئ عن آخرها في كل ليلة. نحتاج السينما حتى في أصعب الأوقات، خاصة في أصعب الأوقات. نحتاج للسينما مثلما نحتاج إلى الخبز والورد. طالما كان همي هو أن أظهر حبي للسينما وشغفي بها. أفلامي هي رسائل حب للسينما.
في أمريكا، بل في العالم كله، الفكرة الآن هي كيف تسوق نفسك. حين تتبع السينما قوانين السوق وترضي الجانب الاستهلاكي لدى الجمهور، فإنها تلمس جانبًا آخر من الإنسان غير جانبه الحميم، الرقيق والفضولي.
صرت مدمنًا على صناعة الأفلام، في أغلب الوقت أعمل على أكثر من مشروع في وقت واحد. فيلمي الذي أعمل عليه الآن يحكي عن آدم وحواء في الكتاب المقدس المسيحي، سنعيش معهما لعشر دقائق في الجنة، ثم قطع/ Cut إلى العالم الحديث في القرن الحادي والعشرين، لنكتشف أنهما ليسا رجلًا وامرأة، بل شخص واحد، إنهما نفس الشخص.
أهتم جدًّا بالمخرجات. تضم الوشوم على جسدي أسماء العديد من المخرجات، مثل الأوكرانية «كيرا موراتوفا» التي قدمت لنا تحفًا سينمائية واليابانية «كينويو تاناكا» التي يتم تذكرها دائمًا كممثلة وليس كمخرجة. ما الذي يقوله ذلك عنا؟ إننا نتذكر النساء كأشياء وليس ككائنات خلاقة ومبدعة. لديَّ وشم باسم «فروغ فرخزاد» وهي صانعة أفلام وشاعرة إيرانية عظيمة. شاهدت لها House is Black عن مرضى الجذام، وقد صنعت عنهم تحفة في غاية الشاعرية. لديَّ وشم أيضًا لماري كورى. حين أكون في موقف صعب أفكر دائمًا ما الذي كانت ماري كوري ستفعله في مثل هذا الموقف؟
إذا كانت السينما من قبل تشبه نهر النيل فهى الآن تشبه الدلتا. اعتدنا على وجود عدد محدود من الأصوات، والآن بفضل إتاحة التكنولوجيا صار لدينا العديد والعديد من الأصوات، وهذا جميل.
حين صرت المدير الفني لمهرجان أدنبرة السينمائي في عمر السابعة والعشرين وصفت بأنني هبطت على المهرجان مثل عاصفة، كنت أعرف الكثير عن السينما، كنت أمتلك طاقة هائلة لكني لم أكن قد تجولت في العالم بعد، لم أكن منفتحًا مثلما أنا الآن. أنا الآن في السابعة والخمسين من عمري، جسدي يتداعى، لكن مخيلتي تتوهج.
حين كنت أعمل على برنامجي Scene by Scene قضيت وقتًا ممتعًا مع مبدعين عظام. قضيت وقتًا مع لورين باكول، جاك ليمون وغيرهما. لم أتعلم منهم السينما فقط بل كيف أكون إنسانًا أفضل.
كانت الفكرة الأساسية في سلسلتي الأشهر The Story of Film: An Odyssey هي لقاء مخرجين خارج السينما السائدة وأبعد من السينما الأمريكية والأوروبية. أحاول دائمًا أن أكتشف ما لا أعرفه. دائمًا أقول إن ما أجهله هو أفضل أصدقائي. ما أجهله يبقيني حيًّا ويقظًا. أنا أعرف أشياءً عن مصر وأجهل عنها أكثر، لذلك أنا هنا الآن لأجدد نفسي، لأعيد شحن بطاريتي.
العمل على طريقة كيارستمي
حين أعمل على أحد أفلامي، أبدأ دائمًا بالبناء/ Structure. حتى هذه اللحظة لم أستخدم الحاسوب في كتابة أفلامي، حيث أكتب المشاهد على كروت ورقية. أكتب فكرتي عن المشهد، ليس مهمًّا أن يكون المشهد مكتملًا، أدون أحيانًا الموسيقى التي سأستخدمها في مشهد محدد، ثم أقوم بفرش الكروت أمامي على الأرض، ساعتها فقط أبدأ في رؤية الترتيب المناسب للمشاهد، وأقوم بترتيب الكروت. هذا يجعل عملي لاحقًا أكثر سهولة، خاصة في المونتاج. يمكنني أن انهي مونتاج فيلمي في ثلاثة أسابيع مثلًا؛ لأنني ألتزم إلى حد كبير بالبناء الأولي الذي بدأت به.
أحب أن أخلق حدثًا أمام الكاميرا، ثم أبدأ في ملاحظة ما يحدث حوله. كنت محظوظًا بمعرفة المخرج الإيراني الكبير عباس كيارستمى الذي كان يرى أن مهنة الإخراج تشبه ما يفعله مدرب كرة القدم، يقوم بتدريب فريقه، عمل بروفات مسبقة للعبة ووضع خطط لها، لكن وقت المباراة يكون بعيدًا، يتنحى جانبًا ويبدأ في ملاحظة ما يحدث.
هذه الطريقة التي أحب العمل بها، أنت مغمور تمامًا، أنت قلب وروح العمل لكنك أيضًا على مسافة منه. هذه طريقة مثيرة للعمل لأنها تفتح الباب للصدف، لما هو غير متوقع. إنها على نحو ما نوع من اللعب.
صوتى يتدفق عبر كل أفلامي. لا أريد أن يكون صوتي مثل صوت الإله، لا أريد أن أكون ذلك الذكر التاريخي كلي القدرة والسيطرة. أريد الرقة، الحميمية والشاعرية. أريد شيئًا يشبه الليل أو حكايا الجدات.
مثل طفل يلعب مع العالم
حين ذهبت لأصور فيلمي My First Movie في كردستان العراق مع أطفال لم يشاهدوا سينما أو كاميرا تصوير من قبل، أردت أن أصنع فيلمًا مع الأطفال وليس عنهم. بابلو بيكاسو قال مرة إن كل الأطفال فنانون بالفطرة. أعتقد أنه على حق، وأنه كلمنا تقدمنا في العمر فقدنا روح اللعب والقدرة على الابتكار والخلق. نصير مقيدين. لذلك أحب العمل مع الأطفال.
نشأت في بلفاست زمن الحرب، لذلك أردت أن أعمل مع أطفال نشأوا في ظروف مماثلة لنشأتي، لذا ذهبت لكردستان العراق؛ لأنني لم أرغب في أن أكون المنقذ الأبيض، أحضرت معي كاميرات ديجيتال بسيطة للأطفال، ووزعتها على عدد منهم بعد أن علمتهم كيفية استخدامها، ودون أن أعطيهم أي تعليمات طلبت منهم أن يصوروا ما يرغبون فيه. بعض ما صوروه كان أفضل بكثير مما صورته.
في أحد مشاهد الفيلم يصور طفل صديقه وهو يلعب في الطين في لقطة واحدة متصلة، ويخبرنا من وراء الكاميرا أنه يلعب بالطين لأنه لا يوجد شيء آخر ليلعب به. إنه يريد أن يصنع بيتًا من هذا الطين. إنه يهمس بأحلامه للطين. ما حاجة طفل كهذا لتوجيهي؟!
حياة من النظر
أعتقد أنني ولدت وأنا أتطلع نحو العالم. نشأت وحيدًا وعصبيًّا، ربما بسبب الحرب. كان جهازي العصبي مستثارًا دائمًا، بكلمة أخرى كنت حيًّا. كانت السينما في ذلك الوقت هي ملاذي الآمن حين ينطفئ الضوء في قاعة السينما يتلاشى خوفي ويخفت وعي بذاتي.
في مراهقتي شاهدت الكثير من أفلام الرعب. كانت سينما الرعب مثل تيار كهربي يسري خلال أعصابي. كانت أفلامًا لا يمكنني وصفها بأنها فنية، ثم شاهدت سايكو لألفريد هيتشكوك، فيلم رعب كبقية الأفلام لكنه يمتلك شيئًا آخر، وهذا الشيء الآخر اسمه الفن. يمتلك سايكو شكلًا سينمائيًّا، هالة ثقيلة كحضور ما هو جليل. كان نوعًا من الانفجار ولحظتها شيء ما أضاء داخل عقلي.
حين شاهدت أفلام هيتشكوك، كان يمكنني بوضوح وعلى نحو يكاد يكون ملموسًا رؤية الشكل السينمائي لحكاياته، حركة الكاميرا، زاوية التصوير وبقية الخيارات التقنية.
ثم اتسع إحساسي وفهمي للسينما، فشاهدت أفلامًا مثل قصة طوكيو للياباني الكبير ياسوجيرو أوزو، كلاسيكية مصنوعة بروح البساطة والرقة. اعتقدت ربما هكذا يجب أن تبدو الأفلام التي سأصنعها، لكني أدركت أنني مخطئ حين شاهدت فيلمًا لشوهي إيمامورا، ياباني آخر، كان فيلمه على النقيض من فيلم أوزو، كان متمردًا وصنع فيلمًا يشبه الروك أند رول. فكرت ربما هذا هو شكل الفيلم الذي ينبغي عليَّ صنعه أو ربما عليه أن يكون مزيجًا من رقة أوزو وتمرد إيمامورا.
شاهدت أفلامًا أخرى مثل The Emperor Naked Army Marches On، حيث المحاور يضرب محاوره. هذا شيء فظيع، نعم، لكن ماذا لو كان هذا الرجل الذي نشاهده يضرب أمامنا على الشاشة مجرم حرب، ارتكب الكثير من المجازر مع زملائه نهاية الحرب العالمية الثانية. قتل الكثيرين ثم أكلهم. هذا الرجل لن يعترف أبدًا بما ارتكبه، وصانع الفيلم اعتقد أن تلك هي الوسيلة الوحيدة لإجباره على الاعتراف. فيلم مربك وخلافي من الناحية الأخلاقية. حاولت أن أصنع شيئًا أشبه بذلك الفيلم في فيلمي Another Journey by Train حين سافرت مع أربعة شباب من النازيين الجدد حول أوروبا في محاولة للكشف عن أفكارهم المتطرفة، مثل حبهم لهتلر وإنكارهم للهولوكوست.
بعد أن تشربت كثيرًا من شاعرية السينما وتعقيد وتركيب الأفلام صنعت فيلمي «أنا بلفاست». أتخيل فيه مدينتي على هيئة عجوز عمرها 10 آلاف عام، تخبرني: أنا بلفاست وهذه حكايتي.
أصبت في سن صغيرة بنوع شرس من المياه البيضاء في إحدى عيني. فجأة كنت مهددًا بفقدان أهم شيء في حياتي. أعتقد مثلما يقول الرسام الفرنسي الكبير بول سيزان أننا نراكم في داخلنا خبرة ما شاهدناه طيلة حياتنا. يمكننا أن نسمي ذلك حياة من النظر.
هاتان صورتان للممثلة أنجريد برجمان متطابقتان من ناحية التكوين، الأولى من فيلم كازابلانكا والأخرى من سوناتا الخريف للسويدي الكبير أنجمار برجمان. الأولى براقة، هوليودية ولها هالة أسطورية، وفي الثانية كثير من الألم والحقيقة. أعتقد أن هذه النظرة المليئة بالألم لم تكن برجمان لتستطيع أن تقدمها على هذا النحو دون عمر من النظر، هناك الكثير الذي رأته وعايشته خلال سنواتها المنقضية.