ماريو ماندزوكيتش: اللاعب الذي يركض كـ«فورست جامب»
في الخامس عشر من يوليو/تموز عام 2018، كانت إيطاليا كلها تقف على قدم واحدة. طائرة «كريستيانو رونالدو» تستعد للهبوط في تورينو، وكان الكل في انتظاره. حضر الصحفيون من كبرى وكالات الأنباء، وانفجرت مبيعات القمصان التي تحمل اسم اللاعب البرتغالي، وكتب لاعبو البيانكونيري على صفحاتهم ترحيبًا بقدومه. كان ذلك حدثًا تاريخيًا في عيون الجميع، إلا بالنسبة لشخص واحد فقط اسمه «ماريو ماندزوكيتش».
في تلك الأثناء، كان ماريو يخوض مغامرة مونديالية مثيرة مع منتخب كرواتيا، وسأله أحد المراسلين عن قدوم رونالدو لفريقه فأجاب في ثلاث كلمات فقط «أنا لست مهتمًا!» قالها وساد الصمت في قاعة المؤتمر الصحفي، ثم بدأت تحاوط التساؤلات تلك الإجابة الغريبة؛ هل يخاف الكرواتي على مركزه بعد قدوم الدون، أم يشعر بالغيرة من نجومية كرستيانو؟
في الواقع ليس هذا أو ذاك، فماندزوكيتش لم يكن بحاجة للخوف بعد تأكيدات «ماسيمليانو أليجري» الأخيرة على تمسكه به، ولا هو أكثر لاعبي يوفنتوس جماهيرية وشعبية حتى يغار من رونالدو. إنما كان يعني ماريو ما يقوله فعلًا، وكان يتحدث من زاويته الخاصة والشخصية، هذه الزاوية التي سنطلق عليها: زاوية دينامو زغرب.
زاوية دينامو زغرب
ماريو شخص عبوس للغاية، لا يبتسم إلا عند الضرورة القصوى. لا يظهر أبدًا في أي إعلان دعائي، ولا ينشر عبر صفحاته سوى صور أثناء التدريبات أو المباريات. يصعب أن تجده ضيفًا على إحدى القنوات الكبرى، ويستحيل أن يظهر مثلًا في حفل غنائي أو خلال مباراة تنس،ويصرح علانية بأنه يكره أن يجد اسمه في مانشيتات الصحف وتقارير التلفاز. كما يعترف بأنه لا يجيد أي شيء سوى كرة القدم، لذا هو لا يتخيل نفسه في أي وظيفة أخرى. وظيفة؟ هل كرة القدم محض وظيفة؟
هذه هي زاوية ماريو ماندزوكيتش. هو لا يعتبر نفسه نجمًا سينمائيًا ليلهث خلف الشهرة ويتفنن في الاستعراض، إنما رجل يؤدي مهمة محددة، وعليه أن يضع كل تركيزه و طاقته فقط في إنجازها دون النظر لأية عوامل أخرى.
ولهذا فإن قرار التعاقد مع رونالدو لم يكن يعنيه، أو بتعبير أدق لم يكن ليؤثر على النمط الذي اختاره ماريو، بل حتى لو كان اليوفي قد تعاقد مع ميسي وصلاح ونيمار وأجويرو بجانب الدون، أو إن قررت الإدارة التخلي عن ديبالا وبيانيتش وبونوتشي وكيلليني وبيع النادي نفسه، في كل تلك الحالات سيواصل ماندزوكيتش ما يقوم به بكل صرامة: وهو التدريب الجاد، والركض المستمر في كل أرجاء الملعب، والالتحام مع الخصم في كل كرة مشتركة فقط لا غير.
هكذا تعلم ماريو أن يأخذ الحياة على محمل الجد منذ الصغر. فقد فتح عينيه كطفل على حرب التحرير التي مزقت كرواتيا، وأجبرته على الرحيل لألمانيا طلبًا للجوء. وهناك عاش تحت تهديد دائم بالترحيل، فأصبح لزامًا عليه أن يستمسك بكل فرصة ويقاتل على نجاحه.
لعب أبوه الكرة، فامتهن هو الآخر اللعبة، وعندما عادا سويًا لبلدهما ذاع صيت الولد حتى انتقل لكبرى أندية كرواتيا: دينامو زغرب. وفي نهاية أحد مواسمه هناك، كان قد سجل 14 هدفًا بـ24 مباراة وظن أنه سيحصل على مكافأة لكنه تفاجأ بخصم وصل لـ100 ألف يورو من مستحقاته. سأل عن السبب، فأخبروه بأنه لم يبذل الجهد الكافي بأحد المباريات فوقعت عليه تلك العقوبة. عندها أمن ماريو بقانون واحد: المجد لمن يقاتل، والعار لمن يتخاذل.
اركض يا ماريو!
من فيلم «فورست جامب»
أحب أفلام «توم هانكس»، لكني أفضل «فورست جامب» على وجه الخصوص. وفي آخر مرة شاهدت الفيلم، وتحديدًا عند صيحة «اركض يا فورست…اركض!» تذكرت ماندزوكيتش، أو بمعنى آخر اكتشفت مساحة تماس وتشابه بين فورست وماريو.
فورست جامب شخص ذو قدرات عقلية محدودة، لا يمتلك أي مميزات ظاهرية، لا يحظى بصداقات عدة، ومن الصعب أن يلفت انتباه أحد ما، يواجه تحديات ليست بسيطة لكنه ينجح في تجاوزها بخفة وعفوية. وكلما أحس فورست بالخطر، فإنه يركض بسرعة مدهشة، ليكتشف عندها من حوله إمكانيات ومميزات لم يكونوا يظنون أنه يمتلكها، فينال شهرة واسعة، ويبدأ الآخرون في العدو خلفه حتى دون أن يفهموا السبب من وراء ذلك.
أما ماريو فهو مهاجم لا يملك سجلًا تهديفيًا استثنائيًا، لا يراوغ كثيرًا بالكرة أو بدونها، وإن فعل فهو قطعًا لا يلفت انتباهك، وهو آخر من يوكل إليه تسديد الكرات الثابتة، لا يمكن أن يكون اللاعب الأول في فريقه أو منتخبه، وهو يلعب كرة القدم الكلاسيكية الخالية من مصطلحات المهاجم الوهمي والجناح العكسي. أضف لذلك كله أنه لا يحظى بسرعة استثنائية، لكنه يركض، يركض كأن أحدًا يصيح فيه «اركض يا ماريو…اركض!»
إذا تأملت مسيرة ماندزوكيتش، ستجد أنها تتكون من مجموعة تحديات متتالية تواجه ماريو، وسيكون عليه تجاوزها. سينجح الكرواتي في التغلب على أكثرها، ويتعثر أمام البعض الآخر، لكنه سيواصل الركض!
صدق أو لا تصدق
هناك حزمة من الأرقام العجيبة نجح ماريو في تحقيقها خلال مسيرته. لنبدأ بمشواره الدولي مثلًا، تخيّل أن ماندزوكيتش، الذي لا يمتلك مزايا فنية خارقة،يحتل المرتبة الثانية في قائمة الهدافين التاريخيين لكرواتيا، ويبتعد بهدفين فقط لا غير عن الأسطورة «دافور شوكر»!
كان آخر أهدافه تلك هو هدف الفوز على إنجلترا بنصف نهائي المونديال الذي سجله بعد ثلاث دقائق فقط من التحام شديد الخطورة مع الحارس «بيكفورد» كاد يكلفه اعتزال الكرة بلا مبالغة.
بذكر الدقائق والمونديال، ينبغي التوقف قليلًا أمام عدد الدقائق التي لعبها ماندزوكيتش خلال ذلك الحيز الزمني الضيق وهو في الثانية والثلاثين من عمره، فقد شارك في 608 دقيقة عبر 6 مباريات ثلاثة منها امتدت لأوقات إضافية، ثم عاد ليوفنتوس ليحل بديلًا في مباراة الفريق الرسمية الأولى، ويشارك كأساسي في الثانية بل ويسجل أيضًا، وكأنه عائد من إجازة في المالديف وليس من بطولة دولية مرهقة.
وقبل أن ننتهي من استعراض أرقامه الدولية، دعني أفاجئك بالمسافة التي قطعها ماريو ركضًا في كأس العالم، وهنا يجب التذكير أن ماندزوكيتش هو مهاجم وليس لاعب وسط أو جناح، وهذا المهاجم في بطولته الدولية التي ربما تكون الأخيرة تمكن من الركض لقرابة الـ64 كيلومترًا كاملة، فيما لاعب بحيوية وشباب «كيليان مبابي» ركض 52 كيلومترًا فقط، نعم جرى أكثر من النفاثة الفرنسية!
عاد سوبر ماريو لتورينو. وفي الوقت الذي عانى رفاقه «مودريتش، راكيتيتش، لوفرين» من الإرهاق وغابوا لأسابيع عن فرقهم، بدا مهاجم البيانكونيري مستعدًا. المثير للغاية أنه يقدم حاليًا أفضل مواسمه بقميص اليوفنتوس، فخلال 15 مباراة بالدوري سجل الكرواتي 8 أهداف وصنع ثلاثة آخرين، وبات ركيزة أساسية بعدما حاز ثقة أليجري التامة.
ماريو أيضًا يتألق كلما كان الخصم أقوى والمباراة أصعب، هذا الموسم سجل في شباك نابولي وروما وميلان والإنتر ولاتسيو، وقبل شهور كاد يقصي ريال مدريد في البرنابيو بهدفين رائعين، وفي نهائي تشامبيونزليج 2016/2017 كان صاحب هدف اليوفي الوحيد أمام الإعصار الملكي، وهذا أمر آخر لا ينال عليه ماريو التقدير الكافي ضمن أمور أخرى.
مع رونالدو
بمجرد انضمام كرستيانو لليوفي، بدأت تطفو الأسئلة حول شكل اليوفي في الملعب بوجود الدون. رحل «هيجوأين»، وبقي الثنائي «ديبالا وماندزوكيتش» مع رونالدو إلى جانب عدد كبير من الأطراف الهجومية تحت تصرف ماكس أليجري.
هل يلعب اليوفي برسم 4/2/3/1 مع دخول البرتغالي كمهاجم وماريو كلاعب طرف؟ أم يتحول الرسم لـ4/3/3 بوجود «برنارديسكي» وديبالا وأمامهم رونالدو؟ ربما أيضًا 3/5/2 وحينها قد يخرج ديبالا أو ماريو من التشكيل.
المشكلة أن أليجري سبق له اللعب بكل تلك الرسوم، هو مدرب لا يقيد نفسه بتوزيع واحد ويحب أن يجرب ويغير حتى يستقر على رسم وتشكيل أساسي، وغالبًا هذا يحدث في فبراير من كل موسم، لكن الأكيد هو وجود رونالدو في التشكيل الأساسي مهما كانت العواقب.
اليوم بات يفصلنا عن فبراير أيام معدودة، وقد فضل ماكس في الأسابيع الماضية اللعب بثلاثي هجومي في طريقتين؛ الأولى وجود كرستيانو إلى جوار ماريو كمهاجمين أمام ديبالا، والثانية هي وجود رونالدو وديبالا كأطراف حرة وأمامهم ماندزوكيتش مهاجم صندوق.
والمستهدف في كلتا الطريقتين هو بعض الأمور؛ أولًا وجود مهاجم قادر على خلق الفرص والمساحة وتشتيت مدافعي الخصوم لفتح الطريق أمام رونالدو، وثانيًا هو تحقيق سيولة تكتيكية بتبادل الأدوار بين رونالدو والمهاجم الآخر داخل وخارج منطقة الجزاء، وثالثًا هو زيادة القوة الهجومية القادرة على تهديد مرمى الخصوم.
ماريو يكفل لماكس تحقيق كل تلك الأمور، فقد سبق أن لعب كجناح وأجاد في هذا المركز، وقد أبدى تفاهمًا لا بأس به مع رونالدو وديبالا في تبادل المراكز بين العمق والطرف، كما تحسنت دقة تسديداته هذا الموسم بوضوح ويجيد ملاحقة الكرات المشتتة أمام المرمى مما يضاعف حظوظ البيانكونيري، وأخيرًا فإنه يكفل للفريق تفوقًا شديدًا في الكرات الهوائية إذ يفوز بمعدل 3 كرات بالمباراة الواحدة في الدوري.
كل ذلك يقودنا إلى شيء واحد؛ وهو أن ماريو ورونالدو ليسا في مجال منافسة بعضهما كما ظن البعض في بداية الموسم، بل على النقيض فإن مشاركة الاثنين سويًا حررت البرتغالي وجعلته يتحرك بلا قيود، وأظهرت الكرواتي في أفضل أداء له منذ قدومه لإيطاليا، وبدا يظهر عليهما التأقلم والتجانس، ولذلك فإن إصابة ماندزوكيتش الأخيرة قد تربك حسابات أليجري وتقلبها رأسًا على عقب.
لكن الأكيد أن عودة ماريو للتعافي ستزيد من فرص اليوفي في تحقيق البطولة الغائبة منذ 23 عامًا، تُرى إلى أي مدى يمكن لحذاء ماريو السحري أن يأخذه؟