يسير المصريون وأصحاب الجنسيات الأخرى وسط شوارع القاهرة القديمة، يُبهرهم جمال المعمار وعتاقة الأبنية وانتظام المباني والطرق، كل تفصيلة صغيرة تستحق أن تتأملها عين المرء لساعات، إبداعٌ فوق الوصف.

يتسمرون أمام هيبة باب زويلة، الذين سمعوا عنه أساطير كثيرة، وعُلق بقمته رقبة هولاكو زعيم التتار، يقفون أمام الأضرحة والمساجد يتساءلون: من هو الرجل ذي الكرامات المدفون هنا؟ من المهندس صاحب هذا التصميم الخرافي؟ من هم المسؤولون عن عبقرية مصر في ذلك الوقت؟ كيف انتهى بهم الحال؟ والأهم، كيف نسير في شوارع ينقصنا معرفة الكثير عن تاريخها؟

في هذه الأحياء والحواري، عاش عشرات الآلاف من المصريين، شاركوا بعض الأفراح والأحزان، نفس الشارع الذي شهد حروبًا أسطورية، وتم إعدام كثير من المذنبين فيه، بالإعدام شنقًا أو بـ «الخزوقة» أو بتقسيم الجسد إلى نصفين، هو نفسه الذي شهد الاحتفالات بموسم الحج تارة، وبسلطان جديد تولى شئون البلاد تارة أخرى، وبالطبع الاحتفال بانتصارات المسلمين الكبرى في حروبهم.

هنا شيد المماليك سلطنتهم، الذي يخوض في تفاصيلها كتاب «أيام المماليك» للكاتب محمد أمير، سلطنة شهدت الكثير من المؤامرات، الصراعات الشخصية، الحروب السياسية، والإستراتيجيات في التعامل مع العدو الخارجي، والتي كانت الكلمة فيها دائمًا لصاحب القوى الأكبر، فلا مكان للضعفاء.

كيف شُيدت إمبراطورية المماليك؟ كيف قامت مجموعةٌ من العبيد البيض الذين جاءوا من الهضاب التركية بتولي قيادة جيوش مصر؟ إلى أن وصلوا في القرن الثالث عشر إلى مراكز الحكم نفسها، ثم صاروا الحكام الذين استخدموا السيف بديلًا للقانون، واستمروا على التخت «عرش السلطان» لـ 300 عام، من منتصف القرن الثالث عشر (1250م) إلى تأسيس الدولة العثمانية مطلع القرن السادس عشر (1517م)، وجعلوا القاهرة أُولى العواصم الإسلامية، ولا تزال آثار القاهرة المملوكية تشهد على عظمة عمرانهم، بل وأصبحت القاهرة المملوكية بمعالمها المعمارية المتميزة، وبتحفها الفنية في كل أرجائها تمثل قوة جذب لكل العالم من غربه إلى شرقه. وبالإضافة إلى الفنون العمرانية نمت الفنون الحرفية في كل المجالات، واشتهر الحرفيون عالميًا بفنونهم.


من «الصعلكة» إلى «التخت»

عندما امتدت الهيمنة العربية الإسلامية من بلاد السند إلى الأندلس بإسبانيا، احتاج قادة الجيوش العربية إلى أعداد كبيرة من الجنود، وقد وجدت وفرة من الجنود المرتزقة لدى قبائل آسيا الوسطى التركية.

ولما كان هؤلاء المرتزقة يُباعون منذ الطفولة جرى العرف على وصفهم بالمماليك – أي العبيد – للتفرقة بينهم وبين العبيد السود الذين حملوا تسمية «السودانيين»، فكان معلومًا أنّ المماليك من العبيد البيض.

وفي الحقبة الأخيرة من القرن السابع الميلادي تواجد آلاف من هؤلاء العبيد في البصرة، وظلت أعدادهم تتزايد ما بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي، وازدادت في نفس الوقت قوّتهم وتأثيرهم. ثم أصبح المماليك يستخدمون في قيادة الجيوش وفي إدارة المقاطعات المنضمة للخلافة الإسلامية حتى أنهم استطاعوا عام 861م خلع الخليفة العباسي واستبداله بآخر، كما استطاع المملوكي «ابن طولون» تولي حكم مصر عام 868م؛ فحكمها حكمًا مستقِلًا عن الخلافة.

من هنا يبدأ كتاب «أيام المماليك» في وصف حياة المماليك قبل الوصول للحكم، يحكي تاريخهم منذ الصعلكة حتى الوصول للعرش، حيث جمعوا بين قوة البدن والقدرة على تحمل أعباء الحرب، واكتسبوا في خلال قيادتهم للجيوش وخوض الحروب، خبرةً سياسية لا يُستهان بها، مكنتهم من السيطرة على مصر لمدة 3 قرون بعد ذلك.

يأخذنا الكتاب في رحلة تاريخية لمئات الأعوام الماضية، حين شيد المماليك إمبراطوريتهم، فلا يكتفي الكاتب بذكر وقائع تاريخية فقط، بل يحاول منذ أول سطر أن يُدخل القارئ لعالم المماليك، بحيث يشعر وأنه عاصرهم ويعيش معهم زمانهم، حتى الألقاب لم يغفلها الكتاب، فخصص فصلًا كاملًا للحديث عن المصطلحات المملوكية ومعانيها، حتى يبدأ في استخدامها في كتابه بعد ذلك.


المجتمع المصري في عهد المماليك

يُمكن للقارئ بعد مطالعة الكتاب استنتاج أن الهرم المجتمعي في عهد المماليك لم يختلف كثيرًا عن العصر الحالي، أصحاب قوى ونفوذ، ثم أصحاب مصالح، لينتهي الأمر بمجموعة من المهمشين، لم يُرزقوا لا بالسلطة ولا بالمال.

انقسم المجتمع المملوكي لعدة فئات، تفاوتت قوتها في السلطة والنفوذ، حسب درجة القرب من السلاطين، الذين كانوا يرمقون الأهالي بنظرة دونية، فمنذ طفولتهم محاطون بالأسوار العالية، لا يختلطون بأهل البلد الأصليين، وبالطبع هم أصحاب أكبر ثروة في البلاد.

هكذا جسّد الكتاب الطبقة العليا في المجتمع المملوكي، قبل أن ينحدر رويدًا رويدًا في بقية الهرم المجتمعي، الذي شُكل قوامه من المعممين، وهم من أرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء، ثم طبقة التجار، أصحاب القوى الاقتصادية في الدولة، حيث كانت مصر مركزًا للنشاط التجاري بين الشرق والغرب في عهد الدولة المملوكية، ثم الفلاحون والأعراب، المرفوضون بشدة من قِبل السلاطين، إلا أنهم جزء من نسيج المجتمع المصري لا يُمكن الاستغناء عنهم، وغيرها من الطبقات، التي صورها الكاتب بدقة شديدة.

وبرغم التفاوت الكبير الظاهر في تقسيم المجتمع المملوكي، إلا أن أوقات الفرح والانتصار كانت تعم على الكل بلا استثناء، ولنتخذ من المناسبة التالية مثالًا، فكان اليوم الذي يسير فيه «المحمل المصري» حاملًا كسوة الكعبة الجديدة إلى الحجاز عيد، فالكل قد استعد بتزيين المنازل والمحلات، واصطفت جموع الشعب على جانبي الطريق لتوديع الموكب الذي يتقدمه البيراقادرية «رجال من قصر السلطان»، وسط زغاريد النساء، بحضور حجاج من شتى بقاع الأرض، تحديدًا الأندلسيين والشمال أفريقيين الذين يجبرهم موقعهم الحغرافي على المرور على مصر في رحلة الحج، ثم التحرك مع الموكب العظيم، يشترون التمر والخمار الملون وخلافه. يتم تحميلها في صناديق معطرة بالورود بخيوط القنط والكتان المغسولة بمياه زمزم الحجازية.


الطاعون يرفع راية النهاية

السلطنة، نظام الحكم في الدولة المملوكية، في ظاهره كان قائمًا على أسس الخلافة الإسلامية الديمقراطية، لكن في حقيقته كان قائمًا على الانقلابات الدموية العسكرية. الأكثر قوة هو الأكثر جدارة بالعرش، لا بالتوريث ولا الشورى، وهو نفس المبدأ الذي اعتنقه كل السلاطين الطامعين في الحكم، دون أن يكون لـ«الخليفة» صاحب السلطة الدينية، نصيب سوى الدعاء له على المنابر، وأن يحمل لقب «أمير المؤمنين».

تلك المفاهيم السياسية، كما يصورها الكاتب، هي التي أدت إلى اعتماد سلاطين المماليك على مدار العصر على نظرية ثابتة تقوم على شقين أحدهما الشق العسكري المتمثل في الإكثار من أعداد المماليك «الجنود» وإعدادهم إعدادًا جيدًا ليكونوا عونًا للسلطان في الحرب على أعدائه خارج البلاد وفي السلم على أعدائه من الأمراء المنافسين له على «السلطة»، والشق الآخر المتمثل في الواجهة الدينية التي تؤكد شرعية هذه «السلطة» وتبرر كافة ممارسات السلطان في مواجهة تحديات وجوده السياسي، ولهذا كان سلاطين المماليك أشد حرصًا على أن يضموا أرباب الوظائف الدينية إلى قمة النظام الاجتماعي للشرائح الاجتماعية من المصريين ليكونوا لهم أزرًا في مواجهة عواصف المعارضين للسلطة على اعتبار أن هذه السلطة تستمد قوتها من شريعة هذا الدين الحنيف، إلا أن هذا لو استمر لـ 300 عام، كان لابد من أن يكون له نهاية، والطمع دائمًا يكون هو الشذرة التي توقد الحريق.

كانت أول شرارة لهذا الحريق، هي انتشار الطاعون في مصر، والذي كان حينئذ سببًا من أسباب الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحروب والصراع على الحكم في عصر المماليك، والذي خلف بسببه إهمال الاقتصاد الداخلي شيئًا فشيئًا، ما سبب جفافًا وفيضانات وآفات زراعية، كما أن التأخر الطبي وقتها كان سببًا رئيسيًا أيضًا في انتشار المرض.

في هذا الوقت، كان الأشرف قايتباي هو سلطان المماليك، ويقول الكاتب إن عصره كان آخر عصور الدولة المملوكية الزاهية. وبرغم تعامله السمح مع شعبه ورجاله، كان يعامل ابنه الوحيد، الناصر محمد أبو السعادات، معاملة قاسية، والذي استلم مقاليد الحكم من والده في فترة عصيبة، فخارج القصر كان يقطن كل طامع في الحكم وكل متصيد للأخطاء، كما يصرخ الرعايا من الموت الأسود والمجاعة التي ألمت بهم بسبب الطاعون، وازدياد الأسعار الذي لحق الناجين بالموت، في حين كان «محمد» منشغلًا وقتها بأهوائه الشخصية وقضاء أوقات فراغه، ما دفع الأمراء لمقاطعته، وبدأت دولة المماليك في سلسلة من الانقلابات، انتهت بغزو العثمانيين، بقيادة سليم الأول، لبلاد الشام ومصر.

تاريخ طويل من الصراع السياسي في الدولة المملوكية، صراع مليء بالمؤامرات، تميز بالدراما والدموية في أغلب المواقف، فمن بين نحو 55 سلطانًا انتهت عهود أكثر من 35 منهم بانقلابات، وانتهت حياة أكثر من 20 منهم بين القتل اغتيالًا أو إعدامًا أو بميتة شابها اغتيال.

تاريخٌ طويل للمماليك يرويه الكاتب محمد أمير في «أيام المماليك» بتفاصيل دقيقة، في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيقدم الكتاب دراسة تاريخية مُفصلة عن عهد المماليك ولكنه لم يتخلَ لحظة عن الأسلوب الأدبي الشيق، الذي يجعلك تنهمك مع الأحداث دون أن تشعر، وتتشوق لمعرفة كل مرحلة، منذ صعود المماليك للحكم وحتى سقوطهم، خاصةً وأن أسباب سقوط دولة المماليك لا تختلف في مجملها كثيرًا عن أسباب سقوط دول أخرى، انشغل حكامها بالصراع على السلطة، وظهرت الاختلافات الطبقية والعرقية في صفوفها، ناهيك عن خيانة أصحاب الصف الواحد لبعضهم البعض.