ماركوس الابن رئيسًا للفلبين: قصة غسيل دماغ شعب
في مايو/ آيار 2022 أعلن فرديناند ماركوس فوزه بالانتخابات الرئاسية في الفلبين. حصل فرديناند المعروف باسم بونغ بونغ على نسبة 56% من الأصوات الانتخابية. تلك النسبة تُعتبر أغلبية مطلقة، وبونغ هو أول من يحققها منذ الإطاحة بالديكتاتور فرديناند ماركوس، والده ولهما نفس الاسم، منذ عام 1968.
بعد الإعلان عن الفوز توجه الابن 64 عامًا، ليقدم مراسم الاحترام إلى قبر الديكتاتور الأب في المقبرة الوطنية للأبطال في مانيلا. الأغلبية المطلقة التي فاز بها الابن أثارت تعجب كل متابعي الوضع السياسي في الفلبين. فلم يكن تاريخ الشعب مع الأب، ولا مع العائلة بالكامل، تاريخًا يستحق المجازفة بإعادته عبر انتخاب الابن.
عائلة ماركوس عاشت حياة من الإسراف قامته فيها بسحب مليارات الدولارات من ثروات البلاد. لدرجة أن زوجته، إميلدا، باتت رمزًا للبذخ، لدرجة أن ابتكر الفلبيون مصطلح امرأة إميلدية، دلالة على إسرافها الشديد. لكن كون العديد من الاتهامات والقضايا التي وجهت لإميلدا لم تثبت بالأدلة، ولم تحكم المحكمة بإدانتها، فقد ظلت هي واثنان من أبنائها نشيطين في المجال السياسي، وصعدت بابنها لسدة الحكم مرة أخرى.
ومبررها الدائم أن ثروة زوجها جاءت من كنز الذهب الذي عثر عليه قبل أن يصبح رئيسًا. رغم أنه في لحظة انتخابه عام 1965 كان الدين الخارجي يقارب ملياري دولار فحسب، لكن في نهاية حكمه عام 1985 ارتفع الدين إلى 26 مليار دولار. ومع اختفاء مليارات الدولارات من الموازنة العامة للدولة، اختفى كذلك آلاف المعارضين من الحياة العامة. فقد كانت المعارضة من الاضطهاد والقمع طوال فترة حكمه.
الدفن في مقبرة الأبطال
بحلول عام 1986 كان الشعب قد بلغ نقطة الانفجار. غضب عارم أخذ في الازدياد حتى أدى لانتفاضة سلطة الشعب التي أنهت 20 عامًا من حكم ماركوس الأب. تدخل الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، أكبر داعمي ماركوس، ونصحه بالمغادرة بهدوء بدلًا من أن يتطور الوضع إلى مواجهة عسكرية. فرت العائلة بأكملها إلى منفى في هاواي بالولايات المتحدة الأمريكية وفرّه لهم ريجان. بعد الفرار بثلاث سنوات توفي ماركوس الأب.
لم تدفنه العائلة في الولايات المتحدة، وحرصت على تحنيط جثته ريثما تنتقل إلى الفلبين. كانت الأسرة مصممة على دفنه في مقابر الأبطال في الفلبين، واستغرق الأمر 17 عامًا من المعارك القضائية، حتى نُقل إلى مقابر الأبطال في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016.
تلك السطوة التي جعلت الديكتاتور المخلوع يُدفن في مقابر الأبطال جاءت من سطوة العائلة التي سُمح لها بالعودة للفلبين عام 1992. أي بعد 5 سنوات فحسب من النفي، و3 سنوات من وفاة ماركوس الأب. الثروة الهائلة التي احتفظت بها الأسرة مهدت لهم الطريق للعودة إلى السياسة ومناطق النفوذ. حتى أن إميلدا نافست في الانتخابات الرئاسية بعد عام واحد فقط من عودتهم من المنفى.
بدا واضحًا أن الشعب يوشك أن ينسى ما فعل الأب بهم. ولم يكترث لتقرير منظمة الشفافية الدولية، الصادر عام 2004، الذي أكد أن ماركوس من أكثر الرؤوساء فسادًا على الإطلاق، فقد اختلس منفردًا 10 مليارات دولارات من الدولة. وفي عام 2001 افتحت إميلدا متحفًا كاملًا يعرض أحذيتها فحسب. وكتبت بجوار كل حذاء المناسبة التي ارتدته فيها. يعرض المتحف 250 زوجًا من الأحذية فحسب، من أصل 3000 زوج حذاء تمتلكم إميلدا، البالغة 71 عامًا وقت افتتاح المتحف.
الشعب يدفع للعائلة
رافق تلك التقارير التي تتحدث عن فساد ماركوس وأسرته حملة، مجهولة المصدر، على وسائل الإعلام الاجتماعي والصحف والتلفزيون لإعادة تسمية حقبة ماركوس الأب باعتبارها فترة ازدهار وعصر ذهبي للفلبين، لا فترة حكم قمعي وأحكام عرفية تتميز بانتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان.
لاقت تلك الحملة رواجًا لدى الغالبية، وآمن الفلبيون أنهم أخطأوا بالثورة على ماركوس الأب. وأن تشويه صورة عائلة ماركوس بعد الانتفاضة كان أمرًا سيئًا. وتكلل كل ذلك بقرار رسمي صدر عام 2017 من رودريجو دوتيرتي، الرئيس الفلبيني آنذاك، باعتبار ماركوس الأب بطلًا، وبأن كافة الانتقادات التي وُجهت إليه ليست سوى هراء.
بالطبع لا يمكن لعائلة ماركوس أن تعيد شيئًا مما سرقته من خزائن الدولة، فهى تستمر في حصد الاعتذار بعد الاعتذار. فبات جليًا أن الشعب هو من يجب عليه أن يدفع لهم تعويضًا على جريمته في إسقاط الأب وتشويه العائلة. قرر الشعب أن يعتذر عن جريمته عبر مساندة الابن في مسيرته المهنية.
فشغل الابن حاكم إقليم وعضو في مجلس الشيوخ الفلبيني ثم الكونجرس. وانتخبت شقيقته عضو في مجلس الشيوخ حاليًا. أما والدتهم فكانت عضوة في مجلس النواب لمدة 4 ولايات. واستطاع ماركوس الابن أن يقنع الشعب بأنه مرشح التغيير، وأنه طريقهم للسعادة ووحدة البلاد، وأنه القادر على جعل البلاد تتجاوز الوضع المزري الذي وصلته تحت تأثير الفساد وجائحة كوفيد.
تحالف ابن ديكتاتور وبنت قاتل
لم يشارك ماركوس الابن في أي مناظرة رئاسية، ورفض كافة المقابلات الإعلامية، كي يتجنب أي خوض في سجل عائلته المشبوه. وظل يردد في خطاباته على مواقع التواصل وبين مؤيديه أنه يملك موقفًا متسقًا، وأن الملايين يحبونه. ورغم معارضة ملايين الفلبينين له، فإن النتيجة النهائية أثبتت أنه نجح في إقناع الناس بأنه فعلًا اختيارهم الأمثل. رغم أنه لم يقدم برنامجًا انتخابيًا، ولم يحدد وعودًا حقيقية أو خطوطًا عريضة لما سيفعله حال فوزه.
ربما لم يقم بشيء سوى تعديل ملفه الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي. الرجل كان يقول إنه حاصل على شهادة من جامعة أكسفورد في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. لكن المعارضة قالت إنه حصل على دبلوم خاص من الجامعة لا يرقى لأن يصبح شهادة فعلية من الجامعة. حُسم الجدل حين دخلت جامعة أكسفورد على الخط مباشرة مؤكدةً أن ماركوس الابن لم يُكمل شهادته التي زعم أنه حصل عليها.
ولا يعدو برنامجه سوى مواصلة سياسات سلفه دوتيرتي. ولم يؤده دوتيرتي علانية لكن وجود ابنته مرشحة قوية، وواثقة من فوزها، في منصب نائب الرئيس لماركوس الابن يؤكد أن ثمة تحالفًا حدث بينهما. ورغم أن منصب نائب الرئيس لا يملك صلاحيات واسعة كمنصب الرئيس، فإن وجودها نائبةً لماركوس يعتبر إعدادًا لجعلها الرئيس القادم للفلبين عام 2028.
ما يضفي مزيدًا من التساؤل حول كيف يختار الفلبينيون رؤساءهم. فوجود سارة دوتيرتي التي تنوي أن تكمل سياسات أبيها يعني أن الشعب لا يزال يؤيد الرجل الذي جعل القتل خارج إطار القانون برنامجه الأساسي. فالرجل شارك في أكثر من 1400 عملية قتل لتجار ومتعاطي المخدرات على اختلاف مراحلهم العمرية من دون اللجوء للشرطة أو للقضاء. ووعد شعبه لحظة انتخابه بأن يقلل من مستويات الجريمة بقتل المجرمين مباشرة، دون الخضوع للقانون الذي قد يمنحهم حريتهم مرة أخرى بسبب ثغراته العديدة.