كانت الأيام ممتزجة مع بعضها البعض بجوار الساحل بالنسبة لمستر «سين» بطل حكايتنا الخيالية اليوم، ذلك الرجل الذي قرر قضاء بضعة أيام بمدينة نابولي الجنوب إيطالية. مدينة امتزج بها التاريخ بالفساد، الأصالة بالظلام، عبق الماضي بعبثية الحاضر واضمحلال المستقبل.

حالها حال ليالي مستر سين بها، التي كانت تبدأ بشرب القهوة، مع نسمات الصباح القادمة من البحر التيراني، وبعده التجول في المدينة وفقًا للجدول السياحي المقرر له. أصبح يعرف القصر الملكي الذي شيده شقيق نابليون لإحياء ذكرى أخيه الإمبراطور، ودار الأوبرا الملكية التي تعد واحدة من أقدم المسارح الأوروبية، وغيرها الكثير، وبعد أن يقضي زيارته لأحد تلك الأماكن يعود للفندق، يتناول عشاءه ثم يحاول أن يسهر قليلًا مع أصدقائه.

في صباح يوم جديد يقرر مستر سين أن يخالف ذلك الجدول، ليقوم هو بجولة على طريقته الخاصة، يسير في الشوارع بلا هدف، بين الأحياء الراقية التي لم يرَ غيرها منذ أن جاء إلى المدينة، وصولاً إلى كامبانيا أشد المناطق فقراً بإيطاليا ككل.

الإله الحارس

كانت المدينة ملطخة بالفساد وجميلة في آن واحد. بين عصابات مافيا كامورا التي تجتاح المنطقة، وجمال الأسس المعمارية، وصوت الموسيقى الذي يخرج من كل مكان، ووجه لشخص ذي شعر كثيف وأعين ضيقة، تجده عنوة بين الحين والآخر كأنه إله يحرس المدينة على كل الحوائط، كان مزيجًا رائعًا أكسب المدينة جاذبيتها الخاصة بأعين مستر سين.

كان اليوم حينها هو الاثنين، ولم ينفك عن سماع حديث الناس عن مباراة نابولي القادمة بدوري أبطال أوروبا، وعن مباراة نابولي أمس مع بريشيا التي فاز بها الفريق. كأن الحياة في نابولي تدور حول ناديها السماوي، يجلس على أحد المقاهي ليشرب قهوته ليجد أمامه صورة كبيرة لذلك الشخص ذي الشعر الكثيف والأعين الضيقة، يكتشف بعدها أنه مارادونا.

لم يكتشف وحده بالطبع لأن مستر سين لا يفقه الكثير عن كرة القدم، بل عرف هذا الأمر عنوة بسبب أحاديث الناس عنه وعن صورته المرسومة حديثًا على الحائط وآرائهم بها، ثم يستمع للذكريات التي يتناولها أحد الأشخاص الجالسين في آخر المقهى، فواحد يتحدث عن هدف مارادونا في شباك الإنتر عام 1985، وسيدة تتحدث عما فعله أمام يوفنتوس في نفس الموسم، وهكذا يستمر الحديث بلا توقف عن ذلك الرجل المجهول لبطل قصتنا.

اليوم المنشود

تمر الأيام سريعًا على مستر سين. مر يومان آخران بالنظام ذاته، ثم تأتي أمسية الأربعاء بعد أن يقابل أحد أصدقائه. عقارب الساعة تشير إلى التاسعة مساءً. موعد تلك المباراة التي لم ينفك الناس يتحدثون عنها قد حل، يشغل تلفازه ويبدأ في المشاهدة، يلعب فريق نابولي ضد جينك هناك في بلجيكا، يوجد عدد لا بأس به من الجمهور الإيطالي ذهب إلى المدينة البلجيكية لمؤازرة فريقه.

لا يهتم كثيرًا مستر سين بما يحدث، بجانب أن المباراة تتسم بطابع ممل نوعًا ما، لكن يستمر في المشاهدة لتضييع الوقت، ليظهر أمامه فجأة صورة الشخص نفسه ذي الأعين الضيقة والشعر الكثيف الذي تحدث الناس عنه، لكن تلك المرة على لافتة حملها أحد المشجعين.

«من يحب لا ينسى». ذلك هو ما أراد أن يرسله حامل اللافتة إلى مارادونا: «أنت لن تُنسى». لكن لماذا لن يُنسى؟ ظل ذلك السؤال مراودًا لمستر سين دون معرفة إجابة حقيقية له، مر نصف الساعة الباقية من المباراة وهو يفكر، حتى إنه لم ينتبه إلى أن المباراة انتهت بتعادل سلبي، تلك المدينة الجنوبية في إيطاليا ما زالت تظهر العرفان لرجل خرج منها منذ ما يقارب الـ 30 عامًا، لماذا إذن؟

الرجل فاز بالدوري مرتين لصالح نابولي، جاء للفريق في وقت صعب على الجنوب وأخرجه من أزمة حالكة، وجعل منه قوى عظمة يخافها أهل الشمال في إيطاليا والعالم كله فيما بعد، وضعهم على خارطة الطريق الأوروبية بلقب أوروبي عام 1989، وفوق كل ذلك كان يقدم أداءً استثنائيًّا في كل مرة تطأ فيها قدمه العشب الأخضر مرتديًا القميص السماوي. هذا هو ما عرفه مستر سين من الناس في المقهى، لكن هل حقًّا ذلك يكفي لتفسير كل ذلك الحب الطاغي؟

تفسير ما لا يمكن تفسيره

بالرغم من أن سين لم يكن مهتمًّا بكرة القدم فإن تلك الحالة أثارت فضوله، فحاول الوصول إلى تفسير يرضيه. وقع أمام مستر سين تلك الكلمات التي كتبها محرر صحيفة الغارديان الشهير جوناثان ويلسون في كتابه «ملائكة بوجوه قذرة»، الذي وصف فيها مارادونا قائلًا: «في 30 أكتوبر لعام 1960، بعد 32 عامًا من وصف بوروكوت للطفل المثالي، قنفذ مع مسحة من شعر أشعث، وعينان تتلألآن بالأذى، وابتسامة وقحة كشفت عن أسنان مدمرة بخبز الأمس، تم صنع المثل الأعلى على هيئة لحم بمستشفى إيفيتا بيرون في لاناوس، تلك المنطقة الصناعية بجنوب بوينس آيريس».

تلك الكلمات لم يجد لها معنى في أول الأمر، لكن سرعان ما فهم ما يحاول ويلسون قوله بها، وُلد مارادونا فوجد نفسه بكوخ ليس به مياه أو كهرباء وأخ ضمن ثمانية إخوة، في منطقة من الصعب التكهن بما سيحدث لك في صباح الغد بها، كبر قليلًا برأس كبير ووجه قبيح، وشعور دائم بعدم الأمان، وبإمكانياته الهائلة بكرة القدم.

ذهب في رحلته إلى بوكا جونيورز نادي العاصمة ثم برشلونة نادي المقاطعة الجميلة، وهما ناديان مختلفان تمامًا عن شخصية مارادونا التي عاش بها مجبرًا، وعلى الجانب الآخر نظر لنابولي مدينة يشع منها التاريخ والفوضى والجهل في آن واحد.

شعور بعدم الاستقرار والدونية يعتري سكانها في ظل سطوة أهل الشمال على كل متنفسات وملذات الحياة، لذلك كانت الإجابة دائمًا لكل جنوبي أراد غدًا مشرقًا هي أن يترك الجنوب ويزحف نحو الشمال أو يترك البلاد كلها.

الرابط الذي ربط بين مارادونا والمدينة كان أقوى بكثير من أن يتم اختزاله في الهيبة الكروية التي صنعها لها، مارادونا بشكل ما كان في أعماقه يوجد جزء يشبه نابولي، الفوضى والجمال معًا كانا يمثلان الكتلتين، مارادونا وصل إلى إيطاليا وهو مدمن للكوكايين وتارك لمشاكل لا حصر لها مع فريقه السابق برشلونة، ونابولي حينها كانت يفصل بينه وبين الهبوط نقطة واحدة فقط.

واحد مننا

لم يكن ما صنع مارادونا كأسطورة لنابولي هي مهاراته فحسب، تربيته الصعبة كان لها دور هام في فهم ما يعاني منه الجنوبيون؛ لأنه بشكل أو بآخر يشبههم ويعاني مثلهم، لدرجة أنه دعا بالفعل أبناء مدينته بالتبني لتشجيع منتخبه الأرجنتيني أمام المنتخب الإيطالي بكأس العالم 1990، في المباراة التي أقيمت بالسان باولو معقل الفريق.

لا تنسى أن إيطاليا لا تعترف بكونك إيطاليًّا، فالبلاد تأتي إليك وتطلب تشجيعك ليوم واحد فقط في السنة، أما في الـ 364 يومًا المتبقية فأنتم جميعًا أفارقة بالنسبة لهم.
دييجو مارادونا مخاطبًا أبناء مدينة نابولي.

تلك التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها مارادونا حينها، بجانب أنها دعوة صريحة لأهل الجنوب لتشجيع المنتخب الأرجنتيني، إلا أنها أشارت بشكل قوي إلى سلبيات الانقسام الإقليمي الواسع التي يعاني منها أهل الجنوب. أحس مارادونا بآلامهم، فكان من الطبيعي تشجيعه بتلك المباراة على حساب بلدهم الأم، وأن يخلقوا معصية لن تغتفر من قبل مناصري فرق الشمال أمثال يوفنتوس والإنتر وروما.

وكان من الطبيعي أن يزين وجهه ذو الشعر الأشعث جداريات المدينة، وكان من الطبيعي أن يكتب 20 ألف شخص على أوراق الانتخابات المحلية الخاصة بهم في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كلمتين ليس إلا «فيفا مارادونا»، وكان من البديهي أن يتم سحب القميص رقم 10 مدى الحياة فور خروجه من أبواب النادي.

استحوذ مارادونا على خيال المدينة كلها، ليس فقط بأعماله الساحرة، ولكن بشخصيته المعقدة وغرابة تصرفاته وتعاطفه مع قضيتهم، ووضعه لهم على خريطة العالم أخيراً لأسباب أخرى غير الفساد والمافيا والفقر، وحطم الصورة النمطية أن من معه أموال كثيرة هو وحده من يفوز، بل أحيانًا العمل الجاد والشاق، والحب الذي لا ينتهي، يؤتيان ثمارهما أيضًا.

وفي المقابل أعطت نابولي مارادونا أكثر من مجرد حياة، نعم لم تنتشله من إدمانه للكوكايين، ولم تغير من غرابة تصرفاته، لكنها على الأقل صنعت منه الأسطورة التي نعرفها اليوم.

تأخر الوقت على مستر سين وهو يفكر ويبحث في كل تلك الأمور، وتذكر أن بعد بضع ساعات موعد طائرته العائدة إلى بلاده سيحل، دخل ليحصل على بعض الراحة ثم استيقظ وأخذ حاجياته وودع المدينة ذات الفن الراقي والفوضى العارمة التي أحبها في أيامه القليلة بها، ونظر إلى صورة الرجل ذي الشعر الكثيف والأعين الضيقة المتواجدة بمنطقة كوارتيري سبانيولي ليودعه.

كان وسيظل نابولي وطناً ثانياً لي، هم شعبي وسأظل أحبهم دائمًا.
دييجو مارادونا.

هكذا صرخ مارادونا قائلًا في ليلة اعتزاله، ووفقاً لبعض المقربين من مستر سين فهذا ما قاله أيضًا عندما عاد إلى بلاده.