فيلم «موعد على العشاء»: نوال بين عش الزوجية وقفصه
كانت البداية خبرًا بإحدى المجلات عن زوجة تدعو زوجها للعشاء، تقوم بتسميمه والأكل معه، ليموتا معًا. ظلت بطلة هذه الحادثة هاجسًا يطارد المخرج محمد خان لسنوات قبل أن يحقق فيلمًا عنها، هو فيلم «موعد على العشاء»، الذي عرض للمرة الأولى عام 1981، ويهدي خان الفيلم إلى بطلته نوال في بادرة غير مسبوقة في السينما المصرية.
في حوار مع خان، يؤكد أنه دائمًا ما ينجذب للشخصية أكثر من انجذابه للحكاية، وأن صناعة فيلم عن هذه الشخصية هي محاولته فهمها، وفهم سر انجذابه إليها.
أفلام خان على هذا النحو هي بورتريهات سينمائية بامتياز. في هذه النوعية من الأفلام تحدد الشخصية الرئيسية مسار السرد، يصبح كل شيء تابعًا لها، ويكتسب قيمته من قدرته على إضاءة ملامح هذه الشخصية ورصد الأفكار والمشاعر التي تسيطر عليها.
عش أم قفص
يتخذ السرد في فيلم موعد على العشاء شكلًا دائريًا، الفيلم يبدأ بصورة زفاف البطلة نوال/سعاد حسني وزوجها عزت/ حسين فهمي أثناء التقاطها بأستوديو تصوير، وينتهي بذات الصورة على حائط بيت الزوجية.
هذا البناء الدائري يعزز الطابع الكابوسي لفيلم خان، كابوس تسقط فيه البطلة منذ بداية الفيلم – تحديدًا مع لحظة الزواج- وتفشل كل محاولاتها بعد ذلك للإفلات منه.
اقرأ أيضا: إهداء إلى ضحكة «محمد خان» التي هونت علينا مصر
أثناء التقاط صورة الزفاف، يمرر خان الصورة مقلوبة داخل كاميرا المصور، هذه التفصيلة الصغيرة تعمل كمجاز بصري عن انقلاب عالم البطلة.
البطلة العاطفية التي تتزوج من رجل لا يؤمن بالعواطف على الإطلاق، رجل لم يجد وسيلة لإقناعها بالزواج منه سوى باغتصابها لتتحول حياتها معه إلى كابوس خانق، إلى سجن.
يبرع خان في اختيار مسكن الزوجية الذي يمكن اعتباره مجازًا عن العلاقة ككل. تصميمه أقرب إلى قفص، أو سجن. يعطي إحساسًا بالاختناق داخله. ألوانه تخلو من أي حياة. نباتات بلاستيكية وإضاءة خافتة وظلال. تبدو نوال حبيسة لهذا المكان، عكس البراح والحميمية في شقة الأم التي تنتقل إليها بعد طلاقها من زوجها.
طفلة في المزاد
أحد المفاتيح المهمة لفهم شخصية نوال وطبيعة مشاعرها نجده ممثلًا في مشهد المزاد. حين تذهب إلى أحد المزادات مع صديقاتها تتعلق على الفور بإحدى اللوحات المعروضة للبيع، عبارة عن طفلة تسير إلى جوار والدها في طريق ملتو يبدو بلا نهاية، وحين تخسرها أمام أحد التجار تبكي بمرارة كطفلة.
تعبر نوال في مشهد لاحق لزوجها الثاني شكري/ أحمد زكي عن مشاعرها تجاه هذه اللوحة:
هذه اللوحة تذكرها بالأمان المفقود الذي يمثله الأب، ببراءتها المنتهكة على يد زوجها. تشعر نوال دائمًا أنه تم بيعها في هذا الزواج، مثلما تعبر لأمها فيما بعد: «انت بعتيني يا ماما وبتقبضي الثمن».
وحين تصر نوال هذا الإصرار الكبير على شراء اللوحة فهي على نحو غير واع تريد استعادة حياتها مرة أخرى، وهو ما يبرر حزنها البالغ حين خسرت اللوحة فكأنها خسرت حياتها مرة ثانية، وهو ما يعمل أيضًا كإرهاصة بمصيرها المأساوي حين يتأكد لها على نحو نهائي أنها خسرت حياتها ولا أمل في استعادتها.
اقرأ أيضا: فيلم «الحريف»: وقائع امتثال فارس مهزوم
تبدو نوال متعلقة بكل ما هو طفولي، البنت التي تلعب الحجلة تحت مسكنها، والطفلة في اللوحة، والطفلة المدلاة من شرفة أحد البيوت وعلى وشك السقوط، والتي تطاردها فيما بعد في كوابيسها، والتي يمكن اعتبارها أيضًا إرهاصة بالمصير المأساوي لنوال.
يعكس هذا التعلق أنها لا تزال حبيسة مرحلة الطفولة، لم تسمح لها تجربتها بالنضج، وكان قرارها الانفصال عن زوجها هو أول خطوة نحو ذلك. مثلما تعبر هي بوضوح لزوجها عزت نهاية الفيلم وقد وصلت تجربتها إلى طريق مسدود:
هزيمة المرأة/ الماتادور
أحد أهم ما يميز خان كمخرج هو قدرته الاستثائية على الاختزال السردي واستخدام المجاز البصري، تفصيلة واحدة يمكنها أن تقول الكثير جدًا عن عالمه الفيلمي وأبطاله.
هنا في «موعد علي العشاء»، نجد أحد التفاصيل الخانية التي يمكن لها أن تحمل مجاز الفيلم ككل. حين تجبر الأم نوال أن تحضر عشاء عمل مع زوجها بعد قرارها بالانفصال عنه.
يسود المطعم أجواء إسبانية، جيتارات وموسيقى، وعلى الحائط نجد ملصقين لمصارعة الثيران، تنجذب لهما عينا نوال، وتقرر بعدها مباشرة مغادرة العشاء.
نجد في أحد الملصقين مواجهة مباشرة بين الماتادور وأحد الثيران. وفي الملصق الآخر، نجد الماتادور على ركبتيه في مقدمة الصورة، وفي الخلفية قريبًا منه تمامًا نرى الثور في وضع استعداد لمهاجمته.
هنا لدينا البطل الخاني (بطلة هنا) بكل فروسيته الكامنه ونبله، ودون كيشوتيته أيضًا. نوال هي الطرف الأضعف في هذا الصراع، ورغم إرهاصات الهزيمة فإنها مجبرة على الصراع حتى النهاية، نهايتها ونهايته أيضًا.
اقرأ أيضا: الحب في سينما خان: البحث عن الفردوس المفقود
الصراع بين نوال وعزت في «موعد على العشاء»، يتكرر في كل أفلام خان، هو صراع بين القلب العاطفي، الجوهر الرومانسي لأبطاله، ضد واقع مغرق في المادية وقيمها، واقع يكفر تمامًا بهذا القلب.
هذا الواقع نجده ممثلًا على نحو واضح في شخصية عزت أبو الروس، نراه مثلًا متحدثًا عن شركائه الأجانب في أحد المشاهد: «الحقيقة الناس دول بيعجبوني قوي، ما عندهمش وقت للعواطف».
رجل كهذا لا يعرف معنى الحب، وهذا التعلق الاستحواذي بنوال يمثل في جزء منه عدم رغبته في خسارة شيء يمتلكه واستثمر فيه الكثير من الأموال، والجزء الآخر يتعلق بذات نرجسية منتفخة لا تشعر باكتمالها إلا في وجود ضحيتها المثالية.
طعم القهر
هذا الضغط الممارس على بطلته وانكماشها على ذاتها نراه كثيرا في تكوينين خان حيث يصورها من زاوية علوية فتبدو ضئيلة داخل الكادر، أو يضعها في عمق التكوين بحيث يبدو أن الكادر كله يلقي بثقله عليها. لكن ذروة هذا الضغط نجده في مشهد المصعد الذي تستقله من أجل الصعود لشركة زوجها وفي نيتها مصارحته برغبتها في الانفصال.
المشهد مصور في ثلاث لقطات، تبدو نوال في كل لقطة أكثر انكماشًا وانضغاطًا من سابقتها، في اللقطة الثالثة تحديدًا تبدو في غاية الضآلة داخل التكوين، وكأن زحام المصعد يوشك أن يبتلعها، بينما تحاول جاهدة أن تجد طريقها للخارج. هذا المشهد بلقطاته الثلاث يصلح كمجاز للعلاقة الضاغطة والخانقة التي تعاني نوال للخروج منها.
هذا الضغط والقهر الذي تعانيه نوال من عزت، يتجاوز جندرية العلاقة إلى سياق أكثر تعقيدًا واضطرابًا. فشكري زوجها عانى من نفس القهر الذي تعانيه نوال، مثلما تعرضت نوال لقهر مماثل من نساء مثلها، فأمها وصديقاتها كن ضد رغبتها في التحرر والانفصال عن زوجها.
هذا السياق الضاغط يفرضه زمن جديد بقيم جديدة تناقض تمامًا القيم التي تؤمن بها نوال أو تمليها عليها طبيعتها الرومانسية.
يمنحنا خان هنا بورتريهًا شديدة الشاعرية، استطاع أن يأسر خلاله الظلال المأساوية لبطلته، التي رغم هزيمتها، ظلت تقاوم حتى نهايتها المريرة.
وحين يتعلق الأمر بالمرأة في السينما المصرية فلن تجد مخرجًا مثل خان استطاع أن يعبر عنها بمثل هذه الحساسية المرهفة، ويمنحها هذا القدر الهائل من الفهم والتعاطف.