الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي
تبقى الثورة البلشفية (ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 في روسيا التي قام بها الحزب البلشفي بقيادة لينين على الحكومة التي أتت بها ثورة فبراير/شباط الشعبية في العام نفسه) واحدة من أهم الثورات، والأحداث عامة، التي غيرت التاريخ الحديث للبشرية، لا تاريخ روسيا فحسب.
وإذا كانت مراجعة تلك الثورة، أحداثها وتناقضاتها ونظريات قادتها، أمرًا ربما لا يهم كثيرا من القراء من ناحية كون ذلك مرتبطًا بالتقليد الماركسي وبالجدل الاقتصادي والتاريخي بين اليسار واليمين، إلا أن مراجعة الثورة هي أمر يهم الجميع من ناحية أخرى، هي كونها تجربة ثورية تبقى ملهمة لكافة الشعوب التي ترزح تحت حكم سلطوي يشبه الحكم القيصري الذي عانته روسيا، خاصة وأن سياق روسيا آنذاك يشبه إلى حد بعيد، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دول العالم الثالث التي من بينها اليوم دولنا العربية.
وتحظى مقالة المفكر الإيطالي «أنطونيو جرامشي» الذي يمكن أن نصفه بحق بأنه واحد من أنجب العبقريات الفكرية في القرن العشرين، وهي المقالة المنشورة بمجلة «فياللينك»، والتي كتبها في غضون الثورة بعنوان «الثورة ضد رأس المال» ونقدم ترجمتها هنا، بأهمية تاريخية كبيرة في قراءة الثورة ودلالتها الفكرية والتاريخية، وبأثرها في التجديد العظيم الذي أضافه جرامشي، لا إلى الفكر الماركسي فحسب، بل إلى الفلسفة السياسية وعلم السياسة بأسره.
ففي تلك المقالة، كما سنشرح أكثر، يضع جرامشي أطروحته بوضوح: إن الإنسان عبر الوعي الذي يمكن أن يحصّله من خبرات التاريخ يمكنه أن يصنع مصيره، وأن الظروف الموضوعية التي تحيط به اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، تحدد إطار عمله، إلا أنها لا تفرض عليه أية حتميات. وسنتناول هنا الخلافات النظرية التي كانت مثارة آنذاك لكي يتمكن القارئ من فهم نص مقالة جرامشي التي نقدم ترجمتها هنا.
البداية كانت عند ميخائيل بليخانوف، وهو الأب الروحي للماركسيين الروس الذي قام مع زميله الألماني كارل كاوتسكي بدور كبير في تحويل فكر ماركس وأنجلز إلى عقيدة مصاغة في صورة قوانين وحتميات بسيطة واختزالية يمكن وضعها كبرامج حزبية وتدريسها للعمال.
كان قد استقر لدى بليخانوف وكاوتسكي أن البلدان غير الصناعية كروسيا، يجب أن تمر بالمراحل التاريخية نفسها التي مرّت بها الدول الصناعية كألمانيا وإنجلترا، كالتالي: أن تتطور الصناعة وينقسم المجتمع إلى طبقة برجوازية تملك أدوات الإنتاج (المصانع) وبروليتاريا أو عمال يعملون لدى البرجوازيين، قبل أن يتمكن البروليتاريا أو العمال من الثورة.
رأى بليخانوف وفقًا لذلك أن مهمة العمال والاشتراكيين في روسيا القيصرية التي كانت بلدًا زراعية، هي دعم البرجوازية الديمقراطية للقضاء على القيصرية والانتقال إلى مرحلة صناعية، وليس يمكن للبروليتاريا قبل ذلك أن تفرض ديكتاتوريتها وتنتزع حقوقها. كان ذلك هو السبب الحقيقي للخلاف الجوهري بين الاشتراكيين الروس الذين انقسموا إلى بلاشفة (كلمة روسية تعني الأغلبية، لأن أتباع لينين كانوا هم الأغلبية في المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي الروسي عام 1903) بقيادة لينين، ومناشفة (أقلية) بقيادة مارتوف، ولاحقًا بليخانوف.
فمنذ عام 1902، كان لينين قد وضع نظريته عن الحزب الطليعي الثوري في كراسه الشهير «ما العمل؟»، حيث رأى لينين ضرورة تأسيس حزب تنتمي إليه الطليعة الثورية، لا كل الطبقة العاملة، وأن هذا الحزب عليه أن يقود الثورة بنفسه لتأسيس ديكتاتورية-ديمقراطية، يحكم فيها الحزب الطليعي ممثلا للعمال، مع بقاء النظام الاقتصادي الرأسمالي لحين تحقيق التطور الاقتصادي في روسيا. وستكون مسألة السياسة الاقتصادية للحزب الثوري بعد وصوله إلى السلطة موضوعًا لخلاف نظري طاحن بين قادة الثورة أنفسهم، وتحديدا لينين وتروتسكي وستالين وبوخارين.
على كل حال، فإن قيام البلاشفة بقيادة العمال الثوريين في أكتوبر/تشرين الأول لانتزاع السلطة من الديمقراطية البرجوزاية وحلفائهم المناشفة، بدا لجرامشي أنه نقض للحتميات الاقتصادية التي أكّدتها الماركسية الأرثوذكسية بقيادة كاوتسكي وبليخانوف، وأن الجماهير إذا ما تمكنت بقيادة الأقلية الطليعية التي لديها البرنامج، من تكوين وعي بالخبرات السابقة وشحذ طاقتها لتكوين إرادة جماعية نحو الثورة، فبإمكانها صناعة تاريخها وثورتها خارج الحتميات الاقتصادية.
وهذه الأفكار عن الصراع السياسي بين الجماهير الواعية والقيادة الطليعية السياسية وبين السلطة هي ما سيطوّره جرامشي لاحقًا في «كراسات السجن» التي كتبها في سجون الفاشيين الإيطاليين، وخاصة في كراستيه: «الأمير الحديث» و«الدولة والمجتمع المدني».
لذلك فقد اعتبر جرامشي في مقالته تلك أن الثورة البلشفية هي ضد كتاب «رأس المال» نفسه، وهو العمل الأهم لماركس، أو ضد قوانين المادية التاريخية، أي التصور لمراحل التطور التاريخ باعتبارها انتقالا من الإقطاع إلى البرجوازية إلى الاشتراكية، وهو التصور الذي لعب أنجلز ومن بعده كاوتسكي، دورًا كبيرا في صياغته.
نقدم هنا نص مقالة جرامشي، لضرورة قراءة تلك الأعمال التاريخية بنصها، إذ أنها عامرة بالأفكار المركّبة التي يمكن تأويلها تأويلات نظرية متعددة وثرية. ويستحق المترجم الشكر على الجهد الذي بذله في ترجمة تلك المادة، نظرا لما في أسلوب جرامشي، كما سيتبين للقارئ، من تدفق يجعل عباراته متداخلة، وأسلوبه عصيا على الفهم دون تركيز دقيق. وقد بذلنا جهدا في تبسيط الناص قدر الإمكان.
إليكم نص المقال
الثورة ضد «رأس المال»
باتت الثورة البلشفية جزءًا حاسمًا من ثورة الشعب الروسي الأوسع. حتى شهرين مضيا، كان المنشقون عن الحزب الثوري الاشتراكي الروسي لديهم القوة اللازمة لوقف أسباب التعثر، لوقف الطريق المسدود للمستقبل، لاقتراح تسوية نهائية، كان يمكن أن تكون تسوية بورجوازية. لكنهم استولوا على السلطة، وأسسوا ديكتاتورية، وطوروا أشكالا من الاشتراكية كانت تعني أنه على الثورة أن تهدأ لتسير الأمور في وئام، ودون أن يكون هناك صراعات كبيرة، مع الحفاظ على الأساسات التي تم تحقيقها بالفعل.
قامت الثورة البلشفية ضد الأيديولوجيا لا الوقائع الفعلية (أي فرضية أننا، في نهاية يوم ما مثلا، لا نحتاج أن نعرف أكثر مما عرفناه بالفعل قبله!). إنها ثورة ضد كتاب «رأس المال» لكارل ماركس. في روسيا، كان كتاب رأس المال هو كتاب البورجوازية، بدلًا من أن يكون كتاب البروليتاريا، فقد كان هذا الكتاب الدليل القاطع على أن في روسيا يجب أن تكون هنالك طبقة بورجوازية، ويجب أن يكون هنالك عصر رأسمالي، ويجب أن يكون التقدم على الطريقة الغربية، ذلك قبل أن يفكر البروليتاريا مجرد التفكير في استعادة موقعهم، أو في المطالبة بمطالب طبقتهم، أو في الثورة.
الوقائع غلبت الأيديولوجيا، والحال أن الوقائع قد فجّرت كالفقاقيع كافة التصورات التي كان على روسيا وفقًا لها أن تتطور طبقًا لقوانين المادية التاريخية. لكن البلاشفة تنازلوا عن ماركس وأكدوا هذا التنازل عبر ممارسة عملية بيّنة وعبر ما أنجزوه بالفعل؛ ذلك أن المادية التاريخية ليست قوانين جامدة كما يعتقد البعض، أو كما كان يعتقد البعض في الماضي.
لكنّ هنالك قدرًا معينًا من الحتمية في هذه الوقائع، وإذا كان البلاشفة قد رفضوا بعضًا من هذا [قوانين المادية التاريخية] الذي أكده ماركس في رأس المال، فإنهم لا يرفضون تأصيلاتها وفكرتها الأساسية. هم ليسوا بـ «ماركسيين»، وذلك أي أنهم لا يستخدمون أعمال الأستاذ ليرسموا تأويلات سطحية، أو اقتباسات ديكتاتورية لا يمكن التنازع حولها. إنهم يعيشون الفكر الماركسي الذي لن يموت أبدًا، والذي هو استمرار للفكر المثالي الإيطالي والألماني، والذي قد أُفسد بعد ماركس بفراغ الفلسفة الوضعية والطبيعية.
في هذا النوع من التفكير، يكون المحدد الرئيسي للتاريخ ليس الاقتصاد، بل الإنسان. المجتمعات تتكون من أفراد، لديهم شيء مشترك بينهم؛ أفراد يمكنهم أن يتعايشوا معًا، وبسبب هذه الكياسة، فإنهم قادرون على تطوير إرادة جماعية مشتركة. يفهمون المسائل الاقتصادية ويقيمونها ويضبطونها وفقًا لإرادتهم، حتي يصير القوة المحركة للاقتصاد، التي تشكل الحقائق الموضوعية والحياة والتحركات، وتنبني على مزايا قطعة معدنية ساخنة، ما يعني أنه يمكنهم أن يشكلوها بأي شكل يختارونه.
كان ماركس قادرًا على التنبؤ بكل ما يمكن التنبؤ به، لكنه، على الرغم من ذلك، لم يستطع التنبؤ بالحرب العالمية، أو وضع أفضل من ذلك، لم يستطع التنبؤ بالفترة التي ستستمر بها الحرب أو التأثيرات التي ستتركها. لم يكن قادرًا على التنبؤ بهذه الحرب. 3 سنوات من المعاناة الصامتة والبؤس الذي لا يوصف كانا كافيين لإعادة تجديد إرادة الشعب الروسي مرة ثانية. إرادة مثل هذه عادة ما تحتاج فترة طويلة من التطور لتتغلغل في المجتمع، وخط طويل من الخبرات الطبقية.
الإنسان بطيء بطبعه، لذلك، يجب أن ينظم نفسه، أولًا، خارجيًا في تشكيل الأجسام والمؤسسات، وأيضا داخليًا من حيث الفكر والإرادة اللذيْن يحتاجان مكابدةً لا تنقطع، وشحذًا من الدوافع الخارجية. لهذا كان دائمًا على النقد التاريخي الماركسي أن ينظر إلى الواقع، وأن يستوعبه دائمًا وأن يجلّي كل شيء.
عادة ما تتم صناعة التاريخ من خلال الصراع الطبقي الحاد بين طبقتين في النظام الرأسمالي، طبقة البروليتاريا الواعية تمامًا بوضعها الحالي البائس، ولذلك، فهي بسبب استمرار الفقر، تضغط على الطبقة البورجوازية لتخلق ظروفًا أفضل، وهي تحارب فارضةً على البورجوازية تحسين تقنيات الإنتاج، بحيث يمكن تلبية احتياجات البروليتاريا الأكثر إلحاحًا. إنه طريق طويل وصعب من أجل شيء أفضل، ما يساعد على تسريع وتيرة الإنتاج واستمرار زيادة كمية السلع الذي يمكن أن يكون في صالح الجميع.
كثيرون لا يستطيعون استكمال الطريق، الأمر الذي يجعل أمنيات الذين لا يزالون سائرين أكثر إلحاحًا. الجماهير في وضع دائم من الفوضى، وبسبب هذه الفوضى صارت الجماهير أكثر تنظيمًا في عملية التفكير، صارت أكثر وعيًا بقوتها، وبقدرتها على تحمل مسؤوليتها الاجتماعية، وبالتالي أضحوا هم قضاة مصائرهم.
هذا ما يحدث عادة، عندما تسير الأحداث وفق تنظيم محدد، عندما يمر التاريخ بمواقف أكثر تعقيدًا، مواقف ذات شأن ومليئة بالحكمة، لكن في الوقت نفسه، هناك تشابه كبير بين الأحداث. في روسيا، يبدو أن الحرب ساعدت في إشعال إرادة الشعب.
فبعد المعاناة التي لاقوها على مدى 3 سنوات، وجدوا أنفسهم سريعًا على قلب رجل واحد. المجاعة كانت وشيكة الحدوث. الجوع، أو الموت جوعًا، كان يمكن أن يقتل أى أحد. سحق 10 ملايين إنسان كان يتم في لحظة. الإرادات المختلفة توحدت، في شكل سطحي أولًا، لكن تحولت بعد ذلك إلى إحساس روحي ونشط بعد الثورة.
سمح التفكير الاشتراكي للشعب الروسي بأن يصل إلى خبرات العمال في البلدان الأخرى. التفكير الاشتراكي أعطى الحياة فورًا لتاريخ البروليتاريا، لنضالهم ضد الرأسمالية، الطريق الطويل من الآلام الذي كان عليهم أن يسيروا به ليحرروا أنفسهم على نحو كامل من براثن الخنوع الذي جعلهم فقراء، كما ساعدهم على تأسيس وعي جديد، وأن يكونوا دليلًا حيًا على زمن لم يأت بعد. التفكير الاشتراكي أعطى دفعة للإرادة الجماعية للشعب الروسي، لماذا عليهم أن ينتظروا ليروا تاريخ إنجلترا يتكرر أمام ناظريهم في بلادهم، أي أن تتشكل البورجوازية في روسيا، وتشعل الصراع الطبقي، وتؤسس وعيًا طبقيًا جديدً ينبئ بسقوط النظام الرأسمالي.
الشعب الروسي كان قد سار فعلًا في هذا الطريق في ذاكرته وفي عقليته أيضًا، عن طريق مجموعة أقلية، كانوا قادرين على هضم تلك التجارب. كانت هذه المجموعة هي ما يحتاجه الشعب الروسي من أجل تأسيس أنفسهم، كما كانوا يحتاجون إلى خبرات الغرب الرأسمالية، ليصلوا في فترة قصيرة من الزمن إلى قمة الإنتاج الغربي.
أمريكا الشمالية – بالمصطلحات الرأسمالية – أكثر تقدمًا من إنجلترا، لأن الأنجلوساكسون في أمريكا الشمالية بدأوا من حيث انتهت إنجلترا بعدما سارت على طريق طويل من التطور. البروليتاريا الروسية – كما تعلمت من الاشتراكية – ستبدأ تاريخها من مستوى عال من الإنتاج لم تصل إليه بلد في هذه الأيام إلا إنجلترا. نقطة البداية يمكن أن تكون شيئًا قد تأسس بالفعل في مكان آخر، ومن خلال هذا الإنجاز يمكن أن نصل إلى النضج الاقتصادي الذي رأى ماركس أنه ضروري للجماعة. الثوريون سيخلقون بأنفسهم الظروف الملائمة لتحقيق برنامجهم العادل والشامل، وسيفعلون هذا في وقت أقل مما فعلته الرأسمالية.
الانتقادات الاشتراكية للنظام البورجوازي ستظهر العيوب والتوزيع غير العادل للثروة، وسيتمكن الثوريون من أن يؤدوا بشكل أفضل وأن يتجنبوا أوجه القصور نفسها، وأن لا يسقطوا في الفخ نفسه. في البداية سيكون اجتماعًا قائمًا على البؤس والمعاناة، لكن ظروف البؤس والمعاناة تلك كانت متوارثة أصلا من النظام البورجوازي.
الرأسمالية في روسيا الآن لن تكون قادرة على فعل أي شيء أكثر من الاشتراكية. والحال أنها في اللحظة الحالية سوف تفعل أقل من ذلك بكثير، لأنها تجد نفسها تواجه بروليتاريا ساخطة ومسعورة، وغير قادرة على تحمل الوضع أكثر من ذلك، فضلًا عن الآلام والإحباطات والفقر وهي الأمور التي يسببها الاقتصاد، ومن وجهة نظر إنسانية محضة، يمكن للاشتراكية المسبقة أن تكون مناسبة لروسيا، المعاناة ستنتهي بعدما يحل السلام والتسامح الذي ستفرضه البروليتاريا مادامت تشعر بأن إرادتها سليمة، ذلك أنها من خلال نضالها ستكون قادرة على وضع نهاية لهذا عندما يمكنها ذلك.
يمكن لشخص أن يأخذ انطباعًا عن المنشقين في هذا الوقت بأنهم التعبير الطبيعي والبيولوجي الملائم لإنقاذ الشعب الروسي من السقوط في حالة فظيعة من الخراب، ولنؤكد ذلك، أن جزءًا من الشعب الروسي، المستقلين بأنفسهم الذين يبذلون جهد هائل لضمان ذلك الوضع، سيكونون قادرين على الشعور بعضة الذئب المفترس بشكل أقل، ذلك أن روسيا لن تصبح غابة كبيرة لحيوانات مفترسة يمزق بعضها بعضًا إربًا.