سيتي جوارديولا: أن تسحب طبقًا واحدًا فتنزلق بقية الأطباق
في البداية، عليك أن تعلم أن هذا سيكون الدوري الثالث الذي سيخسره بيب جوارديولا – إن خسره – في 11 عامًا قضاها كمدرب، مما يعني أننا أمام حدث نادر لا يتكرر كثيرًا. ولأنه جوارديولا فلن نستطيع استخدام المصطلحات الرنانة المعتادة في مثل هذه الواقف، كسقوط وانهيار وما شابهها، وسنكتفي بوصف ما يحدث بالكبوة.
جعلتنا هذه الكبوة نرى جوارديولا ومانشستر سيتي في هيئة البهلوان، الذي يحاول رص الأطباق بعضها فوق بعض، والحفاظ على توازنه قدر الإمكان. لم يكن البهلوان بحاجة لعضلات مفتولة أو قدرة بدنية خارقة، يكفيه فقط التركيز الشديد مع بعض المنطقية في ترتيب الأطباق. وفي لحظة ما وعن غير عمد، سحب البهلوان الطبق الخاطئ ليخل بتوازن البقية، وتنزلق جميعها. وفي هذا الموضوع سنحاول التعرف على الطبق الذي أدى لتخريب العرض.
العرض الأنجح
عادةً، عند سؤال البهلوان عن أفضل العروض التي قدمها، فإنك تتوقع منه أن يخبرك بالعرض الذي استطاع فيه وضع أكبر عدد من الأطباق بنجاح. وبالمثل مباريات كرة القدم، حيث تتفق الأغلبية على أن المباريات التي يحرز فيها الفريق أكبر عدد من الأهداف هي الأفضل، لكن لكل قاعدة استثناء.
كان هذا التصريح لبيب جوارديولا في موسم 2018/2019؛ ذلك الموسم الذي فاز فيه السيتي بالثلاثية المحلية، محققًا البريميرليج برصيد 98 نقطة، مع تقديم الكثير من العروض المبهرة، من ضمنها الفوز بنتائج 6-1 (مرتين)، 6-0 (ضد تشيلسي)، 5-0 (مرتين)، 4-0. لكنك ستتفاجأ عندما تعلم أن تصريح مدرب برشلونة السابق كان عقب الفوز على فريق بورنموث في ملعبه بهدف وحيد من إمضاء «رياض محرز».
أنت الآن تسأل نفسك: ما الداعي لهذا الاختيار الغريب من «بيب»؟ لماذا كل هذه الفلسفة الزائدة؟ هذا مجرد أحد فرق الوسط والتفوق عليه أمر طبيعي. الأرقام التالية قد توضح لنا الصورة: فبعيدًا عن تذبذب أداء بورنموث، إلا أنه واحد من الفرق الجيدة هجوميًا، وقد كان أكثر الفرق استغلالاً للهجمات المرتدة في موسم 2018/2019، بإحراز 19 هدفًا منها.
استطاع السيتي تعجيز بورنموث أكثر من اللازم، ليس فقط بمنعهم من التسديد على المرمى، لكن بإجبارهم على إكمال عدد 101 تمريرة صحيحة فقط، مع العلم أن متوسط التمريرات الصحيحة لبورنموث في المباراة الواحدة كان 328 تمريرة. هذه السيطرة المطلقة هي التي جعلت جوارديولا سعيدًا وكأنه منتصر بـ10 أهداف مقابل لا شيء، لأنه تمكن من السيطرة بشكل مثالي على ما لا يمكن السيطرة عليه.
السيطرة الحقيقية
السيطرة على اللقاء في نظر الكثيرين تعني الاستحواذ على الكرة أطول وقت ممكن، وبالطبع فإن «بيب» هو أحد أكبر المهاويس بذلك بتحقيقه نسب استحواذ تتراوح بين الـ60 – 70%. لكن مع مرور الوقت، تحول الأمر إلى اتفاق غير معلن مع الخصوم، حيث يتركون له الكرة طواعيةً لأنهم لا يستطيعون مجابهته، والاكتفاء بـ30-40%، مقابل الحصول على ميزات أخرى أبرزها: الحصول على مرتدات أكثر فعالية، والدفاع في مساحة أصغر.
ومن هنا يمكننا أن نصحح ذلك المفهوم على طريقة جوارديولا، حيث السيطرة هي التحكم في نسبة الـ30-40% التي لا تملكها، بعدم إعطاء الخصم الأريحية في بناء الهجمات، وقتل المرتدات (التحولات) قبل اكتمالها، تمامًا كما فعل أمام بورنموث.
كيف يتم ذلك؟ قدم موقع «spielverlagerung» تحليلاً مفصلاً عن ذلك مركزًا على المصطلح الألماني «Rest verteidigung»، والذي يشير إلى مساهمة شكل «shape» الفريق في الحالة الهجومية في الدفاع، تحديدًا تمركز اللاعبين غير المشاركين في الهجوم.
يتحول الفريق من 4-3-3 إلى ما يشبه 2-3-2-3، حيث عدد اللاعبين في الخط الخلفي يتوقف على عدد مهاجمي الخصم، فيجب أن يوفر السيتي لاعبًا إضافيًا للتغطية (مدافعان مقابل مهاجم واحد). بعدها يأتي دور الخط الثاني المتمركز أمام الدفاع المكون من لاعب الارتكاز وثنائي الأظهرة المقلوب (المنضم للوسط)، ومن خلالهم يحقق المبدأ الأهم: خلق الزيادة العددية في المنتصف، والتي بدورها تسهل عملية الضغط ومن ثم إبطال مفعول المرتدات، أو على أقل تقدير إجبار الخصم على الخروج إلى الخط الجانبي.
الفكرة الثانية المكملة لما سبق هي الضغط بمجرد فقد الكرة. في برشلونة، كان المدرب الإسباني يطبق قاعدة الـ 6 ثواني «six second rule»، حيث يستغل اللاعبون تقارب خطوطهم في الحالة الهجومية، ويضغطون بشكل جماعي لاستعادة الكرة خلال هذه المدة. مرجعية الضغط الذي يفضله «بيب» ليست الكرة ولا لاعبي الخصم، ولكن خطوط التمرير «pass lane oriented»، وبتقليل الخيارات المتاحة للخصم، يُجبَر على الخطأ أو تمرير كرة طولية ضالة.
نتيجة لكل هذا العمل بدون الكرة، استقبل صاحب الثلاثية المحلية 3 أهداف فقط في آخر 13 مباراة بالدوري موسم 2018/2019. وكان صاحب الدفاع الأفضل من وجهة نظر إحصائية «xGA :Expected Goals Assisted»، حيث توقعت الإحصائية استقباله لـ25.9 هدفًا مصنوعًا، بينما حل ليفربول ثانيًا بـ30 هدفًا. ثم ننتقل للرقم الأكثر رعبًا، متوسط عدد التمريرات التي مررها الخصم في الثلث الأخير من ملعب مانشستر سيتي: أقل من 50 تمريرة للمباراة.
سبب السيطرة
بالمرور على موقع الإحصائيات الشهير «Whoscored»، وتحديدًا الهزائم الأربعة لمانشستر سيتي في موسم 2019/2020 إضافة إلى التعادل مع نيوكاسل، ستجد أن متوسط عدد التمريرات في ثلث ملعب مانشستر سيتي ارتفع ما يقارب الـ20 تمريرة. مرتدات مانشستر يونايتد وحدها كفيلة بإيضاح الصورة، العمل الجماعي للفريق بدون الكرة ليس على ما يرام، والتغريدة التالية بها مثال بسيط للتوضيح.
هل هذا الخلل البسيط كافٍ ليقدم السيتي هذا الأداء الباهت؟ من وجهة نظرنا: نعم، وهذا هو الطبق الذي أخل بتوازن بقية الأطباق. فالطريقة التي يبني بها جوارديولا فرقه – مانشستر سيتي أو غيره – لتقديم هذا النوع من كرة القدم، تتطلب مواصفات معينة. وفقًا لكتاب «Pep Guardiola: The Evolution» يفضل جوارديولا اللاعبين الذين يجيدون مهارة الـ «dribble» بما في ذلك المدافعين.
أضف إلى ذلك، ما عهدناه عن اختيار لاعبي الوسط أصحاب الجودة الأعلى لمنح فريقه القدر الذي يريد من جودة التمرير والتحكم. الفريق السماوي على سبيل المثال يلعب بصانعي لعب (دي بروينه، دافيد سيلفا) في المركز 8 بوسط الملعب، ثم أُضيف إليهما رودريجو المميز بالكرة، كما كان الحال مع ثلاثي برشلونة انيستا، تشافي، بوسكيتس.
جميع هذه الأسماء منفردة ضعيفة بدرجات متفاوتة في أداء المهام الدفاعية التي يمكن أن نسميها بالمهام القذرة كالعرقلة والرقابة، لكن وجودها داخل نظام الضغط الذي صنعه «بيب» يوفر لهم الحماية.
حتى تفصيلة الكرات الثابتة وقصر قامة لاعبيه، يحاول جوارديولا تجنبها قدر الإمكان بواسطة هذا النظام. ففي موسم 2018/2019، كان الفريق الأقل استقبالاً للركنيات (86 ركنية)، يليه ليفربول (126 ركنية)، مع الأخذ في الاعتبار وجود 6 مباريات لم يحظَ فيها المنافس بركنية واحدة.
فقدان السيطرة
لنتذكر معًا، لقد حاولنا معرفة كيف يسيطر بيب على خصومه ولماذا، أما الآن بقي لنا معرفة سبب تعطل هذا النظام. إن افترضنا استمرار الوضع كما هو دون تدخل جوارديولا، فإن التجربة الوحيدة المشابهة للقياس عليها هي تجربة توتنهام مع «ماوريسيو بوتشيتينو».
بالطبع هنالك فارق في المستوى والبطولات، لكن هنالك زاوية واحدة مشتركة. إذا مررت على مقالات تحليلية لفريق توتنهام خاصةً في عامي 2016 و2017، ستجد إشادات لا حصر لها لقدرة الفريق على تطبيق الضغط وخنق خصومه بشكل شبه مثالي، لكن موسم 2018/2019 وبداية 2019/2020 شهدت تخلي الفريق عن هذه الميزة.
أقرب التفسيرات كانت تشير لتشبع اللاعبين وإصابتهم بالملل والإرهاق من ذلك الروتين الصارم، الذي يتطلب تركيزًا شديدًا في التدريبات والمباريات الرسمية. ومع بقاء قوام الفريق ثابتًا دون تغيير، تمكن التشبع من اللاعبين وأفقدهم الـ«Intensity» أو الحدة، خاصةً بدون كرة. ومن دون أن يشعر اللاعبون، يفقدون الاتصال فيما بينهم داخل الملعب، وتصبح عملية الضغط مكشوفة وكأن كلاً منهم يضغط بمفرده.
المشترك بين جوارديولا وبوتشيتينو أنهما من تلاميذ نفس المدرسة التكتيكية، وربما ظهور ذلك العيب في الموسم الرابع أو الخامس ليس صدفة. ربما تتحول هذه الصدفة فيما بعد إلى قاعدة عامة، وتتوقف صلاحية هذه المدرسة التدريبية على العمل لـ3 مواسم فقط في النادي الواحد، أو يتحلى جوارديولا بالجرأة لوضع لمسته وإعادة رص الأطباق من جديد.