الساعة الآن الثانية فجرًا بتوقيت مدينة روساريو. تتحرك سيارة ببطء، يجلس داخلها شخصان يبدو أنهما يبحثان عن منزل معين. تتوقف أمام إحدى المنازل، ليهبط أحدهما، ويخرج كشاف ضوء ليقرأ اسم صاحب المنزل، وأخيرًا يهمس «إنه هنا» قبل أن يطرق الباب. يصحو أهل المنزل في ذعر، ويسأل صاحبه «من يطرق الباب؟ هل أنتم الشرطة؟».

«لا لسنا الشرطة، أنا المدرب» يرد الطارق: «مدرب؟ أي مدرب؟ وماذا يريد ذلك المجنون في هذا التوقيت؟» يتساءل رب المنزل قبل أن يفتح الباب بحذر، ليتفاجأ برجل يقتحم منزله مسرعًا ويسأل «أين الولد؟ أخبرني أين الولد بحق الجحيم؟!».

طبعًا يصاب صاحب المنزل بالذهول، ويشير لإحدى الغرف دون أن ينبس بكلمة واحدة. يركض الرجل نحو الغرفة، ليجد الولد الذي يبلغ من العمر الثالثة عشرة نائمًا، فيشرع في تفحص قدمه جيدًا قبل أن يتمتم: «علينا ضم هذا الولد للفريق حالًا»!

هذه ليست قصة خيالية وقعت في فيلم هوليودي، بل هي قصة حقيقية أبطالها أحياء بيننا اليوم. فهذا الولد الصغير أصبح بعد ذلك لاعبًا ثم مدربًا، ونعرفه الآن باسم: ماوريسيو بوتشيتينو، أما ذلك المدرب المجنون فلم يكن سوى مارسيلو بيلسا، وسأحاول أن آخذك في جولة داخل عالم المدرب الذي ألهم بيب جوارديولا، دييجو سيميوني، أنطونيو كونتي وطبعًا الولد الذي اقتحم منزله في تلك الليلة.

اللوكو

اللوكو «El Loco» هي كلمة إسبانية تعني المجنون، وهذا هو لقب مارسيلو بيلسا. 

وربما بدأ الجنون عندما قرر مارسيلو أن يسلك مسارًا مختلفًا عن عائلته التي تمتهن المحاماة منذ سنوات بعيدة. حيث ساهم جده في إصدار التشريعات الأساسية للقانون في الأرجنتين، ومن ثم ورث الآباء والأبناء حب المهنة عدا مارسيلو.

يشاع أن مكتبة العائلة تحتوي على 30 ألف كتاب، غالبًا لم يقرأ منهم بيلسا أي شيء، إذ كانت له اهتمامات مختلفة غادر في سبيلها المنزل حين كان في الخامسة عشرة من عمره. أقام الصغير بسكن أكاديمية نادي نيولز أولد بويز، وهناك وجد البيئة الحاضنة لشغفه العميق الذي سيتحول في غضون سنوات لهوس حقيقي بكرة القدم. 

بدأ الأرجنتيني مسيرته كمدافع، لكنه سرعان ما اكتشف أنه يفتقد لبعض سمات اللاعب الجيد كالقوة والسرعة، وهو ما جعله يعتزل في سن الخامسة والعشرين فقط. لم يعنِ ذلك قطع علاقته باللعبة، بل إنها كانت على وشك البداية الحقيقية، ولكن أين؟ هناك في جامعة بيونس آريس.

الجرافيكو

الجرافيكو El Gráfico هي كلمة إسبانية أخرى وتعني الرسم البياني، وهذا هو اسم المجلة المفضلة لبيلسا. 

كان مارسيلو مهتمًا بتفسير لماذا تحدث الأمور على أرض الملعب. يسأل نفسه دومًا؛ لماذا استقبل هذا الفريق ذلك الهدف؟ لماذا يشارك أربعة مدافعين بدلًا من ثلاثة؟ وما الذي يميز لاعب الوسط عن غيره؟ وللإجابة على كل تلك التساؤلات اعتمد على أمرين؛ الأول هو مطالعة مجلة الجرافيكو المختصة بالتكتيك. والثاني هو دراسة التربية البدنية في الجامعة

هكذا بدأ بيلسا في تكوين قناعاته عن اللعبة، واكتساب الأدوات اللازمة لتحليل مكامن القوة والضعف في كل فريق، بقي الآن أن يحاول تطبيق ما تعلمه ويراكم الخبرة. وقد أتته الفرصة بعد عامين حين عُرض عليه تدريب فريق الجامعة، فظهرت السمات الأولى لمارسيلو المدرب.

كان المطلوب منه إعداد قائمة بعشرين لاعبًا فقط. الآن حاول تخمين عدد اللاعبين الذين تابعهم بيلسا وجمع معلومات عنهم. مائة؟ ربما مائتين؟ ألف مثلًا؟ حسنًا استعد للمفاجأة، لأنه وضع في حساباته ثلاثة آلاف لاعبعب، وقد صنع اختبارات تقيس قدراتهم الفنية والبدنية حتى وصل للقائمة النهائية. 

أكثر من ذلك أنه أدخل لاعبين يصغرونه بثلاثة أعوام فقط في أجواء احترافية وصارمة. تخيل مثلًا أنه فرض عليهم نظامًا غذائيًا معينًا، ومواعيد تدريب محددة، وطبعًا أدوارًا مرسومة بعناية في الملعب حتى شعروا أنهم لاعبون محترفون وليسوا طلابًا يمارسون هواية.

الأكيد أنهم شعروا بقيمة ما فعله مارسيلو حين حققوا التعادل مع الفريق الرديف لبوكا جونيورز، بعدما ظهروا أمامه كنِد وهددوا المرمى ولعبوا بإيقاع سريع يقوم على التحوّل من الدفاع للهجوم والعكس، كل ذلك كان بفضل مدرب شاب استمد أفكاره من مجلة رياضية ستنشر صورته على غلافها في غضون سنوات معدودة.

ألفاخوريس

ألفاخوريس Alfajores هي كلمة إسبانية ثالثة تعني الفاخر، وهذا هو لقب حلوى شهيرة تنتشر في أمريكا الجنوبية، ويقول المهاجم جابرييل باتيستوتا إنها كانت السبب وراء كراهيته لبيلسا.

القصة بدأت مع عودة مارسيلو لناديه مرة أخرى، إذ تم تكليفه بوظيفة كشَّاف المواهب، فكان أول ما قام به هو شيء غريب جدًا، يفوق حتى ما قام به في الجامعة غرابة. تخيل أنه أحضر خريطة للأرجنتين وقام بتقسيم مساحتها لنحو 70 منطقة، ثم انطلق في سيارته باحثًا عن المواهب في طول البلاد وعرضها. كان ذلك سلوك رجل مهووس يلهث وراء حلم ما. 

والحلم، كما يقول باتيستوتا، كان استقطاب نخبة من الناشئين الذين تجمعهم الموهبة والقدرة على تنفيذ أفكار تكتيكية مبتكرة، تلك الأفكار التي بدأ بيلسا يطورها بفضل التجارب التدريبية الثلاثة التي تأثر بها، وهي تعود لكل من: لويس مينوتي، كارلوس بيلاردو، وأخيرًا أريجو ساكي. 

الأول والثاني هما المدربان اللذان فازا للأرجنتين بمونديال 1978 و1986، ولكن شتان الفرق بينهما، فالأول يعتمد على أسلوب لعب هجومي يقوم على الاستحواذ، والثاني ينتهج الكرة الدفاعية التي تقوم على المرتدات الخاطفة. الأول مغامر لدرجة التهور، والثاني عقلاني لدرجة البرجماتية. فكيف جمع مارسيلو بين النقيضين؟ 

الفكرة أن مارسيلو يرى الاستحواذ الوسيلة الأفضل للعب الكرة، لكنه في نفس الوقت معجب بالتحولات السريعة بين الحالتين الدفاعية والهجومية. هو يفضل التدرج بالهجمة عن طريق تمركز اللاعبين، إلا أنه أيضًا يستعين بالضغط الشرس والاندفاع البدني لاستخلاص الكرة في مناطق الخطورة. طبعًا يعمل على رفع كفاءة فريقه، لكنه ينخرط في دراسة ثغرات الخصوم بصورة استثنائية.

وللجمع بين كل ذلك، حوَّل بيلسا حياة لاعبيه لكابوس حين تم تعيينه مدربًا لفريق أولد بويز الرديف ثم الأول مطلع التسعينيات. أولًا يحرم باتيستوتا من تناول ألفاخوريس بسبب زيادة وزنه، ويخبر صانع الألعاب جيرارد مارتينو أنه لن يشركه طالما لا يركض بشكل أكبر، ويوبخ المسكين بوتشيتينو بعدما سجل هدفًا لأنه تمركز في المكان الخاطئ، ويطلب من الحارس نوربيرتو أشياء جنونية كالمشاركة في بناء الهجمة، وأخيرًا يأمر كل هؤلاء بقراءة ثلاثة مجلات تكتيكية أسبوعيًا كما يوزع عليهم مسئولية جمع كل معلومة ممكنة عن الخصم القادم للاستفادة منها في التدريبات.

ليبرتادوريس

ليبرتادوريس Libertadores هي كلمة إسبانية رابعة وتعني المحررين، وهذا لقب أعلى بطولة قارية في أمريكا الجنوبية، ولم يفز بيلسا بها أبدًا. 

يقول ثور هوجستاد، المحرر بمجلة «Fourfourtwo»، إنه خلال موسمي 1990/1991 و1991/1992 قدم مارسيلو رفقة أولد بويز كرة قدم فريدة لم تكن تعرفها الأرجنتين من قبل. حيث يتحرك اللاعبون بصورة منظمة للغاية، ويعرف كل واحد منهم ماذا يفعل تحديدًا. 

يستطيع اللاعبون بناء اللعب وقت الاستحواذ بشكل رائع، والتنقل من مرحلة لأخرى في الهجمة بسلاسة. وفي الوقت ذاته يبدون شراسة دفاعية، وقوة في التدخلات الثنائية، ويفتكون بخصومهم في الهجمات المرتدة بسرعتهم الفائقة، بل إن الفريق تحوَّل لماكينة ضغط يصعب أن يجاريها أحد.   

كان نتاج كل ذلك العمل هو التتويج بالدوري، والتقدم بخطى واثقة في كوبا ليبارتادوريس حتى اصطدموا بساو باولو في النهائي. تعادل الفريقان، لكن ركلات الجزاء عبست في وجه بيلسا، فخسر البطولة. وهنا اكتشف الأرجنتيني أنه استنزف كامل قدرات لاعبيه الذهنية والبدنية، يكفي فقط أن تعرف أنه كان يدربهم على 120 موقفًا دفاعيًا و120 آخر هجوميًا أسبوعيًا.

وهذه سمة أخرى بارزة فيه، مارسيلو شخص مولع بالتفاصيل، ولا يجد أي أزمة في العمل 14 ساعة يوميًا. المشكلة أنه يتوقع ممن حوله بذل نفس الجهد والانغماس بتلك الصورة، لكنه يتفاجأ أنهم يُستنزفون واحدًا تلو الآخر. لذلك استقال من وظيفته وودع ناديه المفضل. 

بعدها خاض تجربتين في المكسيك، ثم عاد للوطن ليجري مقابلة مع إدارة نادي سارسفيلد. سألوه كيف يمكن أن تطور فريقنا؟ فأخرج حقيبة بها 51 شريطًا عليهم تسجيلات دقيقة عن نقاط قوة وضعف الفريق. حصل المهووس على الوظيفة، وفاز بالدوري، واستقال في العام التالي ربما لأن لاعبيه استغاثوا من أفعاله، ليبدأ بعدها الخطوة الأكثر غرابة في مسيرته.

3/3/3/1

3/3/3/1 ليست كلمة إسبانية، لكنها تشير للرسم التكتيكي المفضل لبيلسا. 

وصل مارسيلو لقمة هرم كرة القدم في بلده، وأصبح مدربًا لمنتخب الأرجنتين قبل كوبا أمريكا 1999. وهي لم تكن بالذكرى السعيدة على كل حال، إذ ودع البيسيليستي البطولة من ربع النهائي. وقد ألقت الصحافة اللوم على اتحاد الكرة الذي حرم بيلسا من بعض لاعبيه بسبب مباريات الأندية. 

لكن في العام التالي، ومع تصفيات مونديال 2002، باتت الأمور مختلفة. حيث وفر الاتحاد لبيلسا كل احتياجاته، وبات لدى الأرجنتين قائمة مليئة بالنجوم من أمثال روبرتو أيالا، زانيتي، سورين، سيميوني، وأورتيجا بل إنه كان في حيرة من أمره للدفع بكريسبو أم باتيستوتا لأن خطته تقوم على وجود مهاجم واحد.  

خلال التصفيات، أظهر الأرجنتين أداءً هجوميًا ضاربًا. فاز أبناء بيلسا في المباريات الستة الأولى، وتلقوا خسارة وحيدة، وجمعوا 43 نقطة من 18 مباراة في رقم قياسي صامد حتى الآن. وبالتالي اعتلوا صدارة تصنيف الفيفا قبل بدء البطولة التي بدا أن الأرجنتين ستفوز بها.

لكن وقعت الصاعقة، وأقصى بيلسا من دور المجموعات وصعد إنجلترا والسويد على حسابه. ومنذ تلك اللحظة، بدأت الشكوك تحوم حول مدى كفاءته العملية كمدرب. إذ رأى البعض أنه غرق في التفاصيل بحيث لم يعد بإمكانه الالتفات للصورة الكاملة، وظن البعض الآخر أن شخصيته كانت أضعف من قيادة كل هؤلاء النجوم، واعتقد آخرون أن المشكلة تكمن في تفكيره الزائد عن اللزوم. 

في ميزان البطولات، لا يبدو بيلسا مدربًا كبيرًا، فكل ما فاز به هو الدوري الأرجنتيني وذهبية أولمبياد 2004، إلا أن النظرة له ستكون مختلفة تمامًا بمعيار التأثير في عالم كرة القدم الحالي. اليوم يمتلك الأرجنتين تسعة مدربين كانوا لاعبين بفريق أولد بويز تحت ولاية بيلسا، بعضهم درب برشلونة وإسبانيول وإشبيلية وبلباو وتوتنهام. 

وفي إسبانيا أيضًا، هناك دييجو سيميوني الذي لا ينتهج نفس أسلوب مارسيلو الهجومي، لكنه أحد أفضل من يستخدم التحولات الهجومية، ويثني دومًا على ما تعلمه من مدربه عن اللعب العمودي. أما بيب جوارديولا، فلم يسبق له اللعب تحت قيادة اللوكو، لكنه لم يبدأ مسيرته التدريبية إلا حين زار بيلسا وقضى في منزله 11 ساعة يتعلم منه. وفي 2014، كان زيدان يقضي يومه بمقر نادي مارسيليا لمعايشة تدريبات بيلسا الفريدة. 

مارسيلو أشبه ما يكون بأستاذ الجامعة، يعرف كل النظريات ويمتلك إجابات على أي سؤال، ويمكنه أن يمكث في مكتبه طوال اليوم يطالع الكتب ويعد المحاضرات. قد لا يعرف الكثير عن سوق العمل، ولا يمتلك المهارات الحياتية المختلفة، ولا يطيق أحد العمل معه، لكن الكل يحب أن يزوره ويتزود بعلمه وخبراته ولو لمرة واحدة.