«إدارة التوحش»: قراءة في إستراتيجية الحركات الجهادية
رغم شهرته في الأوساط السلفية والجهادية، فإنه لا يوجد اتفاق على شخصيته الحقيقية. ففي الوقت الذي ذهب فيه البعض إلى أن أبا بكر ناجي هو الاسم الحركي للمنظر المعروف أبي مصعب السوري، فإن فريقًا آخر قد ذهب إلى أنه المصري محمد خليل الحكايمة، واستند كل من الطرفين في رأيه إلى التشابه في الأسلوب والأفكار بين الناجي من جهة وكل من الرجلين من جهة أخرى.
ترجع شهرة أبي بكر ناجي، لكونه مؤلف كتاب «إدارة التوحش»، وهو الكتاب الذي لاقى شهرة واسعة داخل الأوساط الجهادية عمومًا، وعند عناصر تنظيم داعش على وجه الخصوص. الكتاب المؤلف من 112 صفحة، والذي نُشر عام 2004م، ومُنع من التداول في الدول العربية، يتناول الحالة التي ستنشأ عقب زوال السلطة الحاكمة في مكان معين، حيث يركز ناجي على كيفية إدارة تلك المرحلة الفوضوية للوصول إلى نتائج من شأنها إقامة دولة إسلامية. كما ركز الكتاب على الطرق والتكتيكات التي يمكن بواسطتها أن يقاتل الجهاديون أمريكا وحلفاءها من الأنظمة العربية، وكيف يمكن أن يستنزفوها بشريًا وماديًا للدرجة التي تجبرهم على التراجع.
ورغم أنه من المرجح أن الناجي قد قُتل قبل قيام داعش، فإنه من المؤكد أنه كان صاحب تأثير كبير في قيامها، وذلك عن طريق أفكاره التي دعا فيها إلى إقامة دولة مركزية إسلامية ثابتة، وعدم الاكتفاء بمجرد توجيه الضربات، وهو ما ورد ذكره في الكتاب تحت مسمى «التحول من مرحلة الشوكة والنكاية إلى مرحلة إدارة التوحش».
نقد تيارات الإسلام السياسي
في مقدمة الكتاب، يستعرض أبو بكر الناجي خريطة التيارات الإسلاموية المعاصرة، فيذكر أن هناك خمسة تيارات إسلامية تمكنت من وضع مشاريع مكتوبة للخروج بالأمة الإسلامية مما تمر به من ذل وهوان وخضوع للقوى الكافرة. هذه التيارات الخمسة هي، التيار السلفي الجهادي، وتيار سلفية الصحوة، وتيار الإخوان المسلمين، وتيار إخوان الترابي، وأخيرًا تيار الجهاد الشعبي.
يوضح الناجي بعدها نقده لكل تيار من التيارات الخمسة على حدة، فيقول إنه بالنسبة لتيار سلفية الصحوة، والذي يمثله كل من الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي، فإنه قد تجاوز الكثير من السنن الكونية والشرعية «مما يجعله يدور في حلقة مفرغة ليتلاعب به الكفار والطواغيت وأهل النفاق». أما تيار جماعة الإخوان المسلمين، فقد وضع مشروعه على الورق فحسب «لينفذوا من خلاله مشروعهم البدعي، أو قل مشروعهم العلماني…». أما تيار السلفية الجهادية، فقد وقع مشروعهم في الكثير من العثرات، إلا «أن خطوات مشروعهم تسير كما هي مكتوبة على الورق، على السنن الشرعية والكونية الصحيحة… وهم وأعداؤهم في صراع لا ينكر أحد أنه شبيه بصراع الرسل مع أهل الكفر والطغيان…».
بعدها ينتقل الناجي للحديث عن تيار إخوان الترابي، المنشق عن تيار جماعة الإخوان المسلمين، فيصفه بأنه قد تجاهل الكثير من الأوامر الشرعية، مما «جعل هذه الدولة -يقصد دولة السودان التي كانت خاضعة لحكم هذا التيار- دولة علمانية، ليس فيها من الإسلام إلا المتاجرة باسمه».
وأخيرًا، يتحدث الناجي عن تيار الجهاد الشعبي، المُمثل في حركتي حماس والجهاد في فلسطين، فينتقده مؤكدًا على كونه قد أضحى تيارًا مُخترقًا في فكره السياسي بمنهج الإخوان المسلمين.
كيف ظهرت حالة التوحش في البلدان الإسلامية؟
يتحدث المؤلف بعد ذلك شارحًا عنوان كتابه، فيوضح قائلاً إنه وعند سقوط دولة ما، فإن الأراضي التابعة لها ستجد نفسها وقد صارت غير مرتبطة بقوة حاكمة، وفي حالة عدم تمكن قوة بديلة من السيطرة على تلك الأراضي، فإنها سوف تدخل عندئذ في مرحلة تسمى إدارة التوحش.
هذه الحالة وقعت في البلدان الإسلامية بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية في سنة 1924م، ذلك أن الدول الاستعمارية الكبرى -إنجلترا وفرنسا- قد تمكنت في ذلك الوقت من فرض سيطرتها على مناطق العالم الإسلامي، وتم تقسيم دولة الخلافة تبعًا لاتفاقية سايكس-بيكو، وبعدها حلت بعض الأنظمة العسكرية الوطنية محل القوى الاستعمارية، وتم عقد مجموعة من المعاهدات بين تلك الأنظمة من جهة والقوى العظمى -الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي- من جهة أخرى، ولم يمر وقت طويل حتى سادت مجموعة من القيم الاجتماعية والاقتصادية الجديدة داخل الأراضي الإسلامية، وهي القيم التي تم استيرادها من القطبين، ووضعت حول تلك القيم «هالة من التقديس، حتى لو كانت قيمًا تأباها كل العقول».
ويؤكد الناجي أن القوتين الوحيدتين اللتين يمكنهما رد المجتمعات الإسلامية إلى القيم الإسلامية الأصيلة، هما قوتا الشعب والجيش، ولكن يبدو نجاح أي منهما في تلك المهمة أمرًا عسيرًا صعبًا، وذلك بسبب ما وقع للشعوب من حالة التدجين والاستسلام الكامل والخضوع، وما وقع فيه الجيش من فساد كامل، بفعل الرشاوي والأموال الطائلة التي أُغدقت عليه ليحافظ على حالة التبعية والركون للقوى الكافرة.
وهم القوة
يرى المؤلف أن القطبين اللذين كانا يحكمان العالم -الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي- إنما كانا يسيطران من خلال قوة مركزيتهما، والمقصود بالقوة المركزية هنا تلك «القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المراكز للسيطرة على مساحات الأراضي التي تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي».
ومع اعترافه بقوة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، إلا أن المؤلف يؤكد بأنه لا يمكن التصديق بالمقولة الشائعة التي تقرر قدرة أي من تلك القوى على فرض نفسها في الدول البعيدة عنها -ومنها مصر على سبيل المثال- إلا إذا خضعت تلك البلاد بمحض إرادتها لتلك القوة. ويقرر المؤلف أن القوى العظمى قد لجأت إلى اختلاق هالة إعلامية كاذبة تصورها في صورة «القوى التي لا تقهر»، وربطت قوتها بمجموعة من الشعارات النظرية، ومنها قيم الحق والعدالة والخير والسلام.
من جهة أخرى، يرى المؤلف أن قوة الدول العظمى ترتبط بشكل وثيق بظروفها الداخلية، ومن هنا فإن انهيار هذه القوى يكون مربوطًا بعوامل الفناء الحضاري، التي تنتشر في مجتمعاتها والتي تتمثل في «الفساد العقدي، والانهيار الخلقي، والمظالم الاجتماعية، والترف، والأنانية، وتقديم الملذات، وحب الدنيا…إلخ».
تأسيسًا على تلك القواعد النظرية التي ذكرها المؤلف في السطور السابقة، فإننا نجده يؤكد على أن انهيار الاتحاد السوفييتي قد وقع بناء على تلك العوامل، والتي كان أبرزها يتمثل في انتشار الإلحاد، والتدهور الأخلاقي، والفساد، ومن هنا لم يكن من الغريب أن تتمكن دولة صغيرة كأفغانستان من تحقيق الانتصار على الاتحاد السوفييتي، وتبعتها في ذلك عدد من الدول الإسلامية كالشيشان وطاجيكستان.
السوابق التاريخية لإدارة التوحش
يقول المؤلف مستعرضًا الأوضاع التي تزامنت مع السوابق التاريخية لحالات التوحش التي عرفتها التجربة الإسلامية، إن المناطق التي لا توجد فيها سلطة لدولة، تتحول لمنطقة توحش، إذ ستكون «منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية، يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخيارًا كانوا أو أشرارًا إلا أن إدارة الأشرار بهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش».
بحسب ما يذكر الناجي، فإن الصورة المثلى لإدارة هذا التوحش، تتمثل في نشر الأمن الداخلي، وتوفير الطعام والعلاج، وتأمين المنطقة ضد الأعداء، وإقامة القضاء، ورفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية، وبث العلم الشرعي والدنيوي بين الناس.
بعدها يضرب المؤلف مجموعة من الأمثلة والنماذج التاريخية لقيام حالات التوحش في التاريخ الإسلامي، ومنها على سبيل المثال، السنوات الأولى بعد هجرة الرسول إلى يثرب، وبعض فترات الحروب الصليبية، وحركة الإمام السيد في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي في منطقة الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان، والمراحل الأولى لحركة طالبان، فضلاً عن حركة الجهاد في الجزائر.
طريق التمكين
يذكر المؤلف أنه وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، فإن الكثير من الدراسات التي اضطلع بها الإسلاميون الجهاديون قد رشحت مجموعة من الدول، تلك التي يمكن أن يركز عليها الجهاديون حتى يتمكنوا من السيطرة عليها، وهي الدول التي يطلق الناجي عليها اسم «مجموعة المناطق الرئيسية»، وهي (الأردن، وبلاد المغرب، ونيجريا، وباكستان، وبلاد الحرمين، واليمن).
يؤكد المؤلف أن في كل تلك المناطق المرشحة لأن تكون مناطق توحش، سنجد مجموعة من العوامل المتوافرة، ومن أهمها:
- وجود عمق جغرافي، وتضاريس مناسبة.
- ضعف النظام الحاكم، وضعف قبضته على الأطراف.
- وجود مد إسلامي قوي في تلك المناطق.
- طبيعة الناس في تلك المناطق.
- انتشار الأسلحة على نطاق واسع.
ويرى الناجي أن تحويل تلك المناطق للحكم الإسلامي، إنما سيتم من خلال ثلاث مراحل، وهي أولاً، مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، وهدفها هو «إنهاك العدو والأنظمة العميلة»، وفيها تقع الكثير من العمليات الصغيرة ضد الأعداء. ثانيًا، مرحلة إدارة التوحش. ثالثًا، مرحلة قيام الدولة.
ويشرح المؤلف الإستراتيجية المتبعة لاستنزاف قدرات العدو، فيقول إنه في حالة ضرب منتجع سياحي يرتاده الصليبيون في أندونسيا، ستؤدي لتأمين جميع المنتجعات السياحية في شتى دول العالم، وفي حالة ضرب بنك ربوي صليبي في تركيا، فإنه سيتم تأمين جميع البنوك في العالم، وإذا ما تم ضرب مصلحة بترولية قرب عدن، سيتم تكثيف الحراسة في كل شركات البترول في العالم «وهكذا يتم تنويع وتوسيع دائرة الأهداف وضربات النكاية التي تتم من مجموعات صغيرة ومنفصلة، مع تكرار نوع الهدف مرتين أو ثلاثًا ليتأكد لهم أن ذلك النوع سيظل مستهدفًا».
ويؤكد الناجي على ضرورة استنزاف قوى الدول القائمة، لأن هذا الاستنزاف سيؤدي إلى تقوية المجاهدين وسيمنحهم الفرصة للقيام بعملياتهم دون الخوف من أي عائق، وينبه الناجي هنا على ضرورة استهداف الشعوب والفئات الدنيا في جيوش العدو، ذلك أنها الفئات الأكثر قربًا من الحركات الجهادية، ومن الممكن التأثير عليها بشكل أسهل من بقية الفئات.
بعدها يشير المؤلف إلى أهم القواعد والسياسات التي تتيسر باتباعها خطة العمل، وتتحقق أهداف مرحلة شوكة النكاية والإنهاك بصفة عامة، وأهداف مرحلة إدارة التوحش بصفة خاصة. من أهم تلك القواعد التي يذكرها الناجي في كتابه، إتقان فن الإدارة، والتفرقة بين القائد والمدير، واعتماد القواعد العسكرية المجربة، واعتماد الشدة في الجهاد، وفهم قواعد اللعبة السياسية، وفي ذلك يقول المؤلف:
ورغم تنبيهه على ضرورة الأخذ بقواعد السياسة الشرعية، فإن الناجي يؤكد على أنه في الكثير من الحالات، يقوم الأمير بتقرير ما يراه في ضوء المستجدات والظروف دون التقيد بالنص الشرعي، ويستند في ذلك لمجموعة من مقالات ابن القيم الجوزية المتوفى في ٧٥١ه، والتي أوردها في كتابه الطرق الحكمية.
من بين القواعد المهمة التي يذكرها الناجي أيضًا، إتقان الجانب الأمني وبث العيون واختراق الخصوم والمخالفين بجميع أصنافهم، وإتقان التربية والتعلم أثناء الحركة، ويوضح أن السبيل الأمثل للتربية المنشودة، يكون من خلال العظات المستقاة من القرآن والسنة النبوية، وتعويد الأفراد على السلوك القويم، وتشجيعهم المستمر على أداء الطاعات، ووضع القدوة الحسنة نصب أعينهم، وإدخالهم لميدان المعارك، ذلك «أن أعظم ميدان للتربية، ميدان القتال».
المشكلات وكيفية التعامل معها
في الجزء الأخير من كتابه، يستعرض أبو بكر الناجي أهم المشكلات التي من الممكن أن تعرقل نجاح مشروع إقامة الإمارة الإسلامية، وفي الوقت ذاته يضع بعض الحلول للتغلب عليها.
أولى تلك المشكلات هي مشكلة تناقص العناصر المؤمنة بسبب ما يلحق بالحركة من خسائر بشرية، ويؤكد الناجي أن حل تلك المشكلة يتمثل في «جر الشعب إلى المعركة وتجييشه». أما المشكلة الثانية، فتكمن في نقص الكوادر الإدارية في الحركة، ويوضح الناجي السبل اللازم اتباعها للتغلب على تلك المشكلة بقوله: «إن القيادات تبرز من خلال المسيرة الطويلة… ولا يشترط أن تعد الحركة المجاهدة متخصصًا في الزراعة والتجارة والصناعة…». أما ثالث المشكلات التي يعرضها المؤلف، فهي مشكلة الولاء القديم لعناصر الإدارة غير الإسلامية، ويتحدث المؤلف عن طريقة التعامل معها، فيقول: